في الجبهة دفاعا عن القدس ..

29.04.2017 | 16:24

ملخص عن الاجزاء السابقة

قرر الصحفي مراد غريب بعدما امتلك قدرة الانتقال عبر الزمن ان يبحث في خلفية الاحداث التي تشهدها المنطقة العربية وعاد بالزمن الى نهاية الدولة العثمانية وقابل الكثير من الشخصيات التي كان لها دور كبير في رسم حاضرنا اليوم ، السلطان عبد الحميد الثاني ، وجمال باشا السفاح ، الشريف حسين وعبد الحميد الزهراوي .. واخيرا قرر ان يعود ليعيش اللحظات التي ضاعت فيها القدس ويتعرف على حقيقة كيف استولى عليها الانكليز ..

 

في الجبهة..

أمام كل هذه المعلومات المتناقضة والمواقف المتباينة، كان لا بد لي من أن أعايش الواقع، وقررت أن أكون في مركز الأحداث لمدة كافية تمكنني من كشف حقيقة ما جرى في تلك الحقبة الهامة من تاريخنا.

أكثر ما كان يثير اهتمامي ما حصل على المحور الثاني "للثورة العربية" المزعومة، محور السويس – القدس، فنحن نعرف تفاصيل ما حصل (إلى حد كبير)  في الحجاز وصولاً إلى العقبة ومن ثم إلى دمشق، ولكن للمعركة وجه آخر، ومحور هام، هو المحور الرئيس الذي مكّن "العرب" (من خلفهم الانكليز)  من دخول دمشق والوصول إلى حلب .. فلولا القوات الإنكليزية التي احتلت القدس وانطلقت باتجاه دمشق على التوازي مع حملة "الشريف حسين" لما "تحررت" بلاد الشام من الأتراك..!

قمت بإعداد التطبيق لينقلني مرة أخرى إلى دمشق حيث كنت على موعد مع ضابط عربي في الجيش التركي يدعى "فوزي".

وفي فجر اليوم  الأول من أيلول عام 1917 عدت مرة أخرى إلى ساحة المرجة وتعرفت عن طريق فوري إلى الرجل، وكان يجلس في مقهى قريب من مكان وصولي، صافحني بحرارة وقال لي: يجب أن نسرع لنلحق القطار.. سنتحدث في الطريق أثناء الرحلة..

عرجت إلى مكتب "محمد كرد علي" وأوصيت شاباً هناك بأن يحفظ لي حقيبة صغيرة فيها "التاب" وبعض الأغراض الخاصة، وتوجهنا بعدها إلى محطة الحجاز وهي على مسافة قريبة من ساحة المرجة.

في هذا التاريخ كان بناء المحطة هو البناء الوحيد تقريباً في المنطقة، ويقع في جنوب شارع "جمال باشا" (النصر حالياً)، واجهته الشمالية حجرية عريضة، يتوسطها ثلاثة أبواب ضخمة، هي المدخل الرئيس للمحطة. في الطابق الأرضي جناحان مستطيلا الشكل، تم بناؤهما على الطراز العثماني، ويوجد في كل جناح خمس نوافذ. أما الطابق العلوي فيختلف من حيث تصميم النوافذ وعددها، فهي ثمانية نوافذ. يعلو سطح واجهة المبنى شكل هرمي تبدو عليه لمسات إغريقيةـ وتتوسط الشكل ساعة طنانة.

أمام المحطة يوجد عمود تزييني كبير يتوسط "ساحة الحجاز"، بارتفاع نصف متر، مزين بزخارف هندسية ويضم أربعة مناهل للمياه مخصصة للشرب.

انطلق بنا القطار فوق الخط "الحديدي الحجازي"، الذي يصل المدينة المنورة، والذي مُدَّ في نهاية القرن التاسع عشر -  بداية القرن العشرين بين المدينتين (دمشق – المدينة المنورة) ليسهل الطريق على الحجاج إلى بيت الله الحرام. كان قطع الطريق على ظهر الدواب يستغرق أكثر من 40 يوماً كاملة اُختصرت بالقطار لأقل من يومين.

كان مضيفي هذه المرة رجلاً بهي الطلعة، وسيماً حليق الشعر والذقن، جبهته عريضة، وعيناه كبيرتان ناعستان، وفيهما بريق، وأنفه دقيق مستقيم، فمه واسع، وشفتاه ممتلئتان، وفكه عريض. تجتمع هذه التفاصيل لتعطيه مظهراً رجولياً بشوشاً.

فهمت منه أثناء الرحلة أنه ضابط عربي في الجيش العثماني، قدم مع بداية الحرب "العظمى" من العراق عن طريق "رأس العين" ـ حلب، ومن ثم توجه إلى دمشق، وانتقل منها إلى جبهة القتال في غزة - بئر السبع بفلسطين.

توقف القطار في محطة قرب مدينة "درعا"، وكان علينا الانتقال إلى قطار آخر يتجه باتجاه نابلس، وبعد انتظار أكثر من ساعة، صعدنا إلى القطار الذي كان قطاراً عسكرياً يضم عربات عدة لنقل الجنود.

كانت العربة التي ركبنا فيها عربة من "الدرجة الثانية"، مصنوعة كلياً من الخشب، وفيها 18 مقعداً ثنائياً مغطى بالإسفنج والقماش، وفوق كل زوج من المقاعد المتقابلة رف مقعر على شكل ربع دائرة، مرفوعاً على وتدين (يأخذ شكل القنطرة المقلوبة) لوضع الأمتعة عليه.

وفي سقف العربة، ثبت فوق كل مقعد ثنائي مصباح أقرب للممر. ولفت نظري وجود "منفضة" سجائر على طرف كل مسند مقعد، وتذكرت بأن التدخين داخل العربة أمر عادي ومسموح في ذاك الزمن.

وعلى جانبي العربة وجدت نوافذ كبيرة، قابلة للفتح، صممت أيضاً بشكل ثنائي، وتحتل النافذة نصف المسافة تقريباً من السقف إلى الأرضية، وتُفتح من خلال حزام قماشي يُربط  في أعلى الجزء الزجاجي المتحرك، ويُسحب إلى الأسفل.

انطلق القطار باتجاه الجنوب الغربي إلى فلسطين، ومررنا بمناطق وبلدات ما يعرف اليوم بالأردن، وأخبرني "فوزي" بعد مرور أكثر ساعتين على الانطلاق، بأننا أصبحنا في الأراضي الفلسطينية، وأن محطتنا الرئيسة التالية ستكون في بلدة اسمها "العفولة".

اعتراني شعور غريب، ورحت أفكر في هذا الطريق (الخط الحديدي الحجازي) الذي يمتد من اسطنبول إلى المدينة المنورة، ويتفرع منه طريق إلى القدس، مشروع عملاق يمتد مئات الكيلومترات في أراض وعرة وصحرواية يربط أجزاء مهمة من الدولة العثمانية بعضها ببعض.

الأهم، أنه لا يوجد حواجز أو حدود، ولا نقاط تفتيش و"جوازات سفر"، كان بالإمكان في ذاك الوقت، أن ينتقل أي من مواطني الدولة، من عدن في الجنوب إلى قلب أوروبا بدون "إذن سفر"، فكرت بأنني حقاً هنا في "بلد واحد"، بالفعل لا بالشعارات..

والآن، مع دخولي فلسطين، كان الأمر أشبه بالحلم، اليوم دخول العرب إلى فلسطين أمر شبه مستحيل، وإن حصل فإنه يعتبر جريمة، والأكثر من هذا، أصبحت الأراضي "العربية"، بشكل أو بآخر محرمة علينا، وأصبح على المواطن أن يحصل على موافقات و"إذن سفر" ويستخرج جوازاً.. ليمر من منطقة "عربية" إلى أخرى.. لا، بل أصبح التنقل بين "الدول العربية" أشبه بالمستحيل علينا اليوم نحن السوريون، وحتى السفر إلى الأردن.. الذي لا يبعد عن دمشق إلا بضعة  كيلومترات، صار شبه مستحيل.

توقف القطار أكثر من ساعة في "العفولة"، ولحظت أنه تم إضافة عربات، محملة بالذخائر، كبيرة الحجم للقطار، وبشكل عام كانت مظاهر "العسكرة" طاغية على المظاهر المدنية في ذاك الوقت، وأينما حولت نظري أرى الجنود والعساكر والأسلحة والإمدادات..

وصلنا نابلس، وانطلقنا منها إلى مخيم في جبهة بئر السبع على عربة تجرها الخيول، ومن حسن حظي أني حظت بغرفة خشبية ملحقة بمستودع للطعام لإقامتي، فيما معظم الجنود والضباط في المنطقة يقيمون في الخيام أو ينامون في العراء ملتحفين أغطيتهم الصوفية.

لم يكن في المكان إلا لوازم الحياة الأساسية، وكنت أيضاً محظوظاً لحصولي على سرير وعدد كاف من الأغطية وطاولة وكرسي، وفي الغرفة موقد صغير على الحطب فوقه بعض الأواني، كما يوجد على رف خشبي متآكل كميات قليلة من الرز والبرغل والعدس، بالإضافة إلى الشاي والسكر.

كان الطعام دائماً يعتمد على الخبز في الصباح وبعض الجنبة والبيض الذي يأتي من القرى والبلدات المحيطة، ويقتصر في وجبة الغداء على رز أو برغل وبجانبه بعض الخضار المطبوخة، قُطفت من المزارع المخصصة لطعام "الجيش"، والتي أُقيمت بالقرب من المكان.

ويتناول الجنود الطعام عادة في الخارج، فيتجمعون عند كل وجبة في دوائر متقاربة، كل دائرة تضم بين 10 إلى 12 شخصاً، كلٌ منهم يحمل طعامه في طبقه الخاص، وتكون هذه فرصة للراحة وتبادل الأحاديث.

مرت الأيام الأولى عادية، قطع رتابتها بعض حوادث إطلاق النار المتبادل بالمدفعية بين الطرفين، دون أن تقترب قذائف الإنكليز كثيراً من مكان وجودي.

كان الجندي العثماني عموماً، يلبس سروالاً متسعاً من ناحية الخصر، ضيقاً عند القدمين، وفوقه سترة طويلة بأزرار تنسدل فوق السروال، وتنكمش عند الخصر، ويضع فوقها الجنود حزاماً يحمل رصاص بنادقهم.

وينتعل العسكر حذاءً جلدياً طويل الساق، يصل إلى الركبة إلا قليلاً، ويعتمر قبعة تشبه "الطربوش"، مصنوعة من الفرو أو الكتان، وبعض الجنود يلفون على رؤوسهم ما يشبه العمامة، مصنوعة من قماش سميك.

ولحظت من خلال مراقبتي لجموع الجنود الذين يصلون إلى المكان، بأن قطاعات المشاة تسير في قوافل منتشرة على مسافات طويلة، تمتد أحياناً 5 كلم، وتتألف من مزيج من البشر والجِمال والأحصنة والحمير، وعربات تجرها الثيران، ممتلئة بكل شيء لزوم استمرار المعارك، من حطب وماء وطعام، إلى الأسلحة والمستلزمات الطبية.

ويمكن تمييز كثير من الجنود، يحملون أثقالاً كبيرة على ظهورهم، ويلفون غطاءً مصنوعاً من الصوف (بطانية) من الكتف إلى الخاصرة بشكل مائل، يستخدمونه لاتقاء البرد عند النوم في العراء.

 في حالات كثيرة لم يكن الأمر مثالياً، وقد كنت أشاهد جنوداً يلبسون ثياباً رثة، وبعضهم لا يلبس الحذاء العسكري طويل الساق، وعوضاً عنه ينعتل حذاءً عادياً مهترئاً.. كما أنه في أيام البرد القارصة، ليس كل الجنود لديهم المعاطف السميكة العسكرية المصنوعة من الصوف، كان من الواضح بأن الجيش يعاني نقصاً في مثل هذه المستلزمات.

وبعد مرور أكثر من 20 يوماً على إقامتي، توطدت علاقتي بـ"فوزي"، وبدأنا نتكلم في الأمور السياسية، وقد بدا أكثر انفتاحاً وارتياحاً في الحديث معي عندما علم بأني "عربي".

وعموماً لم يكن في أفراد الفرقة التي أقمت بينهم كثير من العرب، وكان معظم الجنود من الترك وبعض الجنود الألمان، خاصة في مواقع القيادة.

وعندما سألت فوزي عن سبب هذا قال لي:

"ماذا تعتقد..؟ هذا أمر طبيعي، فقد بات الأتراك "يستحقرون" الضباط العرب بعد أن ترك العديد منهم الجيش العثماني ليلتحق بأعدائنا الانكليز، والحقيقة لا أستطيع لومهم في هذا، لقد أدت هذه الأفعال إلى نفور الأتراك منا، وفقدان الثقة بين الطرفين خلال العامين الماضيين".

سألت: هذا ينطبق على ثورة الشريف حسين..؟ هل يمكنني أن أسأل لماذا لم تنضم لهذه الثورة؟

أجابني: "الحقيقة أخبار هذه الثورة لم تشجعني.. لقد علمت بأن الأسطول الإنكليزي هو الذي أسقط ثغر جدة بقنابله، كما أن قلعة الطائف أُسقطت بمدافع إنكليزية أُرسلت إلى الأمير عبد الله. وأن جنوداً إنكليز وفرنسيين قد أُنزلوا في ثغور "رابع" و"ينبغ" و"الوجه".. وغيرها من سواحل الحجاز، والأسطول الإنكليزي هو الذي يحمي هذه السواحل. ضباط وقادة فرنسيون، يقودون المعارك والطائرات الإنكليزية هي التي تستطلع وتقصف..".

صمت قليلاً، وتابع:

"وصلتني معلومات مؤكدة بأن ضباطاً إنكليز يقومون بمهمة المستشار العسكري، وأن الإنكليز يقدمون الأموال الطائلة، ويفرضون آراءهم في توجيه القتال بحسب ما تتطلبه مصلحة الجيش الإنكليزي الذي يحاربنا هنا في فلسطين، لا حسبما تتطلبه مصلحة العرب، وهكذا على سبيل المثال يقدم الإنكليز للعرب الأسلحة والعتاد بما يكاد يكفي لمعركة موضعية واحدة، وليس ليربحوا الحرب ويصبحوا جيشاً قوياً منظماً..

أقول لك رأيي بصراحة: هذا الجيش الذي يحارب هناك لا يختلف عن جيوش المستعمرات الإنكليزية التي يجلبها الإنكليز لتحاربنا هنا..".

قلت له: ألهذا لم تنضم إلى جيش الشريف..؟

قال: "اسمعني جيداً.. أنا أكره الأتراك.. ولكني سألت نفسي وقارنت بين انتصار الترك والإنكليز في هذه الحرب، صحيح أن لدي مخاوف بأن يقضي الأتراك على الأشراف في الجزيرة، فيما إذا انتصروا، ثم يؤسسوا لأنفسهم إدارة جديدة، وهذا سيخرج الأماكن المقدسة نهائياً من أيدي العرب.."

قلت:  وإذاً..؟

تابع: "ولكني فكرت أيضاً ماذا لو انتصر الإنكليز.. هل بإمكان العرب الحيلولة دون مطامعهم في العراق وفلسطين، ومطامع الفرنسيين في سوريا؟، هل يجب علينا أن نخطط مستقبلنا بناءً على وعود الإنكليز ومكرهم وخداعهم..؟

هذه المخاوف والاعتبارات جعلتني أرجح البقاء في صفوف الترك، وأنا مؤمن بأن هذا أهون شراً، وأعتقد رغم كل شيء أنه إذا أُتيح للترك الانتصار فمن السهل على العرب استراجاع شيء من حقوقهم، وهم لديهم ضباطهم وجنودهم المسلحون، ولديهم مفكروهم، ويمكن تحقيق غايتنا.. التي أعتبر الوصول إليها عند الترك أسهل، مع ما لدينا من الوسائل، بعكس ذلك مع أعدائنا الإنكليز والفرنسيين..".

أخذ النشاط الحربي يزداد يوماً بعد يوم، وشاع في الأوساط أن هجوماً إنكليزياً كبيراً على وشك أن يبدأ، خاصة وأن القائد العام في الجبهة الإنكليزية قد اُستبدل بعد فشل القائد الأول في ما عُرف باسم معركة "غزة الثانية".

القائد الجديد كان له شهرة واسعة، وهو معروف بالنسبة لي بطبيعة الحال، ومن لا يعرف "الجنرال اللينبي"؟

باتت فرق "خيالة" الإنكليز على مرمى نظرنا، وقد اصطحبني "فوزي" أكثر من مرة في جولات استطلاع قريبة لا تتجاوز مئات الأمتار، فيما كان يقوم على الدوام باستطلاعات خطرة في عمق الأراضي التي يتواجد فيها  "العدو".

ويبدو أن الإنكليز قد أتموا استعدادهم، كما فهمت من "فوزي"، ومن بعض الأحاديث التي كانت تدور بين الجنود والضباط، وكان القرار في الجيش العثماني هو التصدي للهجوم ومنع الجيش الإنكليزي من اختراق جبهة غزة ـ بئر السبع بأي ثمن.

في صباح 31 تشرين الأول شهد مكان إقامتي، الذي بات على بعد بضع مئات الأمتار من الجبهة الأمامية للجيش العثماني في بئر السبع، هجوماً عنيفاً من قبل الجيش الإنكليزي. وكما فهمت فإن هذا الهجوم كان مفاجئاً وغير متوقع، فكل تحركات الإنكليز كانت تدل على أن الهجوم سيكون على غزة (القريبة من البحر)، وليس على بئر السبع.

وبعد ساعتين تقريباً، أرسل "فوزي" اثنين من عناصر الجيش إلي، طلبوا مني إخلاء المبنى ومرافقتهم، حيث تراجعنا إلى منطقة مرتفعة تقع شمال بئر السبع.

وحين حل المساء بدأت أشاهد جموع العناصر المنسحبة من الجبهة، ومعظمهم أُصيب بجراح، فيما علمت في مساء ذاك اليوم، بأن خنادق الجيش التي بقيت وراءنا كانت ملآى بجثث "الشهداء".

أعاد الجيش العثماني التموضع في تلال بئر السبع، ولكن كان من الواضح بأن الخسائر كبيرة، وسادت الفوضى إلى حد كبير في الجبهة الجديدة المتشكلّة.

وشهدت الفترة بين بداية تشرين الثاني إلى 7 كانون الأول معارك عنيفة بين الجيش العثماني، الذي خصص فيلقاً كاملاً للدفاع عن القدس، وبين قوات "اللنبي" التي أرادت الاستيلاء على المدينة قبل أعياد رأس السنة الميلادية.

وهذه الأيام التي عشتها وأنا أنتقل مع عناصر الجيش من خط دفاع لآخر أمام تقدم الإنكليز تُؤلف فيها كتب وروايات، تتضمن تفاصيل دقيقة وهامة، يجب أن تقرأها وتعرف عنها الأجيال التي تعيش اليوم.

ويمكن أن أقول باختصار بأن الجيش العثماني لم يسلّم المدينة بسهولة، فقد شهدتُ دفاعاً مستميتاً وتضحيات كبيرة قدمها عناصر هذا الجيش من الترك والعرب (على قلتهم) ليمنعوا استيلاء الإنكليز على "بيت المقدس". وبامكاني تأكيد أن دفاع هؤلاء عن القدس كان دفاعاً "عقائديا" ثابتاً، فرغم تفوق الإنكليز في العدد والعدة والعتاد فقد استغرق وصولهم للقدس عامين كاملين، لاقى الانكليز خلالهما مقاومة كبيرة وجبارة من الجيش العثماني، الذي لأضعف قوته الجناح الثاني للجيش "العربي" الذي فتح معركة في خط الحجاز – العقبة، بقيادة "الشريف حسين"!

طبعاً هذا ليس كلامي فقط، ولكن كان هذا رائج في أوساط فرقة الجيش التي كنت فيها، وحاربتْ الإنكليز في فلسطين حتى النهاية.

وبحسب التحليلات التي سمعتها من "فوزي" ومن بعض العناصر والجنود، فإن الحجاز التي كان يعول عليها العثمانيون للحصول على الدعم بالرجال والعتاد لاستعادة مصر من الانكليز، تحولت إلى خط استنزاف طويل لقوة الجيش، بعد أن أُعلنت "الثورة العربية" فيه، وتحالف العرب هناك مع الإنكليز ضد العثمانيين، وهكذا لم يخسر الجيش دعم الحجاز له فقط ، وإنما شتت قوته على جبهتين طويلتين، كان النصر فيهما شبه مستحيل.

كانت المعركة الأخيرة هي معركة قرية "النبي صموئيل" التي شهدت عمليات كر وفر بين العثمانيين والإنكليز على مدى أيام، وقد أصرّ الانكليز على الاستيلاء عليها رغم تكبدهم الكثير من الخسائر لأنها كانت، كما فهمت، مفتاح مدينة القدس.

وبالفعل تمت السيطرة عليها في 7 كانون الأول 1917، ودخل الإنكليز إلى القدس في اليوم التالي 8 كانون الأول 1917.

ورغم أن عناصر الجيش الذين رافقتهم كل تلك الرحلة على مدى أكثر من ثلاثة شهور كانوا متعبين، ومعظمهم مصاب ويعاني من نقص في كل شيء، من الطعام إلى الأسلحة، إلا أن السائد بعد خسارة القدس كان جواً من الحزن والقنوط والحسرة.

أعاد الجيش التركي التموضع في جبهة (السلط – نابلس – طول كرم)، وكنت قد خرجت مع "فوزي" من المدينة في آخر قطار عثماني غادرها مساء الثامن من كانون الأول.

كان القطار يتجه مسرعاً إلى نابلس، وهو قطار شحن ليس فيه إلا عربة واحدة، كنت فيها مع فوزي وعدد قليل من الضباط، معظمهم ألمان.

لحظت منذ البداية بأن القطار يسير بسرعة كبيرة وهو يهتز بعنف، خاصة في المنحنيات، وعندما سألت "فوزي" دعاني ألا أقلق، لأن الأمر عادي وأن بعض أعمال الإصلاح والصيانة تجري من وقت إلى آخر ما يتسبب ببعض أضرار مؤقتة في السكة.

وبعد حديثي معه بحوالي نصف ساعة، كان القطار لا يزال يهتز بعنف، ولحظت بأن الطمأنينة التي كانت على وجه "فوزي" تحولت رويداً رويداً إلى قلق.

نهض من مقعده وتقدم باتجاه الباب الأمامي في مقدمة العربة وفتحه وأخرج رأسه خارجه يحاول استطلاع الطريق، وكنت أنا قد تبعته من فوري أحاول أن أتبين ما يجري..

ولم أكد أصل إليه حتى سمعته يصرخ.. وفجأة رمى نفسه خارج القطار فلم أجد نفسي دون أن أفكر إلا وأنا أقفز أيضاً في الهواء، فيما لمحت أن القطار قد خرج عن السكة، وبدأت عرباته بالانقلاب.. سقطت على وجهي الذي انغمس في التراب وفقدت الوعي.

فتحت عينيي بصعوبة، لأجد نفسي في صالة كبيرة، ومثلي يوجد عشرات على فرش مصفوفة على الأرض فوقها أغطية صوفية، ممتلئة عن آخرها، يتلقى بعض الجرحى العلاج فيها من قبل بعض الممرضين أو ربما الأطباء، أما البقية فقد كانوا  بين غائب عن الوعي، أو نائم يئنُّ من الألم..

أُصبت ببعض الكسور في أضلعي ويدي اليمنى، وحسب ما قال لي أحد الأطباء الذي يتكلم العربية فإني عانيت من ارتجاج في الرأس ودخلت في غيبوبة لأربعة أيام، وقال بأني بحاجة للراحة لفترة أسبوع على الأقل حتى أستطيع المغادرة.

كان البرد في الأيام التي قضيتها في هذه المشفى "الميداني" قارصاً، ولم يكن هناك وسائل تدفئة إلا وعاءً من المعدن "طنجرة" يوضع فيها الجمر بين الحين والآخر.

وقد كان يشرف على علاجي، كما باقي المرضى والجرحى، أطباء عسكريون وممرضات وممرضون. معظم الأطباء من الضباط، يرتدون ثيابهم العسكرية، أما كادر التمريض، فترتدي النساء منهم ثوباً أبيض طويلاً، وبينما يلبس الرجال رداءً أبيض فوق ألبستهم، وكلهم يضعون غطاءً على الرأس يشبه المنديل.

دخول وخروج المصابين كانت مستمراً طيلة أيام وجودي، وكان الكثير من نزلاء "الصالة" التي أنا فيها يقضون حتفهم بعد ليلة أنين طويلة، ومعظم الذين يخرجون على قيد الحياة، لا يكونون قد تماثلوا للشفاء بشكل كامل.

مضت الأيام الخمس الأولى وأنا شبه نائم، وأعتقد أني كنت تحت تأثير نوع من المخدر طيلة الوقت، حيث كانت تمر علي كل بضع ساعات واحدة من الممرضات، وتعطيني مجموعة من الحبوب لأبتلعها.

وفي اليومين الأخيرين أصبحت قادراً على النهوض والسير، وأحياناً كنت أقف بباب البناء الذي اكتشفت أنه جزء من مشفى "بيطري" جهزت أحد صالاته لاستقبال العدد الفائض من الجرحى بقرب الجبهة بعدما غصت المشافي في المدن والبلدات بنزلائها، جراء المعارك العنيفة التي كانت دائرة.

وكنت أشهد خلال مراقبتي لسير الأمور كيف تتم عمليات نقل الجرحى على عربات تجرها الحمير غالباً، أو نقالات من خشب لها أرجل قصيرة يحملها اثنان من الجنود.

وفي الساحة الترابية التي يطل عليها البناء، توقفت آلة ضخمة تشبه البرميل مثبتة على عجلات كبيرة، فهمت بأنها عبارة عن "حاضنة" تعمل بالبخار، يتم تعقيم الألبسة والأغطية وباقي المستلزمات فيها قبل الاستخدام.

وعلى بعد بعض عشرات من الأمتار منا كانت توجد العديد من الأبنية التي تشكل الجسم الأساس للمشفى البيطري، حيث أن "الحيوان" في ذاك الزمن يكتسب أهمية استثنائية، لأنه الوسيلة الوحيدة للتنقل ونقل الإمدادات بين العمق وخطوط الجبهات الأمامية.

أخبرني الطبيب الذي يشرف على علاجي، وهو تركي يتكلم العربية بطلاقة كما ذكرت، بأن "فوزي" جاء معي إلى المشفى وكان مصاباً بجروح طفيفة، وغادر في ذات الليلة للالتحاق بالجبهة التي "تعاني من نقص العناصر والعتاد"..

لم يعطني فوزي على الإطلاق الشعور، وهو الضابط العربي،  بأنه يحارب كـ"مرتزق" موظف من قبل الأتراك، لقد شهدت له الكثير من الأعمال البطولية، ولحظت الاحترام والتقدير الذي يكنه له الضباط الأتراك والألمان، لقد كان فوزي بالفعل يخوض معركته الخاصة وكله ايمان بأنه يدافع عن أرضه ضد المعتدي الإنكليزي.

لم يكن هناك أي طريقة لأستطيع التواصل معه فيها، ولا حتى زيارته، ولو فكرت في ذلك، لقد اختفى هناك في الخطوط الأولى للمواجهات.. وكنت آمل أن يزورني في آخر أيام إقامتي في المشفى قبل أن أتجه بالقطار مرة أخرى إلى دمشق.

نضال معلوف 
www.facebook.com/nedal.malouf

لمتابعة باقي الاجزاء