الشريف حسين ، ملكا في المنفى

تفاصيل لقاء مثير جمع الصحفي مراد غريب بالشريف حسين في منفاه في قبرص عام 1928 ، كشف اللقاء عن حقائق دفينة ووقائع هامة .. تابع معنا

ملخص

يهتدي الصحفي مراد غريب لطريقة لينتقل للزمن الماضي ، ويختار بان يستخدم هذه الهبة لكي يقابل شخصيات هامة من التاريخ كان لها دورا اساسيا في رسم معالم المنطقة ، يختار ان يكون جمال باشا اول من يلتقيه ، وبناءا على كثير من الحقائق الصادمة التي علمها منه قرر ان يلتقي بالشريف حسين ، في زيارته التالية : 

 

 

رغم أن التعب قد نال مني،  لم أنم جيداً في تلك الليلة التي عدت فيها من رحلتي للقاء جمال باشا، وما زلت غير مصدّق لما جرى، والأيام التي قضيتها في دمشق وحواري مع السّفاح والحديث إلى محمد كرد علي.  معالم الشام في تلك الحقبة، المعالم التي كنت أقرأ عنها أو أشاهد بعضاً منها في صور نادرة قديمة.  مرّت الرحلة كالحلم، كقصة خيالية ما زلت أنا نفسي بين مصدّق ومشكّك فيها.

في ذات الوقت، لا أنكر بأن ما حصلت عليه من معلومات من جمال باشا والإيضاحات من محمد كرد علي، تسببت لي بكثير من الإرباك، بل أكثر من ذلك، تملّكني  شعور غريب أقرب ما يكون للقنوط والحزن.

كانت حجة جمال باشا قوية، رجل قام بمحاكمة مواطنين يحملون الجنسية العثمانية، تآمروا على بلدهم وتواصلوا مع أعداء الدولة في حالة حرب كبرى، وعملوا على اقتطاع أجزاء من هذه الدولة بمساعدة هؤلاء الاعداء.. ماذا كان ليفعل أي واحد منّا لو كان مكانه...؟!

ولم أنم تلك الليلة قبل أن أتخذ قراراً بتسجيل طلب عبر التطبيق ليؤمن لي لقاءً مع الشريف حسين، هو الآخر عليه أن يجيب على كثير من الأسئلة التي برزت خلال  لقائي مع جمال باشا.

 

التحضير للّقاء الثاني

 

هذه المرة، وبعد أن أدخلت كل المعلومات اللازمة ، أبقى التطبيق قضيتي الزمان والمكان معلقتين، وظهرت لي رسالة بأنه سيكون علي أن أختار بين عدة بدائل متوفرة يُظهرها لي التطبيق خلال  48 ساعة.

وبالفعل بعد انقضاء يوم كامل تقريبا، أرسل لي التطبيق خيارين.

الحجاز - 10 تشرين الاول عام 1916.

قبرص - 22 تشرين الثاني - 1928.

عجباً !

بداية ثورة الشريف ...أو نهايته في المنفى في قبرص ...ماذا علي أن اختار...؟!

 

لقاء الشريف حسين  -  22 تشرين الثاني 1928

بعد أن وضعت يدي على شاشة التطبيق عند ظهور الكف المشع، وجدت نفسي في ميناء بحري وأمامي شاب في مقتبل العمر ومعه مرافقين اثنين.

رحب بي وعرّف عن نفسه بأنه الأمير طلال حفيد الشريف حسين!

بعد كلمات الترحيب المتبادلة، دعاني الأمير طلال للصعود إلى متن السفينة التي كانت ترفع العلم الانكليزي وكُتب على مقدمتها بأحرف كبيرة "برايوني"، وتوجهنا من فورنا إلى حجرة خاصة فسيحة فخمة مؤثثة من خشب الصندل، فهمت فيما بعد بأنها حجرة القبطان ذاته وبأن هذه السفينة هي سفينة ملكية إنكليزية.

استغرقت الرحلة يوماً كاملاً  حتى وصلنا إلى ميناء لارنكا ظهيرة يوم 23 تشرين الثاني 1928، وعلمت  أثناء الرحلة بأن الامير طلال (حفيد الحسين)  كان قد عيّن مرافقاً لحاكم قبرص الانكليزي "لاكتساب الخبرة".

بعد أن رست السفينة، نزلنا، وكان في استقبالنا بعض الرسميين الانكليز، حيث واصلنا الرحلة بالسيارات إلى نيقوسيا عاصمة الجزيرة مكان إقامة الشريف حسين.

استغرقت الرحلة أقل من ساعة، وكانت الطريق معبدة، وبدت لي نيقوسيا بلدة متسعة منتظمة، تنتشر أبنيتها أفقياً، ومعظمها تتألف من طابق أو طابقين.

عند وصولنا إلى منزل الشريف، قابلنا أحد الخدم وأشار إلينا للدخول إلى قاعة "الاستراحة".

فوجئت بمدى تواضع المنزل، ويتألف من دارتين متوسطتي المساحة وإلى جانبهما بضع أبنية صغيرة، في إحدى الدارتين، تلك التي دخلنا إليها، فيها مكتب صغير وغرفة استقبال سمعتهم يطلقون عليه اسم "ديوان خانة".

 لم أنتظر كثيراً حتى أعلن أحد الحراس الذي يقف أمام الباب قدوم الملك.

دخل المكتب الصغير يصحبه نجله الأمير زيد وشخص آخر علمت بأنه يدعى الملّا سعيد وهو مستشاره الخاص.

كانت "الديوان خانة" (غرفة الاستقبال) مستطيلة، كبيرة نسبياً، أنيقة بسيطة، فيها مقاعد  (جلسات) واطئة مغطاة بالبسط والسجاجيد، لون جدرانها أبيض وفيها نوافذ ضيقة، عليها ستائر مخملية بنية سميكة مفتوحة.

السقف عال نسبياً، وفي وسطه ثريا خشبية متدلية إلى وسط الغرفة فوق طاولة مستديرة متسعة أرجلها قصيرة ، وفي صدر الغرفة مصطبة مغطاة بالسجاد وعليها مقعد عريض جعله وجود المصطبة في مستوى أعلى قليلا من باقي المقاعد الموجودة في الغرفة.

جلس كل منا على مقعد بعد أن أشار الملك علينا بذلك، وكان قد جلس في مقعده على المصطبة.

كان الحسين يلبس عقالاً أبيض أعتقد بأنه مصنوع من الحرير، وكوفية بيضاء أيضا،  وجهه عريض وعيناه غائرتان قليلاً مائلتان من الطرف الوحشي وفيهما بريق، حدقتاه صغيرتان وحاجباه عريضان مائلان مثل عينيه، وما زال لونهما يميل إلى السواد على عكس لحيته الكثيفة المدببة التي كانت بيضاء كالثلج.

وبعد أن رحب بي بكلمات موجزة وأوضح لي بأن الأمير طلال أوصى بي و أخبره بأني صحفي أجري لقاءات صحفية بهدف نشرها في المستقبل وأن الفكرة راقت له، أشار لي أن أبدأ.

وبعد أن أبديت له سعادتي بفرصة لقائه وشكرته على حسن استقباله وتخصيص جزءا من وقته لي، قلت له :

[ اسمحوا لي، سموكم، أن أكون مباشراً وصريحاً، فلست سوى ناقلاً للأمانة للأجيال التي ستقرأ عنا بينما نحن نقابل وجه رب كريم أعطاكم طول العمر. اليوم وبعد هذا الزلزال الذي حصل في المنطقة وقلب الأمور رأساً على عقب يحقّ لنا أن نسأل ونحاول أن نستحصل على الإجابات من أحد أبرز الشخصيات التي كانت وراء هذا التغيير الكبير، وراء من قام بالثورة، الثورة العربية، فأرجوأن يتسع صدركم لكل الأسئلة التي أحملها ويتوجب علي أن أطرحها في هذا اللقاء.]

 

قبل اللقاء كنت أفكر بأنه من الصعب أن تقرأ ردود الفعل في وجه الملوك، فالملك لا يتأثر كما يتأثر العامة ولا يتفاعل معك، فعملية التفاعل هذه تكون للأنداد، أما في حضرة الملوك لا يوجد مساواة ، هناك خط وهمي رفيع يجب ألا نتجاوزه لأن تجاوزه ينقلك من المسموح إلى الممنوع، من الفرصة إلى اللافرصة.

ولكن هذا الملك يبدو مختلفاً، وإذا تجاوزنا موضوع تواضع المكان، فإني وجدت في ملامح هذا الشيخ الوقور كثيراً من الود، نظراته لم تكن قاسية، على العكس بدت لي حائرة تائهة، ويمكن أن تدرك من فورك في قسماته بأنه إنسان طيّب ولكن يتصنّع القسوة، ربما موقعه يحتّم عليه أن يتصرف وفق نمط محدّد.  شعرت بأنه من داخله يريد أن يأخذ خطوات إضافية باتجاهي ويلقي مزيداً من كلمات الترحيب ولكن هناك ما منعه من ذلك.  كان حذراً في بداية اللقاء.

نظر إلي بشكل مباشر وارتسمت على وجهه ابتسامة تبعث على الارتياح وأشار بيده وقال:

"تفضل على الرحب والسعة".

[لقد رفعت الثورة العربية شعار الوحدة والاستقلال، فلم تتحقق الوحدة ولا تحقق الاستقلال، وتحولت بلدان المنطقة الى أراض مستباحة ومحتلة من قبل الدول الغربية، حلفائكم، وكان من نتائج الثورة أيضا أن خسرتم سموكم الإمارة التي حكمها جدادكم لسبعمائة عام، الحجاز.؟]

 

وكأني رأيت الأمير زيد يهم ليردّ على هذا الكلام وفي عينيه دهشة وإنزعاج،  ولكن نظرة حادة من الشريف حسين ردّته وثبتته في مكانه وساد الصمت. والآن، ينظر الملك الذي عُرف باسم "المنقذ الأكبر" "الفاروق الثاني" إلي مباشرة، فيما أنا أنظر إليه وعلى وجهي ابتسامة تخفي توتري، تصنّعتها بصعوبة.

" بسم الله الرحمن الرحيم أحمده وأصلي على نبيه الكريم، وأسأله التيسير والهدى والرحمة والغفران.

ما زال هدفنا هو هو، وما زالت المعركة قائمة، والمعارك كرّاً وفرّاً، وتحقيق مثل هذا الحلم الكبير قد يستلزم بعض الوقت.  صحيح أنه خاب أملنا بالإنكليز ولم تفِ الدول الحليفة لنا بوعودها ولكن مصير العرب ليس معلّقاً بيد أحد، ستنتصر إرادة العرب في النهاية وسيكون ما نريد".

تكلم بصوت واضح ونطق سليم ونبرة واثقة، على مهل انسابت الكلمات في جوابه غير مستعجلة وبدا لي بأنه كان يعطي حتى لكل حرف من كلامه حقه في النطق.

[هل لنا ان نذكّر في بداية هذا اللقاء بأهداف ثورتكم؟]

 

أيضاً، لم يكن مستعجلاً في الردّ على السؤال، وبقي وجهه هادئاً وديعاً، ويعطي كل الوقت ليتشرب كلماتي ويُمعن فيها التفكير والتقليب، فالكلام الذي سيخرج من فمه في النهاية (هو) كلام ملوك..

" هدف الثورة منذ رفعناه في 9 شعبان سنة 1334 هجرية ( موافق لـ 10 حزيران عام 1916 )، هو ذاته، الوحدة والحرية والاستقلال"

وكأني أصبت الهدف، فأنا كنت أنتظر بالتحديد هذه الإجابة التي كانت بالنسبة لي مدخلاً لأن أطرح  بعدها  ألف سؤال وسؤال.

 

[هل كنتم تعتبرون  بأن العثمانيين محتلّون؟ أنا أعلم بأن أمراء مكة هم أول من اعترف بالدولة العليّة، وجدّكم الشريف بركات الثاني قد أرسل مفاتيح الحرمين إلى السلطان فور سقوط دولة المماليك وانتقال الخلافة إليهم، ومعروف بأنكم من أكثر الناس ولاءً ونصرة لسلاطين آل عثمان وأكثرهم حرصاً على  الحفاظ على هيبة الدولة وتماسكها.

 وحدة من؟ والحرية لمن؟  والاستقلال عن من؟  تلك الشعارات ماذا كنتم تقصدون بها بالتحديد؟]

 

جال بنظره في المجلس ودار على الوجوه واحداً واحداً، وعاد لينظر باتجاهي محافظاً على هدوئه وجلسته الرصينة الثابتة.

"كل من له إلمام بسيط بالتاريخ يعلم أن أمراء مكة المكرّمة كانوا أول من اعترف بالدولة العليّة رغبة منهم في جمع كلمة المسلمين وتقوية سلاطين آل عثمان العظام، طاب ثراهم وجعل الله تعالى دار الخلد مثواهم ولبناء أحكام دولتهم على الشريعة الغراء .  واستمر معنا هذا إلى أن نشأت في الدولة جمعية الاتحاد والترقي، وقبضت على إدارة الدولة وتحكّمت في جميع شؤونها، فحادت بها عن صراط الدين ومنهج الشرع القويم  وقامت بسلب شوكة السلطان المعظّم، وماله من حق التصرّف الشرعي والقانوني أيضا وجعلوه منفذا للقرارات السرية لجمعيتهم ".

توالت كلماته رتيبة هادئة وكأنه يلقّنني الجواب لأكتبه وأنشره في جريدة هو رئيس تحريرها .. وتابع ..

" لذلك نحن لم نقم بالثورة على الدولة العثمانية، ولا على الخليفة، وإنما على هذه الجمعية التي اغتصبت حق آل عثمان الكرام وجعلته في أيدي هؤلاء الشواذ الذين ليس لأكثرهم في الشعب التركي الاسلامي أصل راسخ ولا في الاسلام علم صحيح ولا عمل صالح .. "

ويقصد بكلامه جمعية الاتحاد والترقي وهي بحسب الكثير من المراجع التي قرأتها حركة سرية تأسست في نهاية القرن التاسع عشر وتحوّلت إلى منظمة سياسية ذات طابع علماني عموماً، وقامت بخلع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ونصّبت أخيه محمد رشاد ( محمد الخامس ) ، وجرّدت موقع السلطان من معظم صلاحياته وأصبحت هي الحاكم الفعلي للدولة العثمانية.

[إذاً،  كانت ثورتكم ضد جمعية الاتحاد والترقي وليست ضد الدولة العثمانية؟]

 

أيضاً، كان لا بد من الانتظار للحصول على الجواب. يتلقى السؤال ويختزنه، يعطي وقتاً كافياً للتفكير في الإجابة.

"ولماذا لا نثور؟  فهم لم يكتفوا بأنهم استأثروا بالحكم بالقوة، وإنما خاضوا بالدولة غمرات الحرب الأوربية الساحقة الماحقة وألقوا الدولة في التهلكة واستنزفوا ثروتها. هم انحرفوا عن صراط الدين، وسمحوا للمجلّات والصحف بأن تُجاهر بالطعن بالإسلام.  ألغوا التزام الصلاة لتلاميذ المدرسة الحربية، وجاءت أوامرهم خلال شهر رمضان إلى الجنود تحتم عليهم ألا يصوموا رمضان. سلبوا السلطان المعظّم حقوقه وأصبح لا قدرة له على اختيار أصغر موظفيه أو تعيين أي مسؤول في الدولة ولا حتى شيخ الإسلام. "

لم أعلم إذا كان يريد بهذا الكلام التهرّب من الإجابة على سؤالي الذي قصدت أن أحصل منه على إقرار بأن ثورته كانت ضد جمعية الاتحاد والترقي وليس ضد الدولة العثمانية.  ولكن كان علي أن أنتظر حتى نهاية الجواب، فلا يصح أن أقاطع الملك ..

"...لقد أسقطوا بقايا شروط الخلافة التي يطالب بها المسلمون كافة.  ويأتي بعدها إسرافهم في أموال الدولة وإضاعتهم لعدة ممالك من ممالكها مثل البوسنة والهرسك والممالك الألبانية والمقدونية وطرابلس الغرب وبرقى..

وأما ما خصوا به العرب ولغتهم فهو أعظم ذنوبهم بالنسبة إلينا، لقد حاولوا قتل اللغة العربية، وقتل اللغة العربية كما تعلم قتل للإسلام نفسه.  لكل هذا، كان يجب أن نثور عليهم، فنحن لا نريد أن نكون شركاء لهم في هذه الآثام ولا نوافق زعماءهم على ما اشتهروا به من الكفر والالحاد".

عجباً، وكأنه يتكلم عن ثورة إسلامية وليست عربية.  بحسب معلوماتي فإنها ثورة العرب ضد الترك وليست ثورة مسلمين غيورين على دينهم ضد قادة ملحدين وكفار.  وفكّرت بسرعة كيف يمكنني أن أصيغ سؤالاً أستحصل به من الشريف على إجابة واضحة حول هذا الموضوع.  سأستعين ببيان الثورة ذاته.  بحثت عن البيان بين أوراقي وبدأت في طرح سؤالي التالي:

[سموّكم، أنتم في بيان الثورة التي أُعلنت في 10 حزيران عام 1916، قلتم بأن الثورة قامت رداً على رفض الأتراك مطالب العرب العادلة وأنها تهدف للحصول على الوحدة والحرية والاستقلال. تبدو هذه الأهداف بالنسبة لي عامة عائمة ليست محدّدة وبحاجة لتفسير، وبحسب ما ذكرتم قبل قليل فإن ما أثار استياءكم هو قبض جمعية الاتحاد والترقي على الحكم وقبض قادتها "الكافرين الملحدين" على شؤون الدولة وإضعاف الخليفة، هناك الكثير من الأتراك كان لديهم ذات الموقف وأنتم تعلمون بأن كثيراً من الأتراك أيضا ضد الجمعية وممارساتها وكانوا يعملون على إعادة زمام الامور للخليفة.  فما مبرر أن تقوم الثورة ضد الاتراك هنا، لماذا لم  تحاولوا أن تجعلوها ثورة اصلاحية شاملة عربية تركية على الجمعية لماذا تثورون على الأتراك وأنتم شعب واحد لمدة أربعة قرون تعيشون في دولة واحدة على السرّاء والضرّاء.  هل كان عداؤكم للأتراك أم للجمعية ؟]

 

تحرّك رأسه باتجاه ابنه زيد وحدّق في عينيه لفترة وكأنه يسأله: "وماذا أقول لهذا السائل؟"  وجال بنظره على باقي الحضور مرة أخرى، ونظر إلي أخيراً لأول مرة بشكل مباشر في عيني، وتمتم ببضع كلمات لم أسمعها جيداً ثم عاد ليقول بصوته الواضح ونبرته الهادئة:

"بالطبع ليس لدينا أي عداوة مع الأتراك فقد كانت مقاومة أخوتنا الترك للجمعية أشد من مقاومة العرب، ونحن كنا نعتقد اعتقاداً راسخاً بأن ما قمنا به... بأن ثورتنا التي قمنا بها، هي ثورة لتحقيق أماني المسلمين الصادقين حتى الأتراك منهم وهم كثر".

هل يريد التلاعب بالكلام؟  وبدأت أفكر بسرعة، فقد أربكني ما أورده من أسباب ثورته التي كانت في معظمها "إسلامية" أكثر منها عربية بحسب ما يقول، هو غيّور على الاسلام ويسيئه انحراف الحكم - في أكبر دولة إسلامية وجدت على هذه الارض - عن صراط الدين !  فقام بثورة عربية تهدف لوحدة وحرية واستقلال العرب المسلمين وانفصالهم عن الدولة الاسلامية  وبالتالي تقويض هذه الدولة وإضعاف الاسلام في النهاية ؟!.  يبدو الأمر متناقضاً وبحاجة لكثير من التوضيح.

وفكرت بسرعة بأني  كلما ذهبت في اتجاه "حشره" في زاوية الإجابة على هذا السؤال  أكثر، يستمر في التهرب أو التحايل على الإجابة وقررت أن أذهب في الاتجاه الذي يحاول هو أن يوجه اللقاء باتجاهه  علّي أحصل في سياق الإجابات على المعلومات التي أريد.

[إذاً قبضت جمعية الاتحاد والترقي على الحكم في الدولة وحرفته عن الحكم الاسلامي القويم. أسرفت وعسفت وجرّت البلاد الى التهلكة، فكان قراركم في الحجاز أن تثوروا عليها وتحصلوا على استقلالكم منها؟.]

 

وكأني رأيت تقاسيم وجهه انفردت بعد هذا السؤال.  وبعد أن أخذ وقته كما العادة في التفكير،  أومأ برأسه، أي أنه موافق على كلامي وقال:  

" ليس الحجاز فقط بل كل العرب في سوريا والعراق أيضا.  لقد حصلت على تفويض من رجالات العرب هناك بأن أقود ثورتهم.  ثورتنا نحن العرب ضد الأتراك ".

يقصد زعماء وأعضاء الجمعيات العربية السرّية التي تبنّت نهجاً قومياً عربياً والتي تحدّث عنها جمال باشا "السفاح" في لقائي معه، ورأى( جمال باشا ) بأن هذه الشخصيات ارتكبت فعل" الخيانة"،  وفي نهاية المطاف قام بمحاكمتها والموافقة على إعدام عدد كبير من زعمائها والناشطين فيها.

والمشكلة بأن معظم هؤلاء الأشخاص كانوا أقرب للعلمانية ويعملون على قيام  دولة مدنية ليبرالية ، فكيف استوى أن يفوضوا رجل له مقام ديني رفيع ويرى دوافع ثورته "إسلامية" ( على الأقل هذا المعلن ).

شخص يرى في "جمعية الاتحاد والترقي" وأصحابها  بأنها جمعية كافرة خارجة عن صراط الدين، ومعظم الجمعيات العربية السرّية التي فوضته تشبه جمعية الاتحاد والترقي من حيث منهجها العلماني الليبرالي؟!

[ألم تحاولوا أن تقيموا أي اتصال مع الحكومة للوصول إلى تفاهم؟.]

 

أجاب بشكل تلقائي:

"في البداية قدمنا كثير من المظالم والاحتجاجات خاصة عندما أرسلوا لنا بدايةً الوالي وهيب بك، حيث بدأ بمصادرة صلاحياتنا  وأعمالنا .. كما تعلم فقد كانت الحجاز تتمتع بحكم ذاتي على طول فترة الحكم العثماني ، وللشرفاء فيها مطلق الحرية في تسيير شؤونها، وأن إرسال والي لكي يسيطر على المحاكم وفرض الضرائب ويسوق الشباب إلى التجنيد ويسحب كل السلطات منا، كان أمراً غير مقبول ولذلك بادرنا منذ ذاك الوقت بالشكوى"

[وماذا كان رد الحكومة على هذه المظالم؟.]

"كان ردها إيجابياً وجاءت برقية حينها من الباب العالي لإبقاء كل شيء على حاله، وتعيد إلينا كل صلاحياتنا.  ولكن لم يكن هناك أي ضمان بألا تكون هذه الحركة وسيلة لكسب الوقت.  وفي النهاية ستقوم الحكومة الاتحادية بعزلي ونفيي خارج البلاد".

[في أي عام كانت هذه الحادثة؟]

توقف قليلاً محاولاً أن يحدد التاريخ ليرد زيد من جهته ويقول بأنها كانت في "بداية العام 1914".

"نعم صحيح كان في الأشهر الاولى من العام 1914.  منذ ذاك الوقت شعرنا بأن الحكومة الاتحادية بدأت بتغيير سياستها تجاهنا وتريد أن تسحب منا النفوذ لصالح الأتراك، وكان لا بد أن نتحرك لنحمي مصالحنا".

[وكيف كان هذا التحرك؟.]

 

"الحقيقة لم نفعل الكثير في بداية الأمر، لقد بدأت القلاقل تظهر بُعيد وصول وهيب بك ( الوالي التركي ) ووقعت العديد من الحوادث من سلب ونهب وحرق لبعض المحال.  وكيف بمقدوره أن يسيطر على البدو بدون مساعدتنا؟".

وكأني لاحظت طيف ابتسامة ساخرة ارتسمت على شفتيه وهو يتكلم في هذه الجزئية.

" فما كان منه إلا أن أبرق، كما قلت لك، للآستانة يعلمهم بالوضع، ليطلب منه الباب العالي ترك كل الصلاحيات للشريف كما كانت".

[نعم ولكنكم لم تكونوا واثقين واثقاً من أن هذا الوضع سيدوم طويلاً؟.]

صمت لفترة وكأنه كان متردد في قول ما يريد قوله

 "نعم فأنا أعلم بأن الحكومة الاتحادية غادرة ولا يمكن أن تبقي على خصم لها وكانت تعتبرنا خصماً.  وكان لا بد لنا من الحصول على المساعدة من طرف قوي آخر، فكان لابد من أن نتصل مع الانكليز لنتبين موقفهم".  

وكأني لاحظت أن الأمير زيد زم شفتاه وأدار رأسه إلى الطرف الآخر وكأنه لم يرغب في أن يفصح الشريف عن هذه الجزئية.

ورحت أنا أفكر، بداية العام 1914 لم تكن تركيا قد دخلت الحرب بعد، ولم يكن جمال باشا قد وصل إلى دمشق ، ما مبرر الاتصال بالإنكليز؟ وما شأنهم بموضوع السلطات والنفوذ؟. ما الذي يستطيعون تقديمه للشريف في هذا الصدد؟.  تزاحمت الأسئلة في ذهني تتسابق لكي تخرج إلى الشريف.

[موقفهم مماذا بالضبط؟.  ما شأن الانكليز في هذه القضية؟.]

 

نظر إلى الأمير زيد وبادله الأمير الآخر النظرات وعاد إلي محاولاً أن يتصنّع عدم الاكتراث بهذا السؤال الذي بدا مستفزّاً لباقي الحاضرين.

" ألم تفهم؟  أراد الأتراك القضاء على الحكم الذاتي في الحجاز، ونحن لم نكن لنترك لهم ذلك ولا نستطيع مقاومة خطط الأتراك لوحدنا.  كان لا بد لنا من طلب المساعدة للدفاع عن أنفسنا في حال قرر الأتراك عزلنا".

هكذا إذاً كانت بداية الاتصال مع الانكليز قبل الحرب، كان بهدف الحفاظ على موقع الشريف؟!.   تاريخياً، لم يكن حاكم الحجاز وخادم الحرمين الشريفين إلا عربياً من الشرفاء من قبيلة قريش، لا يمكن أن يكون هناك تركي حاكم في الحجاز،  قلت لنفسي، وتذكرت كلام جمال باشا وكيف أنه قال أن الجمعية لا تثق بالشريف حسين ولم تكن لتوافق على تعينه.  ربما حاولت الحكومة الاتحادية بأن تحد من نفوذ الشريف بتعيين والٍ تركي إلى جانبه، ولا يبدو هذا  تصرفاً حكيماً حيث أن سكان المنطقة الذين تعودوا على حكم أنفسهم ، لن يقبلوا بهذا الوضع.

 

[وهل كان هذا مبرراً كافياً للاتصال مع الانكليز بتقديركم؟]

 

عاد لينظر إلى زيد  والحاضرين مرة أخرى وكأنه يريد أخذ الموافقة منهم للخوض معي في تفاصيل هذا الموضوع ، لم يتركني لتخميناتي  كثيرا.

" قد يكون كلامي هذا غريباً عليك ولكنه أمر واقع يعرفه كل من هو مطّلع على شؤون الجزيرة، الاتصال بالانكليز ليس شيئاً غريباً، وعملياً بريطانيا هي المسيطرة على الجزيرة العربية منذ قرون طويلة ولها مصالح حيوية فيها ومحميات مثل عدن وغيرها، ومرتبطة باتفاقات مع معظم شيوخ العشائر فيها، وتقدّم مساعدات سخيّة للبعض من هؤلاء الشيوخ الذين تقع أراضيهم، فعلياً، خارج سيطرة الدولة العثمانية ومستقلين في شؤونهم ولماذا لا نكون نحن كذلك؟

في تلك الفترة لم يكن هدف اتصالنا بالإنكليز هو الثورة، كان هدفه حماية حقوق عائلتنا في حكم الحجاز والتي من خلالها نضمن استمرار سلطة العرب فيها.  ومن الطبيعي إذا كان لدينا القرائن على أن الأتراك سيقومون بعزلنا، أن نبحث مع الانكليز الموضوع ونتحالف معهم للحفاظ على استقلالنا أسوة بباقي القبائل الموجودة في المنطقة".

حقاً إنه لكلام غريب.  لم يكن كل عرب الجزيرة، إذاً، منضوين تحت لواء الحسين، ولم يكن كلهم في الثورة التي تسعى لوحدة وتحرير العرب.  إذا لم تكن الجزيرة العربية موحدة أصلاً، لماذا تنطلق منها ثورة لتوحيد أراض خارجها؟!. عجباً، صحيح لم نقرأ إلا عن الحجاز في الثورة العربية، وماذا إذاً عن باقي العرب في الجزيرة العربية؟!.  كيف لم انتبه لهذه الناحية من قبل؟.  

وإذا كانت الحكومة العثمانية تريد عزل شريف وتعيين شريف آخر مكانه  كما كانت تفعل خلال مئات السنين...ما دخل الإنكليز بهذا الموضوع؟.

[عذراً سموكم، ولكن أريد أن أستفسر واعذرْوا جهلي، كيف يكمن أن يساعدكم الإنكليز في حال قررت الحكومة في تركيا عزلكم؟]

 

"سأقول لك.  بداية طلبنا أن تتدخل بريطانيا لدى الباب العالي لمنع محاولة عزلي،  وكنت أعلم بأنه اذا  أصرت وقامت الحكومة في اسطنبول بإقصائي عن الحكم، وقتها لا شك أن الحرب ستقوم بيننا وبينهم للحفاظ على حقّي وحقّ أجدادي في هذه البلاد،  ونحن كنا قادرين على التغلب على الحاميات التركية الموجودة في مكة والمدينة ، ولكن نخشى قدوم تعزيزات عبر البحر تجعل الكفة تميل للأتراك وتهدد وجودنا، فطلبنا ،حسب ما أذكر، إذا كان بالإمكان أن يتم قطع هذه التعزيزات في حال وردت .. "

[في أي تاريخ كان هذا على وجه التحديد؟]

 

نظر إلى زيد وكأنه يريد أن يستوثق التاريخ : " نهاية عام 1913 بداية 1914 "، وهز زيد رأسه بالمقابل مُبديا الموافقة.

[وهل استجاب الانكليز لطلباتكم؟.]

 

هز رأسه بالنفي وقال: " لم نحظ وقتها بالتشجيع منهم".

[سموكم، أنتم قلتم بأن معظم القبائل العربية قد حصلت على استقلالها الذاتي في الأراضي التي تشغلها ويحق لكم أنتم ما يحق لهم. أليس وضع الحجاز مختلف عن وضع هؤلاء؟.  فبحسب الخرائط والسلنامة*( كتاب يتضمن معلومات وإحصاءات عن الولايات العثمانية ) التي تصدر من الأستانة سنويا، فإن الحجاز جزء لا يتجزأ من أراضي الدولة العثمانية، على عكس باقي مناطق الجزيرة، وطلبكم لاستقلال هذا الجزء إنما في الواقع هو طلب "انفصال"، أليس كذلك؟.]

 

بدأ تفاعل الشريف معي يختلف قليلاً، وبدأ الوقت الذي يأخذه للتفكير يقصر رويداً رويداً وأصبح توتره ظاهراً.  لا بل بتُّ أستشعر في نبرته بعض التهكّم والغضب.

"نحن لم نطالب بالانفصال، وكنا متمسّكين بالدولة العثمانية وبأهداب الخلافة إلى آخر لحظة.  كل ما حدثتك عنه كان عبارة عن إجراءات من باب الاحتياط.  من المؤكد بأننا لم نكن لنسكت في حال قرروا عزلي من الإمارة وتعيين والٍ تركي.  الموضوع ليس شخصياً وإنما يتعلق بحقوقنا التاريخية في تلك المنطقة ولو أنني وافقت على أمر العزل، لم يكن سكان وأهالي الحجاز ليقبلوا بذلك "

[تقولون بأنك كنتم متمسكين بالدولة العثمانية لآخر لحظة.  كيف وأنا أرى أن اتصالاتكم مع الإنكليز بدأت قبل ثلاث سنوات تقريباً من حدوث الثورة؟.]

 

لأول مرة خلال اللقاء زفر زفرة طويلة وزمّ شفته السفلة وأطرق قليلاً وكأنه يحاول ضبط أعصابه وقال:

"قلت لك بأن ما كان في تلك الفترة جاء من باب الاحتياط، وبقينا على تواصل كل تلك الفترة بشكل مباشر أو من خلال ابني الأمير فيصل الذي كان على اتصال مباشر مع جمال باشا.  ولكن، كما ذكرت في أول اللقاء، فانهم خلال تلك الفترة شذّوا كثيرا في حكمهم عن صراط الدين وأساؤوا للخليفة وباتت دولة المسلمين ضعيفة والخلافة مهددة بالزوال.

كنا على اتصال معهم نحاول إقناعهم بالعدول عن سياستهم المدمّرة حتى آخر لحظة، وحتى قبل إعلان الثورة بوقت قصير، أبرقت إلى رئيس الوزراء طلعت باشا ووزير الحربية أنور باشا بطلبات محددة لإرضاء العرب وكان الرد سلبيا".

[وماذا تضمنت طلباتكم هذه سمو الملك؟]

 

"طلبنا العفو العام عن المتهمين السياسيين من أحرار العرب (الذين أعدمهم جمال باشا فيما بعد)، وإعطاء سورية ما تطلبه من نظام لامركزي، وجعل إمارة مكة وراثية بين أولادي، وقلنا لهم في حال استجابوا لطلباتنا أننا بدورنا سنقف إلى جانبهم في الحرب ونمدّهم بجيش من رجالنا.  ولكن كانت الإجابة سلبية ومتعنتة".

عجباً، اذاً ليس في طلبات الشريف شيء يتعلق بتصحيح مسار الحكم ليصبح على الطريق الاسلامي القويم، و لو أنهم لبوا طلباته فإنه كان  سيقاتل جنباً إلى جنب مع هؤلاء "الكفار" ( جمعية الاتحاد والترقي)!.

حاولت ترتيب الأفكار ووضعها في سياق واحد قبل أن أنتقل إلى سؤال آخر.  إذاً بدأت الأمور باستهداف مصالح الحسين وكان الشريف مستعداً لخوض الحرب ضد الدولة العثمانية دون هذه المصالح، وأقام الاتصال مع الانكليز للمساعدة.

كيف تحول هذا التحرك الضيق إلى ثورة عربية شاملة تهدف إلى وحدة العرب وحريتهم واستقلالهم؟.  وإذا كان عرب الجزيرة، ما عدا الحجاز، غير  معنيين بهذه الثورة، وأنا أعلم بأن معظم أهل العراق مرتبطون كلياً بالقبائل العربية في الجزيرة، فأي عرب إذاً ثاروا ضد العثمانيين؟.  ورحت أتذكر كلام جمال باشا عندما قال لي أن الثورة ليس لها علاقة بالعرب وحاول أن يوضح لي بأن من قام بهذه الثورة هم مجرد متمردين على الدولة والموضوع ليس عرباً وتركاً ، لأنه، بحسب رأي جمال، بأن تمرد بعض العرب على الدولة لا يعني بأن كل العرب قد ثاروا ضد الأتراك.  

 

خريطة من الوثائق البريطانية

خريطة من الوثائق البريطانية  توضح موقع الحجاز في الجزيرة العربية ومكان سيطرة الشريف حسين ، وهي المنطقة التي قامت بالثورة بشكل فعلي فيما لم تشارك باقي قبائل الجزيرة بالثورة بشكل مباشر.
 

 

[عظمة الملك، عندما كنتم تتهيؤون لحرب محلية ضد العثمانيين في حال تم عزلكم عن حكم إمارة الحجاز،  طلبتم مساعدة الانكليز وقلتم سموكم بأن موقف الإنكليز لم يكن مشجعا ًلمثل هذا التحرك.  مع هذا، تحوّل هذا التحرك المحدود للدفاع عن مصالحكم، في منطقة صغيرة، إلى ثورة شاملة على الدولة العثمانية.  ألم تكن هذه قفزة كبيرة في المجهول؟]

 

ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجهه لم يتكلف عناء أن يخفيها عني، وعاد وجال بنظره على الحضور وكأنه يقول لهم "اسمعوا هذا السؤال بالله عليكم " حتى أني  شعرت بأن السؤال  بدا ساذجا بالنسبة له.

"انت محق وما كان باستطاعتنا أن نقوم بهذه الخطوة أو القفزة كما أسميتها بدون أن نحصل على ضمانات ومساعدة من الانكليز.  وقع كثير من التطورات بين تلك الحوادث وبين إعلان الثورة، فقد توثقت علاقتنا مع الجمعيات العربية السرّية في سوريا وأخذنا التفويض من تلك الجمعيات  للقيام بالثورة، وكانت قد قامت الحرب العظمى وانضمت تركيا الى أعداء بريطانيا، وبهذا وجد البريطانيون مصالحهم في تغيير موقفهم والتحالف معنا ضد الدولة العثمانية  وأعيد فتح قنوات التواصل مع الإنكليز وجرت بيننا مراسلات طويلة، وفي النهاية حصلنا على وعد منهم وقتها بأن يدعموا استقلال العرب وقيام المملكة العربية، ولكن مع الأسف لم تتحقق هذه الوعود.. بعد".

إذاً دعني أرتب الاحداث ، قلت في نفسي ، هي حرب لتحقيق مصالح محلّية، تحوّلت إلى  ثورة قامت لنصرة الإسلام بعد أن انحرف قادة الدولة العثمانية عن الصراط المستقيم، ولكن هذه الثورة هي ثورة ضد خليفة المسلمين ودولته و هدفها الانفصل عن أكبر دولة اسلامية في العالم وفرط عقد هذه الدولة،   لتحقيق أهداف جمعيات علمانية تطالب بحكم ديموقراطي ليبرالي مدني !! بضمانات يقدمها أعداء الدولة الاسلامية ، بريطانيا وفرنسا!.

فعلاً، كيف لثورة مثل هذه أن تنجح؟!.

[وهل كنتم واثقين من أنهم سيلتزمون بهذه الوعود؟.]

 

بدا على وجهه التأثر وكأن سؤالي نكأ جرحٍ لم يشفَ بعد، أطرق رأسه ودفع  جسمه قليلاً إلى الأمام واستنتد بساعده الايمن على فخذيه وحدّق قليلاً في الأرض، وبقي على هذا الوضع للحظات.  رفع رأسه بعدها ونظر إليّ وجسمه مازال منحنياً قليلاً، وكأني لمحت آثار دموع حاول أن يخفيها، انعكس بريقٌ في عينيه،  وقال بصوت هادئ ضعيف:

" نعم، مع الأسف كنا واثقين ولو كان لدينا أي شك في أن الإنكليز سيخلفون وعودهم معنا بهذه الطريقة لما كنا أقدمنا على هذه الخطوة".

عاد لجلسته الاعتيادية وكأنه أدرك فجأة بأنه ترك لجسده حرية التعبير أكثر مما يجب وتابع:

" .. لا تعتقد بأن اتخاذ قرار الثورة على الدولة العثمانية كان قراراً سهلاً علينا، ليس من باب قدرتنا أو عدم قدرتنا على النصر، وإنما في النهاية هي دولة المسلمين التي حفظت كرامتهم وأعلت من شأنهم وشأن الدين الاسلامي لأكثر من 600 عام.

لو لم نكن واثقين من أن هذه الدولة تنهار، لما أقدمنا على الثورة.  كان هدفنا أن نحاول إنقاذ ما تبقّى من هذه الامبراطورية المتفككة في أرضنا،  في دولة جامعة قوية يمكن أن تصبح ذات شان يوماً ما بين الأمم، وربما إذا اطلعت على محادثتنا مع الإنكليز سيتضح لك بكل جلاء بأن همّنا كان أن نحفظ أرض العرب في دولة واحدة.  القرار الذي اتخذته الجمعية المشؤومة ( الاتحاد والترقي ) بدخول الحرب كان قراراً بتدمير السّد الذي يقف في وجه السيل الجارف الطامع في بلادنا منذ عقود، وكان أمامنا خياران، إما أن ننجرف مع باقي أجزاء الدول المفككة أو نحاول أن ننقذ دولة العرب من الغرق في بحر الصراعات هذا.  أليس كذلك ؟!".

(ويسألني هو أيضاً؟!) .. بماذا أجيب والحقيقة بأني لم أكن أوافق تماماً على كلامه.  فبينما حافظ الأتراك على دولتهم واستطاع كمال باشا ( أتاتورك ) أن يثبت وجود الدولة التركية على الخريطة حرّة غير منقوصة السيادة.. تبعثر العرب على دول مجزئة ناقصة السيادة أصبحت بعدها تحت احتلال مباشر ليس من العثمانيين أخوة العرب في التاريخ و الدين فحسب،  وإنما من قبل دول الغرب الذين طالما كانوا ألدّ أعداء شعوب هذه المنطقة، واستمرت هذه البلاد بالتدهور والتراجع لتصل إلى حال من السوء غير مسبوق في تاريخها.

[أتقصد مراسلاتكم مع هنري ماكماهون ؟.]

 

أجاب بدون إبطاء: "نعم بالضبط ".

في الحقيقة مراسلات الحسين ماكماهون كما تعرف، لم يتراجع عنها الإنكليز، ولمن يقرأ هذه المراسلات التي اطلعت عليها وأنا أحضر لهذا اللقاء، سيرى بأن ماكماهون حافظ بدهاء على أجوبته إلى الحسين ملتبسة ليس فيها تأكيد لطلباته، بل ترك الأمور عائمة حتى آخر رسالة.  كانت ردود مكماهون أشبه بالمسكّن، وليس بالعلاج، لطلبات الحسين،  فقد ربط مكماهون تنفيذ طلبات الحسين المتمثلة بإنشاء مملكة عربية، مع عدم التعارض مع اتفاقات أبرمتها إنكلترا سابقاً مع (الرؤساء العرب)، والأهم، مع الحليف الأساسي له (والشريك) فرنسا دون أن يفصح عن مضمون هذه الاتفاقات !

لم يطلب الحسين في مراسلاته تحديداً أو تفسيراً دقيقا للعبارات الملتبسة ، الالتباس الذي كان مخرجا للانكليز للتنصل من وعدوهم والقضاء على حلم الحسين في أن يصبح ملكاً متوجاً على مملكة تتجاوز حدودها، بكثير، إمارة الحجاز التي كان يحكمها.

كنت أقلّب الأوراق أمامي وأحاول أن أصل إلى عبارة محددة في نص المراسلات، وهذا ما أخّرني قليلاً عن طرح السؤال التالي وتسبب لي ببعض الارتباك.  ولكن دفع هذا التأخير الشريف ليكمل من تلقاء نفسه موضحاً:

" كانت طلباتنا في هذه المراسلات واضحة وبينة ولا لبس فيها، أبدينا بعض اللين فيما يتعلق بمرسين وأضنة لأننا نعلم بأن ليس كل سكّانها عرباً، ولكن تشبّثنا بحقّنا بباقي الولايات مثل حلب وبيروت وحصلنا على ضمانات من الإنكليز وموافقتهم وهذا موثّق".

وكنت لا أزال أبحث عن العبارة، وحتى أمتلك ناصية الحديث وأُبقي اللقاء في هذه النقطة الهامة، سألت:

[ولكنكم وافقتم على شرط عدم المساس بمصالح فرنسا وهذه عبارة مطّاطة، و ربما كانت وراء ما حصل من تقسيم في المنطقة، حيث يبرّر الإنكليز ما تعتبرونه انتم نكوصاً،  بأنه يأتي في إطار تحقيق مصلحة حليفتهم فرنسا وعليهم أن يراعوا هذه المصالح بحسب الاتفاق؟]

 

التفت إلي ونظرا مليّاً في الأوراق التي أقلّب بها وكذلك فعل الأمير زيد والأمير طلال فيما جلس الملا سعيد كالصنم ولكن بدت الدهشة على وجوههم جميعا، ردّني صوت الشريف عن تأمل وجوه الحضور:

" لقد كنا واضحين بأننا نطلب كامل الأراضي ضمن الحدود بما فيها كل ولايات سوريا، وعندما أشارت المراسلات إلى تعذّر إعطاء ضمانات بشأن ولاية بيروت، أكدنا بأننا إن تجاوزنا هذه النقطة خلال الحرب فإننا سنعود للمطالبة ببيروت بعد نهاية الحرب.  لم نوافق على استثناء إي شبر من أراضي العرب من الاتفاق وكان موقفنا واضحاً بالإصرار بأن تكون كل أراضي العرب جزءاً من المملكة العربية المستقلة ".

تمتمت بصوت غير مسموع المطالبة ببيروت بعد الحرب لا يعني الحصول عليها، أليس هذا ما حصل؟!،  وجدت العبارة التي كنت أبحث عنها وألقيتها للشريف حسين طالبا التفسير..

[سموكم، لقد ورد في رسالة مكماهون إليكم، تلك التي تحمل تاريخ 25 كانون الثاني 1916، عبارة أقرأها عليكم حرفيا:

( ... وأظنكم تعرفون جيداً أننا مقررون قراراً نهائيا بألا نسمح بأي تدخل ـ مهما قلّ شأنه ـ في اتفاقنا المشترك في إيصال هذه الحرب إلى الفوز، ثم متى انتهت الحرب فإن صداقة فرنسا وإنجلترا ستقوى وتشتد... ) إلى آخر العبارة، وهذا يوضح بأن مصالح فرنسا بالنسبة إلى بريطانيا خط أحمر لا يمكن تجاوزه ولا المفاوضة عليه.

فيما نرى بأنكم في الرسالة الجوابيّة على هذه الرسالة من قبلكم، لم تطلبوا أي توضيح لهذه النقطة، على العكس تماماً، بدا أنكم أبديتم الموافقة عليها حيث جاء في ردّكم، ودعوني أقتبس: (... تلقينا ردكم...  وأن مضامينه أدخلت علينا مزيد من الارتياح والسرور لحصول التفاهم المطلوب والتقارب المرغوب لأسأل الله أن يسهّل المقاصد ويُنجح المساعي... )، أليس من الممكن أن نفسّر الذي حصل بأنه قراءة متباينة لمضمون المراسلات أو الوعود المقدّمة؟.  هل كانت هذه الوعود الخطّية واضحة وبيّنة بشكل لا يقبل اللبس والتأويل؟. ]

 

 أطرق مرة أخرى وحوّل نظره عني في الاتجاه المعاكس، وبدا أنه يسترجع في حسرة ما كان في تلك الأيام وقد بدأت تظهر عليه علامات التململ وبعض الغضب، واستأنف كلامه و ما زال نظره معلّقاً في الجهة المقابلة لي في الفراغ:

" هم استخدموا بالضبط هذه الذريعة، ولجؤوا إلى متاهة التفسير والتأويل، ولكني أريد أن أؤكد لك بأني وهم نعلم علم اليقين ماهية العهود التي كانت بيننا، واؤكد لك أيضا بأنهم أخفوا الحقيقة عني لآخر لحظة ممكنة واستخدموا التسويف والتأويل  للتملّص من عهودهم. هم يعرفون بالضبط على ماذا نص الاتفاق بيننا وبينهم، هم يعرفون على ماذا تعاهدنا".

التفت إلي وتوقف فجأة عن الكلام وكأنه متردد في أن يذهب معي إلى أبعد من هذه النقطة.  وتركت الصمت يسود عمداً، ليتابع الشريف:

" هل يعقل إذاً أن أعلم باتفاقية سايكس بيكو من الصحف؟  أنا حليفهم الرئيسي في المنطقة، أنا الذي بذلت كل غالٍ ورخيص لتحقيق أهدافنا المشتركة، يتم الاتفاق من خلف ظهري لتقويض كل ما اتفقنا عليه، وعندما سألت حاولوا لملمة الموضوع وتسخيفه، لا بل كذبوا علي عن عمد وتخطيط لأن الوضع في ذاك الوقت كان لا يسمح بأن يخسروا حليفاً مثلي...حليفاً يقوم باستنزاف قوة الأتراك الذين يحاربونهم في جبهة فلسطين".

قلت في نفسي ولكنك صدقتهم ..  

[متى علمتم بأمر الاتفاقية، وتقولون بأنهم كذبوا عليكم في تبرير هذا الاتفاق فماذا قالوا لكم بالتحديد؟]

 

أجاب من فوره:

" لقد أرسل لي أحدهم نسخة من جريدة المستقبل الصادرة في بيروت والمعروفة بأنها تميل للفرنسيين، لازلت أذكر رقم الاصدار 101 في 11 حزيران من عام 1918، تتضمن خطاباً لجمال باشا يتكلم فيه حول الاتفاقية وتقسيم سوريا والعراق بين فرنسا وبريطانيا، وعندما طلبت إيضاحا لهذا الموضوع، لم أقابَل إلّا بالتسويف، وعندما أبلغتهم أني مصرّ على أن آخذ تعهداً من بريطانيا وفرنسا بأن تكون للعرب دولة مستقلة واحدة برئيس واحد، حينها بدأت تظهر التفسيرات والتأويلات للعهود الواضحة المكتوبة التي أحتفظ بها، التفسيرات التي كانت واضحة وضوح الشمس، إلى أن الإنكليز يحاولون التملّص من عهودهم".

وكان يقصد اتفاق سايكس بيكو الشهير.  بادرت إلى الاستفسار بسؤال متابعة قبل أن ننهي الحديث بهذا المحور:

[اسمح لي سموكم أن أعيد عليكم هذا الاحتمال، احتمال أن يكون كل فريق قد فسّر المراسلات بينكم وبين مكماهون بشكل مختلف، خاصة بأنكم، ومن خلال جوابكم الأخير ضمن هذه المراسلات، تركتم الكثير من النقاط عائمة وغير واضحة فيه ، لنكُن منطقيين، سموكم، دعنا نسأل أنفسنا لماذا يخوض الإنكليز وحلفاؤهم الفرنسيون هذه المغامرة ويتكبّدون كل تلك الخسائر ويقدّمون الدّعم والتضحيات في سبيل إقامة دولة عربية؟  لماذا يقومون بإهداء كل هذا للعرب؟  أسأل  لماذا من باب المصالح والمنفعة، لماذا يفعلون ذلك؟.]

 

انتهى، مع هذا السؤال، الهدوء الذي كان الملك حسين عليه طوال فترة المقابلة، وظهر الغضب في جانب شخصيته بشكل واضح، ورأيت الدم ينحبس في رأسه ليحوّل لون وجنتيه المسراوتان إلى الأحمر الغامق، وبدا لي يضغط على أسنانه فيما انتفخت خدوده قليلا وكأنه سينفجر ويجيب بصوت عال:

"هم لم يقوموا بكل هذا  لوحدهم، كنا شركاء.  كانت معركتنا نحن وهم، لولا ثورتنا لما استطاعوا التقدم باتجاه فلسطين وتحرير القدس والتوجّه شمالاً حتى بلوغ دمشق، لقد كانت معركتنا مع الأتراك وإجبارهم على فتح جبهة في الجزيرة وتحوّل قواتنا من قوّة  داعمة لهم إلى قوّة معادية هي الفيصل الذي مكّن الحلفاء من الانتصار واندحار الدولة العثمانية".

توقف قليلا بعد أن قال هذا بسرعة وغضب وكأنه يلتقط انفاسه.   قلت في نفسي على الأقل  هو متفق مع  جمال باشا بأن ثورة الحسين هي من فرط عقد الدولة العثمانية، في الوقت الذي لم أستطع أن أمرر به  تعبير "تحرير القدس " مرور الكرام،  فقد وقع موقعاً شاذّاً وغريبا، وكدت أن أصحح له ( تقصد احتلال القدس )

تابع:

"ثم أريد أن أسأل سؤالاً معاكساً بهذا الصدد، ما مصلحتنا نحن العرب وما مصلحتي أنا أمير الحجاز، صاحب المركز المرموق في الدولة العليّة، بأن أهدم كل هذا لأجل عيون الإنكليز وفرنسا؟ هل يعقل بأني قمت بهذا لأسلّم البلاد إلى احتلال أجنبي وأُطرد من أرضي وبلدي لأعيش منفيّاً هنا؟".

ما بالهم يرجعون إلي بالسؤال وعلى الأغلب إن أجبت لن يعجبهم كلامي.  سأتجاهل الموضوع وأمضي إلى دفعه للكلام أكثر خاصة واني بتُّ أشعر بأنه أصبح منفتحاً أكثر للحديث.

[ماذا فعلتم عظمتكم عندما علمتم بأمر الاتفاق؟  فبحسب ما قلتم لي فإن هذا الكلام كان في وقت مبكرنوعاً ما في العام 1918 حين لم يكن هناك أي شيء قد حُسم بعد.  لماذا استمر تعاونكم مع الإنكليز كل تلك الفترة التي امتدت لأكثر من ثلاث سنوات  لاحقة؟]

 

بدأ غضبه يبدو ظاهراً أكثروكنت أراقب الأمير زيد وكان بدوره يراقب والده ويبدو قلقاً، ولا أعرف السبب، فيما بدا الأمير طلال أكثر انضابطا وهدوءاً منه،  وبدأ الشريف، الذي كان ثابتاً معظم اللقاء، يتحرك بشكل عصبي ويتقدم جسده إلى الأمام ويعود للخلف بحركة اهتزازية، فيما يكرّر فتح وضم يديه وتشبيكهما ببعضهما البعض وفركهما.  كان يبدو لي بأنه يحاول أن يضبط انفجاراً على وشك الحدوث.

" ماذا عساي أن أفعل؟  إنها ثورة وليست نزهة، لا يمكنك أن توقف ثورة هكذا ببساطة.  لم يكن أمامي إلا أن أكمل ما بدأت به،  وأُعيد وأُكثر بالطلب من حلفائنا الإنكليز بأن يفوا بالتزاماتهم تجاه العرب".

بدأ يتكلّم بسرعة وتخلّى عن الرصانة التي بدأ فيها الحوار معي وأصبحت نبرة صوته  مزيجاً من الانفعال والتأثر.

" أرسلت الكتاب وراء الكتاب والطلب وراء الطلب إلى كل السياسيين الإنكليز الذين كانوا معنيين بموضوع الجزيرة والثورة العربية وذكّرتهم باستمرار بالوعود التي قطعوها لنا.  فيما كنت أرى أن الأحداث تمضي دون تحقيق هذه الوعود.  كانت ثقتي بهؤلاء كبيرة ولم يكن لدي أدنى شك في أنهم من الممكن أن يخدعوني أو يخذلوني وأنا الذي كنت دائما حليفاً مخلصاً لهم".

صمت قليلاً ثم استأنف وكأنه يكلّم نفسه "...لماذا استمر تعاوني معهم...لأنه كان الطريق الوحيد أمامي، فقد أحرقت كل مراكبي عندما أعلنت الثورة على الدولة العليّة.  لقد خذلوني وبدأ الموضوع أمام من ائتمنني من العرب والمسلمين وكأني قمت بخيانتهم بعد أن بدأ حلم المملكة العربية يتبدد، وضّحت هذا، مراراً وتكراراً، للساسة الإنكليز، من ممثلهم في جدة إلى ملكهم في لندن، وأظهرت استيائي وعدم فهمي لسلوكهم الغريب، حتى أني هددت بالاستقالة أكثر من مرة...لا بل استقلت أكثر من مرة وعدلت فيما بعد عن استقالتي".

استقالة؟! هل سمعت هذا جيداً أنا أم التبس علي الموضوع؟!.  كيف يعني أنه يستقيل؟!   لقد فوجئت تماما باستخدامه هذا المصطلح، وتملّكني السكون والارتباك، وعندما توقف عن الكلام، كنت بحاجة لبعض الوقت لأستوعب هذه الكلمة.  رحت أقلب في الأوراق كيفما شاء وأفكر...هلا من المناسب أن أسأله ماذا تعني كلمة استقالة هذه؟! هل كان موظفاً عند الإنكليز؟!  هل كان مندوبهم السامي في الحجاز؟!  ما هذه المفاجأة التي فجّرها الشريف في وجهي للتو؟.

[سموكم، هل قلتم استقالة؟!  استقالة من ماذا؟ هل عنيتم بالتحديد كلمة استقالة؟.]

 

سيطر الوجوم على ملامح وجهه وقطّب حاجبيه وكأنه أدرك بأنه ارتكب خطأ جسيماً.  ربما لم يستخدم الكلمة المناسبة، واستدرك بسرعة وتصاعد الغضب في نبرته وعلا صوته أكثر:

"استقالتي من المهمة، من هذا الحمل الثقيل الذي أُلقي على كتفيّ.  ولماذا أستمر إذا كان حلفائي الإنكليز لا يقدّمون الدعم لي، بل على العكس اكتشفت أنهم كانوا يعملون ضدي.  هل أتابع وأسلّم العرب لدول الحلفاء يتقاسمونها غنيمة حرب، أم أستقيل وأبرئ نفسي من هذه المسؤولية التاريخية والخيانة العظمى؟".

أصبحت حركات جسم الملك أكثر عنفاً وعدائية، فأصبح وهو يتكلم يشير بأصبعه تجاهي وأحيانا يمد قبضته في وجهي، ويبدو أن الغضب انتقل إلي أيضا ولم أجد بدّاً من مقاطعة الملك.

[عظمتكم.  ربما تقصد بأنك تريد التنحّي اليس كذلك؟ ، لأنك تقول بأنك قدمت استقالتك، وكلمة الاستقالة مكتوبة  في مراسلات رسمية  لمسؤولين انكليز ..قد تفسّر بشكل خاطئ يوماً ما .. وكأن الثورة كانت  مهمة بتعيين منهم... حتى تستقيل ؟!]

 

وكانت ردة فعل الملك غير متوقعة، فقد هاج وماج ودخل في غضب هستيري وبدأ يتفوه بكلام لم أستطع أن أتبين حقيقة معناه وكأني سمعته يشتم نفسه، لست متأكدا، ولم أجد إلا والأمير زيد يستأذنني بأنه من الأفضل أن ننسحب لاستراحة قصيرة، ورافقني هو والأمير طلال  إلى الباب بعد أن استأذن الملك دون أن يتنظر جوابه فيما بقي المستشار مع الملك، وخرجنا من الغرفة لندخل إلى مكتب آخر صغير بدا لي بأنه مكتب الملك الخاص.

رغم غرابة حالة الملك ، لم أشعر بأن ما جرى كان غير مألوفٍ بالنسبة للحاضرين وكأن ثورة غضب الملك هذه اعتيادية ويتبعون إجراءات محددة لاستيعابها.  بعد أن ساد صمت لمدة دقائق، بادر زيد بالكلام وأخبرني بأن حالة الملك النفسية قد ساءت كثيراً في السنوات الأخيرة، وأعاد تأكيد موضوع الاستقالة هذا، وقال بأنه بات في كل خطاب موجه إلى البريطانيين يهدّد بالاستقالة وأنه في أكثر من مرة ألمح  إلى الانتحار!

لم أسأل أكثر عن موضوع الاستقالة أو الانتحار، هذا وقد اعتراني شعور بأني بالفعل قد أُطرد من المكان وأنا أريد أن أكمل اللقاء، فمازال في جعبتي الكثير من الأسئلة التي أريد طرحها على الملك.

استأذنني الامير زيد وقال لي: "اعتبر نفسك في دارك سأغيب لحظات أطمئن فيها على حالة جلالة الملك"، وغادر الغرفة.

كانت الغرفة مربعة فيها طاولة مكتب مصنوعة من خشب الزان وراءها مقعد جلدي أنيق وأمامها كرسيان لكل منهما مسند مستقيم طويل، وبينهما طاولة صغيرة واطئة.

وأهم مافي الغرفة، بالنسبة لي،  كان مكتبة كبيرة وراء كرسي المكتب تمتد على طول الجدار وتصل حتى السقف تقريبا.

كنت جالسا على أحد الكرسيين أمام الطاولة وهممت أريد التوجه إلى المكتبة لأطلع على عناوين الكتب فيها، في اللحظة التي دق الباب ودخل علي خادم يحمل لي كأس شاي، وضعه على طاولة المكتب برفق وانسحب بهدوء.

عاودت النهوض متوجهاً إلى جهة المكتبة عندما ارتطمت يدي بملف موضوع على طرف طاولة المكتب وسقط أرضا وتناثرت اوراقه على الارض.

بشكل لا إرادي، انحنيت ألملم الاوراق المتناثرة لأضعها في الملف، ودفعني فضول الصحفي لكي أسترق النظر إلى مضمون بعضها وكان في معظمه مراسلات بين الملك حسين وولداه عبدالله وفيصل وبعض المراسلات لشخصيات لا أعرفها ..

لفت نظري ورقة مكتوبة بالعثمانية ( التركية بأحرف عربية )  مرفق فيها ورقة أخرى عليها حاشية موقعه باسم الملك عبد الله يستفسر من الشريف حسين عن حقيقة ما جاء فيها ..

دسست الورقة بين اوراقي التي أحملها بسرعة، وأعدت الملف إلى مكانه ووقفت أمام المكتبة في اللحظة التي دخل فيه الأمير زيد علي..

 

التفت إليه وخشيت بأن يلاحظ ارتباكي وقلت: "آمل بأنه ليس لديك مانع من أن أطلع على عناوين الكتب في المكتبة؟"
كان زيد في غاية اللطف معي طوال وقت الزيارة، ورغم أني أغضبت والده الملك أثناء اللقاء إلا أنه كان في غاية اللباقة والطيبة في تعامله معي.

أخبرني بأن شقيقه الملك عبدالله هو أكثر من يحب القراءة في أسرته، وتجاذبنا أطراف الحديث حول مضمون بعض الكتب، هكذا حتى  جاء أحد مرافقي الأمير زيد وهمس له في أذنه بضع كلمات، ليلتفت إلي الأمير بعدها ويقول

"يمكننا الآن استئاف الحوار ولكن أرجوك أن تنتبه لطبيعة الأسئلة وتحاول ألا تجعلها مستفزة".

وكيف يمكنني ذلك؟  ولكن ليس أمامي إلا أن أوافق حتى أكمل اللقاء، ووعدته أن أبذل قصارى جهدي في عدم استفزاز الملك.

عندما دخلنا بدا الملك هادئا وعاد طيف الابتسامة إلى وجهه وبادر بدعوتي للجلوس وقال لي:

"لقد بات الحديث في هذا الموضوع يرهقني ويعيد إلي ذكريات مؤلمة مزعجة.  لقد خاننا الإنكليز والغرب عموماً وطعم الخيانة دائماً مرّ، لا يمكن إلا أن تشعر بالمرار كلما عدت لكي تستذكره".

[وأنا أعتذر بدوري إذا كان فيما طرحت ما أزعج سموكم، وإذا سمحتم لي سأنتقل إلى موضوع آخر متعلق وهو موضوع الخلافة التي بدأت جمعية الاتحاد والترقي بإضعاف مركزها من خلال تجريد الخليفة لصلاحياته ثم جاءت الحرب وتبعاتها فقضت عليها نهائيا.  ألم يكن في مخططاتكم إنقاذ الخلافة؟  ماذا كان رأي حلفائكم الإنكليز؟  وهل بالفعل، كما علمنا، بأنكم أعلنتم نفسكم الخليفة عندما ألغاها كمال اتاتورك في الآستانة؟.]

 

يبدو أني طرحت أكثر من سؤال في وقت واحد، ولكني أعتقد بأن هذه الأسئلة كلّها متعلقة ببعضها البعض، وإذا كان الشريف قد ثار على الخليفة ويعلم بأن هذه الثورة التي أتت في خضم حرب كبرى قد تذهب بهذا الموقع المقدس عند المسلمين فإنه لا بد قد كان لديه مخططات بديلة، بدليل إعلانه للخلافة عندما أعلن أتاتورك نهايتها في العام آذار 1924.

هز رأسه يمينا وشمالا وكأنه يقول لي لا أمل منك.  لعلّي طرحت السؤال بشكل مستفزّ أيضا!!.

"يا بني .. " وكان أول مرة يستخدم هذه الكلمة لمناداتي. "أنا لم أعلن الخلافة وإنما قبلت البيعة، فقد جعل أولي الرأي والحل والعقد من علماء الدين في الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى وما جاورها من بلدان والأنصار يفاجئوننا ويلزموننا بالبيعة، بالإمامة الكبرى والخلافة العظمى، بعد أن الغت أنقرة هذا المقام المكرّم، كان لا يجوز بقاء المسلمين أكثر من ثلاثة أيام بلا إمام، فقد قبلنا البيعة متوكيلن على الله عز وجل".

ماذا حصل بعد ذلك؟  كيف لي أن أسأله؟  من الواضح بأنه هنا بعيداً عن وطنه وأرضه في هذا البيت المتواضع لا يملك أي سلطة ولا يبدو لي في موقع الخليفة.

[اعذروا لي سؤالي وكلي خشية في أن أتجاوز الحدود، ولكن علي أن أسأل ماذا جرى بعد هذا، كيف تطورت الامور؟.]

عاد الهدوء إلى وجهه مشوبا بالحزن وعاد طيف ابتسامة ساخرة يائسة يرتسم على وجهه.  نظر إلي ورأيت هذه المرة الدموع في عينيه ظاهرة لا شك في ذلك.

" أعدت لي ذكرى تلك الايام ... لقد كاد الحلم عودة الخلافة للعرب أن يتحقق،  تم إعلان البيعة في الأردن وفلسطين وسوريا والعراق وحسبت بأني نجحت بالفعل في إنقاذ الخلافة الاسلامية من الزوال .. وتوافدت الأخبار والبرقيات تحمل إعلان المبايعة وزارني مئات الوفود وتلوا البيعة أمامي .. "
رفع رأسه قليلا إلى فوق وثبتت عيناه على نقطة في الجدار أمامه وكأنه انتقل إلى ذاك الزمان وراح يردد أمامنا نص البيعة بصوت عال شجي ..

"إني أبايع جلالة سيدي ومولاي الحسين بن علي بن محمد بن عون القرشي الحسني أميراً للمؤمنين. يعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقسم له على ذلك يمين الطاعة والاخلاص سراً وجهراً وما أقام الدين واعتبره مرجعا دينيا للعالم الاسلامي ، علّيَ بهذا عهد الله وميثاقه { ومن نكث فانما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فيسؤتيه أجراً عظيما }"

توقف عن الكلام برهة وساد الصمت في الغرفة، وبدت عليه معالم التأثر الشديد، وتأثرت أنا أيضاً وسرت ببرودة تسري في اطرافي، واختنق صوتي،  خفض رأسه ببطء وتحول بنظره إلي .. وكأنه قرأ في عيني إلحاحا لأعرف بقية الحكاية لا أقوى على البوح به... فتابع دون أن أسأله ..

"الخليفة لا يحكم بدون قوةٍ يا بني .. والذي جرى بعد ذلك بأن حلفائي تخلّوا عني في محاولتي لاسترجاع حق العرب في الخلافة، كما تخلّوا عني عندما تمسّكت بحقي وحق العرب بأراضيهم، دفعوا ابن سعود ليحتل أرضي بعد أن رفضت أن أجاريهم وأصادق على مخططاتهم الخبيثة ،  وفي نهاية المطاف عقدوا الصلح مع الأتراك أعدائي وضغطوا عليّ لأفعل مثلهم"

زفر زفرة طويلة وتابع: "وهكذا، تخليت عن كل شيء حقناً لدماء المسلمين، قلت لهم أكثر من مرة بأني لا أطلب شيئا لنفسي، وتنازلت عن العرش وعن الخلافة ،  وها أنا أجلس بعيداً هنا عن أرضي وعن سلطتي، بعيداً عن أحلامي، تملؤني الحسرة والحزن ".

توقف قليلاً ليتمالك نفسه قبل أن يتابع:

" يريدون أن أسلمهم بنفسي أراضي العرب، أرادوا أن أسلمهم فلسطين والقدس، وأوقّع على التنازل عنها لليهود.  لم يكن بمقدوري أن أفعل ذلك وإن كان الثمن أن أخسر ملكي".

أطرق برأسه وساد الصمت، وما زالت عيناي معلقتين به وأنا شارد الذهن ساهم...انتبهت إلى الأمير طلال يومئ لي بأن اللقاء انتهى، وبالفعل لم يكن الموقف يسمح لأطرح مزيداً من الأسئلة.

وبعيداً عن رأيي فيما سمعت، إن كنت أرى فيما قام به الشريف صواباً أم خطأ ، لكن عزّ علي أن أرى ما عرفناه قائدا للثورة العربية هكذا، عز عليّ أن أرى هذا الرجل الذي طالما اعتبرناه رمزاً لتحرر العرب وأساس فكرة وجودهم القومي في هذه الحالة.

فكرت بأن وضعه هذا يشبه كثيراً وضعنا اليوم، وربما وضعنا اليوم أسوأ والذّل والضعف الذي نعيشه أكبر، ولا استطيع بعد في بداية رحلتي الطويلة  أن أطلق أحكاماً نهائية وأقول هو من كان السبب .. لا استطيع الجزم .. ربما أستطيع القول بحسب ما علمت حتى الآن .. بأنه كان أحد الأسباب...ولا أعرف إن كان أهمها.

ترددت كلماته الأخيرة في رأسي وأنا عائد بالسيارة يصحبني الأمير طلال إلى ميناء فماغوستا حيث كانت تنتظرنا الباخرة هناك لتصحبنا في رحلة العودة ..

قلت في نفسي .. لم يرد التخلّي عن فلسطين؟!  سحبت ورقة من بين الأوراق التي كانت معي لأعيد قراءتها... برقية تهنئة للمعتمد البريطاني في جدة بمناسبة "استسلام القدس"! وانسحاب الجيش العثماني المدافع عنها أمام تقدم الجيش الانكليزي.

 

الرقم : 24

التاريخ : 28 صفر 1336

13 كانون الاول / ديسمبر 1917

سعادة المعتمد البريطاني بجدة الموقر

إن هذا النبأ مستلزم للفخر العظيم مما يُنتظر، ويُنتظر ما هو أبلغ منه، مع بيان جزيل التفاني

حسين

 

الجزء الرابع - نبش القبور

رواية تاريخية تفاعلية مستندة الى احداث تاريخية.

 

بقلم نضال معلوف
http://www.facebook.com/nedal.malouf

www.instagram.com/nedalmalouf

تابع تفاصيل مثيرة اخرى حول اللقاء على صفحة #نبش_القبور على فيس بوك
http://www.facebook.com/BygoneInterviews

 

 

لقاء جمال باشا في الجزء الاول

تابع في الجزء الثاني كيف تمكن مراد غريب من لقاء جمال باشا.

تابع في الجزء الثالث حديث يكشف حقائق هامة عن الثورة العربية مع العلامة محمد كرد علي


 

 

 

 


المواضيع الأكثر قراءة

SHARE

close