ما بعد السقوط: خطاب غائب وأمل مؤجل... بقلم : زاهر حبش

 

1.  خطابات سورية: 

بقي يوم 05 تشرين الثاني 2011 محفوراً في ذاكرتي لما حمله من مشاعر غير مسبوقة احست بها للمرة الأولى في حياتي. تلك المشاعر كانت مزيجاً من الانتماء لسوريا والوطنية والفخر بكوني سوري، كان لظهور العلم السوري آنها خلف مفكر سوري وطني يخاطب الشعب السوري "العظيم" بهدف نقل تطورات الوضع السياسي والميداني من منطلق الواجب الأخلاقي وليس من منطلق السلطة، أثر بالغ في إحساسي بضرورة متابعة الكفاح. هذا الخطاب جاء في وقت كان الشعب السوري يعاني تحت ويلات القمع والمجازر خلال الأشهر الأولى من انطلاق الثورة السورية. 

كنت قد اعتدت سماع خطابات قادة العصابات الأسدية والبعثية على مدار السنوات، وهي خطابات كانت غالباً مليئة بالركاكة الفكرية واللغوية. كانت تبث لتلقين الدروس والمحاضرات عن العصبية القومية والمؤامرات السياسية والاقتصادية التي تحاك ضد الدولة السورية بسبب مواقفها البطولية تجاه قضايا الأمة والمقاومة ضد الاستعمار والاحتلال. تلك الخطابات كانت تُذكر الشعب والأخوة المواطنين بواجب الالتفاف حول "القيادة الحكيمة" والتمسك بكذبة اللحمة الوطنية والصبر الاستراتيجي على العقوبات الجائرة بحق سوريا ولأخره من كليشيهات ومفردات محور المقاومة والتي حاولت السلطة الاستبدادية من خلالها البحث عن شرعية وتبرير وجودها. عدة دقائق من تلك الخطابات الرنانة كفيلة بأن تخرج المواطن عن مواطنته وانتمائه ولغته. 

2. خطاب السيد غليون والمعارضة الخارجية:

في خطابه، أثنى السيد برهان غليون على تضحيات الشعب السوري مشيداً بشجاعتهم ودورهم في تفكيك نظام المزرعة الأسدية والسعي نحو بناء دولة سورية الجديدة. حمل الخطاب في ذلك الوقت رؤية المعارضة لمستقبل الدولة والدستور السوري، متحدثاً بلسان السوريين، ومؤكدًا على دور المجلس الوطني السوري في الساحة السياسية لضمان حقوق الشعب السوري وتحقيق تطلعات الثوار نحو دولة ديمقراطية.

بعد ذلك الخطاب، أخفقت المعارضة السورية في الخارج في الاستمرار بمخاطبة الشعب السوري الذي تمثله، حيث انشغلت بالصراعات الداخلية على المناصب والتمثيل داخل مؤسسات المعارضة. وبدلاً من التركيز على مخاطبة الشعب السوري واستمداد الشرعية منه، اتجهت إلى مخاطبة الدول الخارجية للحصول على دعمها. هذا النهج أدى إلى انفضاض الكثير من السوريين عنها، واصفين إياها بمعارضة الخارج، مما أفقدها ما تبقى من ثقة وأدى إلى عزلتها وغياب دورها الفاعل داخل سوريا.

3. الخطاب الغائب: 

على مر التاريخ، شكلت الخطابات السياسية أداةً أساسية استخدمها القادة للتأثير على الجماهير وتوجيه الرأي العام، والتعبير عن الرؤى السياسية، خاصةً في أوقات الأزمات والتحولات الكبرى.

ورغم الحدث التاريخي المتمثل بسقوط نظام الأسد، وانعكاساته العميقة على الأوضاع المحلية ومنطقة الشرق الأوسط ككل، فقد امتنع قائد إدارة العمليات العسكرية، الذي يمثل الحاكم الفعلي لسوريا، عن تقديم أي خطاب متلفز أو عقد مؤتمر صحفي منذ سقوط النظام في 8 كانون الأول 2024.
حيث لم يتطرق إلى شرح رؤيته للمرحلة الانتقالية الحالية ومستقبل الدولة ودستور البلاد، أو إلى السياسات التي تنتهجها سلطات الأمر الواقع لمعالجة القضايا الحساسة مثل محاسبة مرتكبي الجرائم بحق الشعب السوري، ومصير المغيبين قسريًا، وسياسة إعادة توحيد الأراضي السورية في شرق الفرات أو تقديم جدول زمني معين لتحقيق التغييرات المنشودة. 

أن غياب الخطاب الرسمي فتح المجال لتأويل القرارات والتعيينات المثيرة للجدل، مثل تعيين شقيقه وزيرًا للصحة وتعيين وزير العدل وملف المقاتلين الأجانب. علاوة على ذلك، لم تُطرح خطة واضحة لتحسين الأوضاع الأمنية والمعيشية المتدهورة، ما أدى إلى تفاقم حالة الترقب والقلق لدى الشعب السوري، وجعل وسائل التواصل الاجتماعي، بما تحمله من شائعات وتكهنات، المصدر الوحيد للمعلومات في هذه المرحلة الحرجة.

غياب الخطاب من قِبل السيد الشرع لم يُقابَل بأي بديل فعّال من قبل الإدارة الحالية، التي تستمر في اتباع نهج منعدم الشفافية في التواصل مع المواطنين. حالة التخبط الإعلامي الحالية وغياب المؤتمرات الصحفية أو البيانات الرسمية الواضحة التي تمس القضايا الجوهرية الملحة للشعب السوري، وترك الأمور للشائعات والتكهنات ليست مبررة، وتتطلب تغييرًا سريعاً في طريقة التواصل مع الشعب لضمان بناء الثقة ومعالجة التحديات الراهنة بفعالية وشفافية.

هذا الغياب عن التواصل مع الشعب السوري الذي يقابله نشاط غير مسبوق لمخاطبة وطمأنة الخارج منذ الأيام الأولى لانطلاق عملية ردع العدوان يثير تساؤلات عديدة حول مبررات الاكتفاء على التواصل مع الخارج وتجاهل الداخل السوري. 

هل تسعى السلطة الجديدة إلى استمداد شرعيتها من الخارج، مما يعيدنا إلى تجربة المعارضة الخارجية التي قد نشأت لتمثيل السوريين قبل أن تنغمس في صراعات داخلية وتسعى لإرضاء الدول الأجنبية عوضاً عن تطلعات الشعب السوري؟ أم أن الأمر يعكس استعلاءً على الشعب السوري، مع تجاهل إرادته وتطلعاته؟ أم هو محاولة لخلق رمزية القائد؟ أم ربما يكون هروبًا إلى الأمام نتيجة افتقار السلطات الحالية لشرعية قانونية في ظل غياب الدستور؟

 

4.  الأمل المؤجل: 

من المؤكد أن الإرث الثقيل والملفات المعقدة التي تواجهها الإدارة الحالية على الساحة السورية تفرض تحديات هائلة. ومع ذلك، فإن تجاوز هذه الأزمة يتطلب خطوات جادة لتعزيز الثقة بين الإدارة الحالية والشعب السوري، وترسيخ شرعية الإدارة من خلال تبني خطاب سياسي وطني شامل. يجب أن يكون هذا الخطاب موجهاً بشكل مباشر إلى الشعب السوري، بحيث يتناول القضايا الداخلية بتفصيل وشفافية، ويعكس التزام السلطات الحالية بتحقيق التغيير والإصلاح.

من الضروري تقديم مقترحات واضحة بشأن شكل العلاقة بين الإدارة، وحكومة تسيير الاعمال، والمجتمع خلال المرحلة الانتقالية، مع التأكيد على احترام القانون وتعزيز مؤسسات الدولة والعدالة الاجتماعية والعودة إلى تطبيق قواعد الدستور السوري.

ينبغي تجنب تكرار أخطاء المعارضة السورية السابقة التي انشغلت بالخطاب الموجه إلى المجتمع الدولي على حساب مخاطبة الشعب السوري، مما أدى إلى انقسامات داخلية وفقدان الثقة. من الضروري العودة إلى خطاب وطني جامع، كذاك الذي قدمه برهان غليون في خطابه السياسي عام 2011، حيث تميز برؤية موحدة وأولويات واضحة تستهدف جميع شرائح الشعب.

هذا النهج من شأنه أن يبدد مخاوف السوريين على اختلاف توجهاتهم، ويضع أسساً لمسار بناء يتيح الانتقال إلى المرحلة الانتقالية بعيداً عن الاستقطابات والانقسامات.
يستحق الشعب السوري، بعد عقودٍ من التضحيات الجليلة التي بذلها لتحقيق الانتصار على مدار أكثر من خمسين عاماً، إدارة تُحاوره بشفافية وتُشركه بفعالية في صنع القرار وتحمل مسؤولية السلطة.

 

    المراجع: 

الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية حصاد السنوات الخمسة.

مركز جسور للدراسات

 

---------------------------------------------------------------

*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع

*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]


المواضيع الأكثر قراءة

SHARE

close