تحوم الكثير من الأسئلة حول الأزمة السورية، التي تبدو غاية في التعقيد، بقدر ما الأسئلة الخاصة بها مُحيّرة وشديدة التعقيد هي الأخرى.
إحدى أكثر الأسئلة تعقيداً، هي تلك التي تتعلق بمدى رغبة وقدرة كل من روسيا وإيران على إزاحة رأس النظام السوري، مع المحافظة على مؤسسات الدولة السورية، باتجاه حل سياسي للأزمة الراهنة.
إذ من المعلوم أن من أكثر القضايا الشائكة التي تُعيق إيجاد حل سياسي للصراع السوري الراهن، بأبعاده المحلية والإقليمية والدولية، هي تلك الحيثية المُتعلقة بإزاحة رأس النظام، بشار الأسد، والنخبة المُقربة منه، مع الحفاظ على مؤسسات الدولة منيعة عن الانهيار، خاصة منها، مؤسستي الجيش والأمن، حسبما يرغب أكبر قطبين دوليين، روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي حال سلّمنا جدلاً، بحسن نوايا اللاعبين الإقليميين والدوليين في سوريا، باتجاه الحل السياسي للصراع السوري، نجد أن القضية الشائكة المتعلقة بإزاحة الأسد، واحدة من أكثر القضايا إثارةً للحيرة والجدل.
فالسؤال المطروح حول رغبة وقدرة كل من روسيا وإيران على إزاحة الأسد مع الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية، يتضمن حيثتين، وجدل متعلق بأطراف التساؤل الثلاثة.
الحيثيتان هما: الرغبة والقدرة، لدى كل من إيران وروسيا. أما الأطراف الثلاثة، فهي هنا، إيران أولاً، روسيا ثانياً، وأخيراً، وهو الطرف الأكثر تعقيداً، النظام السوري، وعلاقته بمؤسسات الدولة، وبرأس النظام ونخبته.
بخصوص الحيثيتين، تُطرح نظريات عدة، فالبعض يرى أن إيران مثلاً، لا تريد إزاحة بشار الأسد مُطلقاً، فيما يرى آخرون أنها تريد ذلك، لكنها غير قادرة. وبالمثل، ينطبق الجدل على الموقف الروسي، مع ترجيح لنظرية الرغبة الروسية بإزاحة الأسد مع عدم توفر القدرة على ذلك، بصورة تضمن الحفاظ على مؤسسات الدولة منيعة عن الانهيار.
وفي النقطة الأخيرة تحديداً، يبدو أن قوة الأسد تكمن في ضعفه. فإذا ضُغط كثيراً عليه، روسياً، قد ينهار النظام برمته، وتنهار معه مؤسسات الدولة السورية، خاصة مؤسستي الجيش والأمن. أي أن الأسد، ربما، يلوح للروس بأن بقاء هاتين المؤسستين مرتبط ببقائه. الأمر الذي يجعل الطريق وعرة جداً أمام روسيا باتجاه تنفيذ أي تغيير سياسي داخل قمة هرم النظام بدمشق.
التحليل السابق بالنسبة للموقف الروسي، يمكن إسقاطه بالمثل على الموقف الإيراني، مع وجود نظريات تجزم بقدرة طهران على إزاحة الأسد.
في رأي شريحة واسعة من المراقبين الغربيين، الأمريكيين منهم على وجه الخصوص، لا يعدو الأسد كونه ورقة لعب روسية – إيرانية، يمكن الاستغناء عنها حينما تقتضي المصالح ذلك. لكن مكمن التعقيد هنا، من وجهة نظر غربية، أن هذا الاستغناء يتطلب توافقاً روسياً – إيرانياً، حتى يتم بصورة آمنة، دون أي خطر على مؤسستي الجيش والأمن.
لكن، بقدر ما تملك التحليلات والنظريات السابقة حيزاً من الموضوعية في توصيف هذا الجانب المعقّد من الأزمة السورية، بقدر ما تُغفل الضلع المخفي من هذا الجانب، وهو الأكثر أهمية.
هذا الضلع المُخفي، والذي قلّما تناولته الأبحاث والتحليلات، هو ذلك المُتعلق بتركيبة النظام السياسي السوري، وعلاقته برأس النظام ونخبته، وعلاقة هذا الرأس ونظامه، بمؤسسات الدولة، وتحديداً، مؤسستي الجيش والأمن.
فإذا أمكن لنا تحقيق تشريح علمي موضوعي لهذا الضلع، وإيجاد توصيف دقيق للعلاقة بين مكوناته، أمكن لنا أن نجيب على التساؤل المعقّد: هل تستطيع إيران وروسيا إزاحة الأسد مع الحفاظ على مؤسستي الجيش والأمن متماسكتين؟
بالعودة إلى أديبات التحليل السياسي، نجد أن أي قيادة سياسية، مهما بلغت سطوتها أو تركيزها للسلطة، ليس بوسعها أن تحكم بمفردها. فإدارة شؤون الدولة والحكم عملية تبدو متعذرة وربما غير ممكنة أصلاً، بدون "نخبة سياسية".
وهنا ننبه إلى أن قصدنا بـ "النخبة"، يختلف عن المعنى الشائع في أذهان عامة الناس، حول النخبة المُثقفة. بل قصدنا، النخبة السياسية، التي هي جماعة محدودة العدد، لها تأثير ونفوذ واضح في عملية صنع القرار.
وفي تفسير كيف تحكم النخبة السياسية، نجد من أكثر الاتجاهات شيوعاً في علم السياسة، والتي تقارب الحال الراهن في الأنظمة السياسية التقليدية، ومنها النظام السياسي السوري، "الاتجاه التنظيمي"، الذي يقول لنا، بأن سلطة النخبة وقدرتها على التأثير السياسي يعود إلى امتلاكها لقدرات تنظيمية أعلى، تمكنها من إخضاع القوى الاجتماعية الأخرى لسيطرتها.
وبكلمات أخرى، حسب المفكر السياسي الشهير، موسكا، فإن افتقار الجماهير للتنظيم، هو الذي يتيح أمام القلة المنظمة، أي النخبة، الفرصة للسيطرة على الكثرة غير المنظمة.
وبعد الكثير من البحث والتنقيب في نظريات النخبة في علم السياسة، نخلص إلى أن معظم الدراسات المتخصصة في هذا المجال، تجزم بأن كل النظم السياسية هي نظم نُخبوية، حتى أكثر النظم ديمقراطية. وأن الفرق بينها فقط، يكمن في أساليب ومصادر فرز وتجنيد وتجديد هذه النخب.
وفي حالة النظم السياسية التقليدية، ومنها النظام السياسي السوري، تبدو الأسرة أو القبيلة أو الطائفة، المصدر الأساسي لعملية تجنيد وتجديد النخبة الحاكمة، على خلاف ما هو قائم في النظم الحديثة، حيث يكون الجيش والشركات الكبرى والجهاز الإداري والأحزاب السياسية، هي مصادر تجديد النخبة الحاكمة.
بناء على ما سبق، يُطرح التساؤل الآتي: ما مصادر تجديد النخبة الحاكمة في النظام السياسي السوري؟
بما أنه نظام نخبوي تقليدي، يبدو أن الطائفة أو القبيلة أو الأسرة، هي مصدر تجديد النخبة الحاكمة. وهنا نجد إشكاليتين، الأولى، أن تجديد النخبة الحاكمة، لا يعني إزاحتها بالكامل، بل تغيير بعض عناصرها، وإبقاء بعضها الآخر. والإشكالية الثانية، أن مصدر تجديد النخبة الحاكمة في سوريا، هي إما الأسرة، "آل الأسد بصورة رئيسية، والأسر الكبرى المُتصاهرة معها، آل مخلوف مثلاً"، أو القبيلة والطائفة.. بكلمات أخرى، لتجديد نخبة النظام السياسي، مع الحفاظ عليها دون الانهيار الكامل، يتطلب شخصيات من داخل الدائرة الضيقة المقربة من رأس النظام، قادرة على قيادة هذا التغيير.
وهنا تأتي الإشكالية الأكبر، في حال رفض بشار الأسد والنخبة المقربة منه لعملية التجديد تلك، كيف يمكن أن تتم هذه العملية؟، وهل يمكن أن تتم بشكل آمن مع الحفاظ على تماسك مؤسستي الجيش والأمن؟
قد يكون الجواب الأمثل لهذه الإشكالية، والصادم إلى حد ما لبعض المنظّرين للحل السياسي في سوريا، أن النظام السياسي السوري من نوعية الأنظمة التي يصعب، إن لم نقل يستحيل، تجديد نخبها، إلا بإرادة رموز هذه النخب ذاتها. لأنها نخب ضيقة، قائمة على علاقات القرابة والمصاهرة والانتماء الطائفي والقبلي، الأمر الذي يجعل إزاحة بعض أعضاء النخبة، قسراً، خطوة قد تعرّض كامل النظام السياسي للخطر. ومع ما نعلمه من السيطرة شبه المطلقة للنخبة الحاكمة على مؤسستي الجيش والأمن، حيث درجات المأسسة متدنية للغاية، والشللية، والعلاقات الأخطبوطية "غير الرسمية"، أقوى من التراتيبة الرسمية.. نصل إلى نتيجة مفادها، يستحيل تقريباً تجديد النخبة الحاكمة في سوريا.
وبالعودة لأدبيات التحليل السياسي، نجد أن ابن خلدون قدم سيناريو شهير لتغيّر الأنظمة الحاكمة التقليدية، وإن بصيغ قبلية، بناء على مشاهدات زمنه. لكن النظرية الخلدونية، كما هو معروف بين المتخصصين في علم السياسة، قابلة للإسقاط على مختلف الأنظمة السياسية التقليدية المعاصرة، ومن بينها النظام السياسي السوري. حيث تغيّر النظام يتطلب نخبة جديدة كُليةً، تنقضّ على السلطة، وتُزيح بالقوة النخبة القديمة، وتسيطر على مؤسسات الدولة، لتؤسس لدولة، بوجه جديد كُليةً.
خلاصة ما سبق، لا يمكن تحقيق أي تغيير سياسي للنخبة الحاكمة بسوريا، إلا بموافقة بشار الأسد شخصياً، والدائرة الضيقة المحيطة به. وفي حال عدم موافقة هؤلاء، لا يمكن تحقيق حل سياسي بناء على معادلة التوافق بين المعارضة والنظام، حسب ما يُطرح حالياً في مفاوضات جنيف. ولا تستطيع لا إيران ولا روسيا تحقيق تغيير في قيادة النظام، دون موافقة الأسد ونخبته.
وكنتيجة أخيرة، يبدو أن التغيير في سوريا، إن كان سيتم، وهو على الأغلب كذلك، سيتم بصورة قسرية، تترافق مع إسقاط كامل النظام السياسي السوري، وبعض مؤسسات الدولة، في مقدمتها، مؤسستي الجيش والأمن. أما ما الذي سيحصل بعد ذلك، فهذا بحث آخر، يتطلب مقالاً مفصّلاً آخر.
إياد الجعفري