فيروس كورونا: كيف تجسدت الأوبئة في روايات وأعمال أدبية

19.04.2020 | 01:29

في أوقات تكتنفها الشكوك وتسودها أجواء غريبة من نوعها كتلك التي نعيشها حاليا، ونزيد خلالها عزلتنا الاجتماعية بهدف تقليل معدل الإصابات بفيروس كورونا المستجد، توفر لنا الأعمال الأدبية المهرب والعزاء والسلوى والرفقة كذلك.

لكن هناك من قد لا يشعر بالراحة نفسها، إزاء تزايد جاذبية القصص والروايات، التي تتناول تفشي الأوبئة. فالكثير من هذه الأعمال، بات يبدو كما لو كان كتبا إرشادية، توضح لنا كيفية التعامل مع وضعنا الراهن. كما يقدم لنا العديد منها تسلسلا زمنيا دقيقا لوتيرة تطور وباء ما، بدءا من ظهور الأعراض الأولى له وحتى بلوغ ذروته الكارثية، ثم العودة بعد ذلك إلى "الأوضاع العادية".

غير أن تلك الروايات تظهر لنا في الوقت نفسه، أننا واجهنا من قبل الوضع الكارثي الحالي، ونجونا منه كذلك.

من بين هذه الأعمال، "دفتر أحوال عام الطاعون"، وهي رواية أصدرها الكاتب الإنجليزي دانييل ديفو عام 1722، ووثق من خلالها الطاعون الذي اجتاح لندن عام 1665، مُقدما تأريخا تفصيليا، على نحو يبعث القشعريرة في الأبدان لأحداثه، التي نستذكر من خلالها ردود فعلنا حيال الصدمة الأولى الناجمة عن ظهور وباء جديد، وتفشيه على نحو شرس بيننا.

تبدأ أحداث الرواية في سبتمبر/أيلول 1664، عندما تواترت شائعات بشأن عودة هذا النوع من الأوبئة إلى إحدى المقاطعات الهولندية. بحسب الأحداث، يتلو ذلك حدوث أول حالة وفاة يُشتبه في أنها ناجمة عن الوباء، في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه.

بعدها يحل فصل الربيع، فيصف لنا الكاتب ذاك التزايد المنذر بالسوء، الذي طرأ على عدد بلاغات الوفاة التي كانت تُلصق في الأبرشيات.

وبحلول يوليو/تموز 1665، بدأت السلطات المحلية في لندن تطبيق قواعد جديدة، باتت روتينية بالنسبة لنا في عام 2020. من بينها - كما ورد في العمل الأدبي- وقف إقامة "كل الولائم العامة، خاصة تلك التي تقيمها الشركات في هذه المدينة (لندن) وكذلك وقف تقديم وجبات العشاء في الحانات، وغير ذلك من الأماكن التي تشهد أنشطة ترفيهية يشارك فيها العامة، لحين تطبيق نظام مختلف يُجيزها من جديد".

وأكد ديفو في روايته أنه "لم يكن هناك ما هو أكثر فتكا بسكان هذه المدينة، أكثر من إهمالهم المفعم بالكسل" في التعامل مع هذه المحنة. بعد ذلك وفي أغسطس/آب من العام نفسه، يصبح الوباء، بحسب الرواية، "عاتيا ومروعا للغاية "، قبل أن يصل إلى ذروته في مطلع الشهر التالي "ليجتاح - وفي وقت واحد - أسرا بكاملها، بل وفي الواقع شوارع كاملة بما فيها من عائلات".

وبحلول ديسمبر/كانون الأول، "استنفدت العدوى طاقتها، كما حل الطقس الشتوي بسرعة، وكان الهواء نقيا وباردا. تعافى غالبية من سقطوا فريسة للمرض، وبدأت المدينة تستعيد صحتها". وعندما عاد السكان إلى بيوتهم في شوارع لندن أخيرا "ساروا في الطرقات يلهجون بحمد الله، على أنهم قد أفلتوا بحياتهم".

هنا بوسعنا التساؤل، ما الذي يمكن أن يكون أكثر دراماتيكية، من أن يرسم الكاتب بقلمه، صورة لطاعون في طور التشكل والتفاقم، ويصوّر تلك اللحظات التي تتصاعد فيها المشاعر والضغوط، وتستيقظ غريزة البقاء من سباتها؟ على أي حال، كان تناول حدث مثل الطاعون، أمرا طبيعيا بالنسبة لروائيين ذوي اتجاه واقعي مثل ديفو، وبعده بسنوات طويلة ألبير كامو.

وتدور أحداث رواية "الطاعون" للكاتب ألبير كامو في مدينة وهران الجزائرية، لتحكي لنا كيف شهدت هذه المدينة إغلاقا كاملا لأشهر عدة، بالتزامن مع تفشي وباء يودي بحياة الجانب الأكبر من سكانها، وهو ما حدث على أرض الواقع هناك في القرن التاسع عشر. ويزخر العمل بالكثير من أوجه الشبه مع الأزمة التي نواجهها اليوم.

وتتناول الرواية كيف ظل المسؤولون المحليون في البداية، يحجمون عن الاعتراف بالمؤشرات المبكرة المُنذرة بالطاعون، والمتمثلة في جثث الفئران النافقة التي تناثرت في الشوارع. وبحسب الأحداث، يتساءل كاتب عمود في الصحيفة التي تصدر في وهران قائلا: "هل يدرك مسؤولو مدينتنا أن الجثث المتحللة لهذه القوارض، تشكل خطرا داهما على السكان؟".

ويعكس الراوي، الدكتور برنار ريو، في شخصيته تلك البطولة الصامتة الهادئة، التي يبديها العاملون في الفرق الطبية في مثل هذه الحالات. ويقول في أحد مقاطع الرواية: "ما من فكرة لديّ عما ينتظرني، أو ما الذي سيحدث عندما ينتهي كل هذا الذي يجري الآن. ما أعرفه في اللحظة الحالية، أن هناك مرضى بحاجة للعلاج".

في النهاية، ثمة درس يستخلصه الناجون من الطاعون مفاده بـ "أننا نعلم الآن أنه إذا كان هناك شيء يمكن أن يتوق له المرء دائما، ويناله أحيانا، فهو الحب الإنساني".

وإذا انتقلنا إلى وباء الأنفلونزا الإسبانية الذي اجتاح البشرية عام 1918، سنجد أنه أعاد صياغة شكل العالم، وقاد إلى وفاة خمسين مليونا من سكانه، بُعيد مقتل عشرة ملايين أخرين خلال الحرب العالمية الأولى. المفارقة أن التأثير المأساوي الذي خلّفه الوباء على العالم، بدا باهتا في ظل الأحداث الأكثر مأساوية المتعلقة بالحرب، والتي شكلت مصدر إلهام لعدد لا حصر له من الروايات.

وفي وقت يتبع فيه الناس في مختلف أنحاء العالم قواعد مثل "التباعد الاجتماعي"، وتشهد دول في شتى أرجاء المعمورة عمليات "إغلاق كامل"، يبدو مألوفا بالنسبة لنا الوصف الذي قدمته الكاتبة الأمريكية كاثرين آن بورتر، للخراب الذي خلّفته "الأنفلونزا الإسبانية" في سياق روايتها "حصان شاحب، فارس شاحب" التي صدرت عام 1939.

ففي أحد مقاطع هذا العمل، وبعد أن تكتشف البطلة ميراندا أنها مصابة بالمرض، يقول لها صديقها آدم: "الأمور على أسوأ ما يكون. كل المسارح، وتقريبا جميع المحال والمطاعم مغلقة، أما الشوارع فتغص بالجنازات طيلة ساعات النهار، وتكتظ بسيارات الإسعاف طوال الليل".

وتُصوّر بورتر في عملها، نوبات الحمى التي عصفت بـ "ميراندا" والأدوية التي كانت تتناولها، والأسابيع التي اشتدت عليها فيها وطأة المرض قبل أن تبدأ في التعافي، إلى أن استفاقت على عالم جديد، تشكلت ملامحه بفعل الخسائر البشرية الهائلة الناجمة عن الحرب والوباء.

اللافت أن الكاتبة نفسها كادت أن تفارق الحياة جراء "الإنفلونزا الإسبانية". وقالت في مقابلة صحفية عام 1963 "لقد تبدلت بطريقة غريبة نوعا ما. استغرق الأمر مني وقتا طويلا، لكي أخرج من عزلتي وأحيا بشكل طبيعي في العالم من جديد. لقد كنت حقا `معزولة وأعاني من الإقصاء` بكل معنى الكلمة".

أحداث يمكنك تصديقها بشدة

أما الأوبئة التي ظهرت في القرن الحادي والعشرين، مثل تفشي متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد (سارس) عام 2002، وفيروس كورونا المرتبط بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس) عام 2012 والإيبولا عام 2014، فقد شكلت مصدر إلهام لأعمال تناولت ما يعقب مثل هذه الأحداث الكارثية، من خراب وانهيار، وما نشهده جراءها من مدن خاوية على عروشها، وأماكن طبيعية يعمها الدمار.

وفي رواية "عام الطوفان" التي صدرت عام 2009، تتناول الكاتبة الكندية مارغريت آتوود، عالم ما بعد تفشٍ وبائي، أدى إلى أن تصل البشرية إلى حافة الانقراض. وتدور أحداث العمل بعد 25 عاما، من فناء غالبية سكان الأرض، بفعل "طوفان دون ماء" تمثل في وباء خبيث "انتقل عبر الهواء، وكأنه يطير بجناحين، ليجتاح المدن كما الحريق المستعر".

وأبرزت آتوود في روايتها الشعور بالعزلة الشديدة الذي يساور بعض الناجين من أوبئة مثل هذه. من بين هؤلاء - وفقا للرواية - توبي التي تعمل بستانية. وترصد الكاتبة في أحد المقاطع صورتها، وهي تمسح ببصرها الأفق بحثا عن أي شخص في الجوار، وذلك خلال جلوسها في بستان تقتات على ما تزرعه فيه، فوق سطح منتجع صحي مهجور.

وتقول آتوود في هذا المقطع: "لا بد أن يكون هناك شخص آخر قد تبقى. لا يمكن أن تكون هي الشخص الوحيد الموجود على ظهر الكوكب. لا بد أن هناك آخرين. لكن هل هم أصدقاء أم أعداء؟ وإذا رأت أحدهم، كيف ستتأكد من ذلك؟".

وعبر مقاطع تستعيد فيها ما حدث في الماضي، تشرح آتوود كيف دُمِر التوازن بين عالم الطبيعة وعالم البشر، جراء أنشطة الهندسة الحيوية التي ترعاها الشركات والمؤسسات ذات السطوة والنفوذ. كما تتطرق إلى الكيفية التي ناضل بها نشطاء مثل توبي ضد هذه الأمور. وفي هذه الرواية، استندت الكاتبة الكندية، لمتوجسة على الدوام من الجوانب السلبية للعلم، إلى فرضيات تبدو واقعية ومنطقية بشدة، وهو ما يجعل "عام الطوفان" عملا ينطوي على بصيرة استباقية ثاقبة على نحو مرعب.

ولعل الجاذبية الشديدة التي يتسم بها "أدب الأوبئة"، تعود إلى أنه يتناول وقوف البشر جميعا في صف واحد متآزر لمواجهة عدو لا يمت للبشرية بصلة. ففي هذا النوع الأدبي، ما من أخيار أو أشرار. كما أن الوضع الذي يتناوله الكُتّاب من خلاله، يبدو شديد الحساسية والدقة. ففرص بقاء كل شخصية من شخصيات هذه الأعمال على قيد الحياة، تتساوى مع احتمالات هلاكها سواء بسواء. ومن شأن تنوع ردود الفعل، التي يمكن أن تصدر من الأفراد، إزاء ظروف قاسية مثل هذه، توفير مادة خصبة للكاتب والقارئ على حد سواء.

أخذنا ذلك إلى رواية "قطع" التي أصدرتها الكاتبة "لينغ ما" عام 2018، والتي وصفتها "ما" نفسها، بأنها عمل يتناول "أوضاع العالم في ما بعد كارثة هائلة دمرته تماما تقريبا"، وذلك على خلفية سيرة حياة أحد المهاجرين. وتُروى الأحداث على لسان فتاة من جيل الألفية تُدعى كاندس تشِن، تعمل في دار نشر تتخصص في طباعة الكتاب المقدس، ولها مدونة خاصة بها على شبكة الإنترنت.

ونعلم من سياق الرواية، أن تشِن هي واحدة من بين تسعة ناجين، فروا من مدينة نيويورك خلال "وباء" اجتاحها عام 2011، وتُطلق عليه الكاتبة اسم "شِن". وتُصوّر "ما" في روايتها مشهد المدينة بعدما "انهارت بنيتها التحتية، وابتلعت الفوضى شبكة الإنترنت فيها، وتوقفت شبكة الكهرباء هناك عن العمل".

ويروي العمل كيف انضمت كاندس إلى مجموعة مسافرين يتجهون برا صوب مركز تجاري في إحدى ضواحي شيكاغو، للاستقرار هناك. وتمر السيارة التي يستقلها الجميع عبر منطقة يقطنها "المحمومون"، وهم أُناس "يعيشون حياة شديدة الرتابة، يحاكون فيها كل ما هو عتيق من مفردات وإيماءات" إلى أن يوافيهم الأجل المحتوم.

ويبدو أمر هؤلاء الناس محيرا؛ فهل نجو من الوباء لأنهم - وبشكل عشوائي - كانوا محصنين منه؟ أم أنهم "اختيروا" لذلك بـ "هَدي إلهي"؟ وسرعان ما تكتشف البطلة أن نيلها الأمان عبر انضوائها تحت لواء هذه المجموعة، تطبيقا لفرضية تقول إن فرص تعرض الفرد لمخاطر تقل إذا كان ضمن جماعة، يقتضى منها الطاعة العمياء للتعاليم الدينية التي يتبعها "المحمومون" وقائدهم بوب، ذاك الشخص المستبد الذي كان يعمل في السابق خبيرا في تكنولوجيا المعلومات. ولم تلبث كاندس أن تمردت على كل ذلك.

بطبيعة الحال، لا يشبه وضعنا الحالي بأي شكل من الأشكال، ذلك التصور المغرق في تطرفه، الذي تتبناه "ما" في روايتها. فالكاتبة تفترض في عملها سيناريو بالغ السوء، لا نواجهه حاليا لحسن الحظ. وتبحث في هذا الإطار، ما يمكن أن يحدث في عالمها المُتخيل، بعدما ينقشع عنه الوباء.

وتُطرح أسئلة من قبيل: من سيتسنى له إعادة بناء المجتمع ولملمة شتات ثقافته بعد انتهاء المحنة؟ ومَنْ يحق له، مِن بين من بقوا على قيد الحياة بالصدفة البحتة، اتخاذ القرار الخاص بهوية من ستصبح بيده زمام السلطة؟ ومن يحق له كذلك وضع الإرشادات الخاصة بالممارسات الدينية؟

وفي عام 2014، أصدرت الكاتبة الكندية إيميلي سانت جون مانديل رواية "المحطة الحادية عشرة"، التي تدور أحداثها قبل تفشي أنفلونزا سريعة الانتشار بشكل غير مألوف في العالم، وكذلك خلال فترة تفشيها، وبعد انتهاء هذه الأزمة أيضا. وقد انطلقت العدوى - بحسب الرواية - من جمهورية جورجيا "إذ انفجرت هناك وكأنها قنبلة نيوترونية فوق سطح الأرض" لتزهق أرواح 99 في المئة من سكان العالم.

ووفقا للأحداث، يبدأ تفشي الوباء في ليلة يصاب فيها ممثل يجسد شخصية الملك لير، في المسرحية التي تحمل الاسم نفسه، بأزمة قلبية خلال وقوفه على خشبة المسرح. ونعرف أن زوجته، مؤلفة سلسلة كتب هزلية متخصصة في مجال الخيال العلمي؛ تدور أحداثها على كوكب يُطلق عليه اسم "المحطة الحادية عشرة". وتظهر الزوجة في الأحداث بعد 20 عاما من بدء الانتشار الوبائي، بالتزامن مع أداء مجموعة من الممثلين والموسيقيين القادمين مما يُعرف في الرواية باسم "أرخبيل من المدن الصغيرة"، مسرحيتيْ "الملك لير" و"حلم ليلة منتصف الصيف"، في مراكز التسوق التي باتت مهجورة في أعقاب الوباء.

وتحمل هذه الرواية في ثناياها أصداء من "حكايات كانتربري"، وهي مجموعة من القصص القصيرة للكاتب جيفري تشوسر، تدور أحداثها على خلفية وباء الطاعون الذي اجتاح أوروبا في القرن الرابع عشر، وعُرِفَ باسم "الموت الأسود". وتشكل هذه المجموعة ذات الطابع الساخر والناقد بشدة، نموذجا غير مألوف لهذا النوع الأدبي، الذي يعتمد على تجميع مجموعة من القصص القصيرة، على نحو يجعلها توصل مجتمعة رسالة واحدة وتعزز معنى بعينه.

وبدورها تطرح مانديل عددا من الأسئلة في روايتها؛ من قبيل: من هو الشخص أو الجهة التي يتعين أن توكل إليها مهمة تحديد ما الذي يمكن اعتباره فنا؟ وما هي الشروط التي يؤدي توافرها في شيء ما، إلى أن نعتبره عملا فنيا؟ كيف سنعيد بناء العالم بعدما فُرِضَ علينا الحصار فيه بفعل ذاك الفيروس الخفي؟ وكيف ستتغير الفنون والثقافة جراء الوباء؟

في النهاية يمكن القول، إنه ما من شك في أن ثمة أعمالا أدبية في طور التحضير الآن، بشأن ما نواجهه في الوقت الحاضر، ما يحدو بنا للتساؤل عن الطريقة التي سيصوّر بها الكُتّاب في الأعوام المقبلة الوباء الحالي، وكيف سيوثقون ما شهدته الفترة الراهنة من تنامٍ كبير لروح التضامن بين أفراد المجتمع وبعضهم بعضا في مختلف دول العالم، وكيف سيرصدون البطولات التي يبديها الآن عدد لا حصر له ممن يعيشون بيننا.

كل هذه أسئلة يتعين علينا التفكير فيها مليا، بالتزامن مع تخصيصنا الآن وقتا أكبر للقراءة والاطلاع، وتحضيرنا أنفسنا في الوقت ذاته، لرؤية العالم الجديد، الذي سيبزغ في أعقاب انتهاء محنتنا الحالية.

المصدر : بي بي سي

 


TAG: