-
الفساد المطلق والغباء المبين.الجزء 2.. بقلم: محمد نجدة شهيد
كان الاب جورج يتلو الصلوات وهو يُمسك الكتاب المقدس في يده دوماً رغم أنه لم يكن يفتحه ، كان يحفظ آياته كلها عن ظهر قلب . وكان الراهب رزق يعتزل الجميع بعد انتهاء الصلوات ويهبط سريعاًإلى صومعته المفضلة في قبو الدير ويبقى فيهابقية اليوم بدون طعام أو شراب . يجلس في عتمتها قليلاً قبل أن يسير إلى منضدة صغيرة ، ويوقد الشمعتين الموضوعتين فوقها ليمتلأ المكان بالضوء . ثم يقف طويلاً أمام تمثال السيدة العذراء التي تحمل طفلها ويحني رأسه ثم يركع على ركبتيه ويبدأ في الصلاة في خشوع وطمأنينة.
تعود مروان على صمت الراهب رزق الطويل . يظل يراقب ظهر الراهب رزق وهو يواصل صلاته الصامتة . كان يسمع منه كل مساء أقوالاً يشع منها اليقين وتنبض بخشية الله وتكشف عن نفس مطمئنة وادعة مطبوعة على حب الخير ترى بنور الله .علينا أن نشكر الرب لأنه في كل يوم يمنحنا شمساً جديدة . اعترض مروان على الفور ، وقال : لا لا هيك ما بيصير لازم يوم للشمس ويوم للقمر .
وسمع منه ذات مساء آية من الكتاب المقدس تقول "إن أردت أن تكون كاملًا اذهب وبع كل مالك ووزعه على الفقراء ، وتعال اتبعني" . شعر مروان أنها رسالة شخصية تمس حياته وماضيهالأسود . لكن مروان لم يكن يعرف كيف يتخلص من المال الأسود الذي جمعه من كل وجوه الحرام ، وكيف يتخلص من الكوابيس الدموية التي تلاحقه باستمرار .
كان الراهب رزق يتأمل مروان بعينين فاحصتين . كان يحدق طويلاً في عيني مروان كأنه يريد النفاذ لداخله . كان الراهب رزق رجلاً طويل القامة ، أميل إلى الامتلاء ، يملك عينين مليئتين بالتأمل والحزن . تسآل أمام مروان كيف يُمكن لشخص يجمع المال الأسود من كل وجوه الحرام ، ويداه ملوثتان بدم الأطهار ، وهو لم يقم بأي عمل صالح في حياته ، ولم يُصلِّ مرة واحدة ، ولم يَصُم يوماً واحداً ، كيف يُمكن لهذا أن ينال الخلاص؟ اصفر وجه مروان ولم يتوقع أن يبرزالماضي الأسود فجأة أمامه . اخذ يرتجف بشده ، وسيطر الغباء المبين مرة أخرى عليه وهو يقول ليش بالآخرة ما بيطلع عفوعام !
لم تهدأ رجفته حتى بعد أن غادر إلى صومعته وصعد إلى فراشه وتغطى بكلالأغطية . اقتنع الراهب رزق على الفوربصدق علامات البلاهة البادية فوق وجه مروان . واكتشف أنه أمام لص طريد جعل من أحد مخازن المدينة مغارة له طيلة عقود طويلة . ويريد اليوم أن ينسف ماضيه ويطمس ملامح عالمه الأسود القديم المرسوم على نعال باليه . جاء إلى الدير هرباً من تعاسة شخصية لم يكن قادراً على احتمالها ، وخوفاً من انتقام ضحاياه الذين كانوا يُجدون في البحث عنه في كل مكان .
ومع مرور الأيام بدا يتكشف للراهب رزق أكثر فأكثر ماضي مروان الغامض وعالمه الشرير.سأله ونظرة الازدراء الباردة تطل من عينيه الصافيتين ، كيف تؤدون طقوس الصلاة في دينكم ؟ وقف مروان جامداً ، يختلج وجهه بمختلف الانفعالات كأنه على وشك البكاء .
سجين الكوابيس
كانت صومعة مروان صغيرة وباردة ورطبة تداخلت رطوبتها في عروقه ، لا يوجد فيها إلا فراش صغير وصليب ضخم معلق على الحائط ، ونافذة تطل على المقبرة وعلى الصحراء الممتدة من أحد اطرافها حتى حدود الأفق . كان على حوافها اشجار قديمة يُعتقد أن ارواح مخزونة فيها لا تريد أن تغادر عالمها الارضي .
وفي تلك الليلة حلم مروان بأمه عيشة ، رأى ملامحها بوضوح ، لم تكن تشكو أو تتألم . كانت تحس بأصابع الشماط الكبير وهي تزحف على جسدها . كانت باردة ومرتجفة . كانت ترتعد تحت جسده ، من شدة الخوف . فتح مروان عينيه في فزع . كانت الصومعة الصغيرة معتمة لا يتسلل إليها إلا ضوء خافت في النهار قادم من أعلى النافذة . وقف جالساً غارقاً في الصمتيلتقط انفاسه في صعوبة . غفى ثانية . عاودته الأحلام والرؤى المؤرقة . لم ينعم مروان بليلة واحدة بنوم هادئ مستقر منذ أن تلبسته روح الشيطان . كانت الأحلام المزعجة والرؤى المفزعة تطارده كل ليله .
وفي اليوم التالي حاول مروان أن ينام مفتوح العينين . عاودته الاحلام . لا يسمع سوى صوت طيور مفزوعة وحيوانات تخور أو تعوي .رأى نفسه يسير في ممر قاده إلى غرفة معتمة يتسلل إليها ضوء خافت من خلال فتحات رفيعة في الستائر المسدلة ، هواء راكد لا توجد مدفأة لا فتحات للتهوية ، وعندما تعودت عيناه على العتمة شاهد أشياء غريبة لم يشاهدها من قبل تمثال لامرأة محنية للأمام تقف كأنها تتأهب للخطو خارج هذه العتمة . رؤوس حيوانات محنطة . وفي وسط القاعة كان هناك تابوت ضخم من الحجر منقوش ومحفور عليه اشكال غريبة في داخله جثة رجل بالغ القصر أكرش إلى جانب قط عجوز لا يحمل إلفه الحيوانات يلعق بلسانه وجه الاكرش الشاحب ولعابه يسيل فوق عينيه وسائر وجهه .خُيل لمروان أن العجوز الاكرش يراقبه من خلف جفنيه المغلقتين .
ازاح الستائر حتى ينفذ المزيد من الضوء . أعاد النظر في الابتسامة الشاحبة للجثة . وفجأة توقفت انفاس مروان . تجمد من الرعب وهو يرى العجوز الاكرش يخرج من التابوت ويمد يداً مرتعده ليشعل عقب سيجارة حمراء طويلة ويقول هشـ هشـهشمو حبيبي.. تأخرت كتير علي . كان العجوز الاكرش يتحدث إلى مروان بعينين باردتين محدقتين محملتين باللوم . ربما لم يمت بعد . كان كالقطط تمتلك العديد من الارواح .
قفز مروان من أمامه ولم يكد يلمس الارض وهو يسعى إلى الباب . سمع مروان الصوت من خلفه يهدر .. أنا بردان وجوعان كتير يا هشموبدي برميل كنتاكي جامبو. وبدي حمرا طويلة جديدة كمان ما ضل عندي . ظل مروان يرتجف في فراشة حتى بدأت السحب السوداء في التجمع . كان يريد أن يجلس أو يستند إلى شيء . لم يدر مروان كم مضى عليه وهو بين اليقظة والهذيان ، ولكنه افاق وهو يشعر بالعطش الشديد.
أحس بوحدة بالغة وبالحاجة لأن يلمسه رجل . كم تمنى لو تحقق ذلك مع الراهب رزق ولو لمرة واحدة . أخذ يفكر في الأيام وعادت أفكار الماضي تنثال من رأسه الأجوف . الدنيا لا تسر بقدر ما تضر . تسر قليلاً وتحزن طويلاً . بدأ يُدرك أخيراً أنه لم يُخلق عبثاً ولن يُترك سدا ، وأن الله سبحانه سائله عما هو فيه وعما عمل به عندما ينكشف قناعه فيما بينه وبين الله في مجمع الأشهاد .
أخذ ينظر للأفق كأنه يستعيد ذكرى بعيدة . وغرق سريعاً في حالة من الحزن كأنه يرثي نفسه . تذكر كيف غادر قريته الصغيرة المنسية بشوارعها الثلاثة وساحتها الصغيرة وسكانها المئتين كان مروان أصغرهم وأفقرهم يعيش مع افراد اسرته على حافة الجوع . كان يرتدي سروالاً قصيراً ويحمل على كتفه صرة صغيرة تضم حاجياته من ألبسة بالية وقليل من الزوادة ثمار تفاح وتين اصابتها العفونة كان يلتقطها من خارج اسوار البساتين خشية النواطير الذين كانوالا يكتفون عادة مع السارق برد ما سرق .
وكان أبوه سعيد بمغادرته فقد تخلص من أحد الأفواه الجائعة السبعة في بيته . وكانت أمه عيشة في بداية حياتها لا تعرف من أمر الدنيا إلا سيدها الشماط الكبير إن غضب عليها جلدها ، وإن رضي عليها أعطاها من فضل زاده ، وضاجعها بلا اكتراث في زاوية الزريبة التي تنام فيها في آخر النهار.
كان اسمه الحقيقي يثقل عليه كما لو كان شاهدة قبر منذ اليوم الذي فهم فيه أن هذا الاسم الأجوف الذي تتساقط حروفه عند نطقه يُمكن ان يُلفظ بسخرية مهينة ككلمة تقال لتهدئة أمثاله من الحمير والبغال . تزوج بفتاة من القرية اسمها عطاف . كانت امرأة عادية من عامة الناس اعتقدت أنها تزوجت من رجل طويل عريض فحل مثل كل الرجال .
انفصلت عنه بعد فترة قصيرة لأسباب فضلت أن لا تتحدث عنها . أصبحت تكره أمثال مروان بعد أن أرتبط في ذهنها ضخامة الجسد بالعجز ، وترى في داخل كل رجل قـواد . نسي مروان على الفور ما حمله على الزواج من عطاف . وهو اليوم لا يريد أن يتذكر أسباب الانفصال . كان فراشها بارداً وجسدها مهجوراً على مدى سنوات طويلة .
متفرغ لمهنة الأذى
كان مروان يستعين بالوهم والكذب لتحقيق الذات . لم يتعلم أن ينزوي في بيت الشيطان ، يرى الجميع وكل ما يدور حوله من دون أن يراه أحد . أشياء كثيرة تغيرت حول مروان في المخزن وخاصة في السنوات الأخيرة . ربما أحس في يوم ما بأنه قد وصل إلى نقطة ما يجب أن يتوقف عندها ويقر بأن يكف عن التدخل السافر والمباشر في جميع شؤون المخزن . وربما أحسأيضاً أن هذا ليس مكانه . لكنه لم يكن يعلم أن الزمن لا يكتمل والحلم لا يدوم وهو يقف على حافة الضياع .
اعتقد مروان نفسه ، وهو يشرب أكواب من الكمون مع حمض الليمون القاتم الصفرة في بيت الشيطان ، بأنه مدير المخزن بالوكالة وسط أشباه البشر من الموظفين . لكنه في ما يبدو كان يشعر في بعض الأحيان أن الأمر فوق استطاعته وقدراته، وأن عليه أن يكف عن الأوهام ويتعرف على حقيقة العالم الذي يحيط به .لكنه واصل حتى النهاية حماقاته ونوبات جنونه . فاكتملت بذلك فصول الجريمة والعقاب .
كان يعيش في نعيم أشبه بعذاب مقيم بعد أن حول المخزن إلى مكان للنهب والترقب . حجب عن نفسه رحابة العالم وسعة الحياة ، ولم يتمكن طيلة حياته في التصالح مع نفسه وفي تحقيق توازنه الداخلي ونضجه الشخصي . كانت الدنيا بالنسبة إليه ، وللعجوز الأكرش ، هي الحياة : لا يعرف آخرة ولا أولى ، ولا بعثاً ولا نشورا : يغترف في يقظته من معين اللذات إغترافاً ، وإذا ما جن الليل وآوى إلى مضجعه نام كأنعام أنهكها التعب من كثرة الأكل . يرفع يده عن الطعام عندما لا يبقى منه شيء . وهكذا يتحول عن الطعام ممتلئاً ثقيلاً . لا تكاد قدماه تحملانه ، كأنما ثقله ازداد من الطعام والشراب حتى ينحط جالساً على أول مقعد يصادفه وهو يبدو تعيساً مهدود القوى.
بانتظـار الفجـر
كان مروان قد بنى آمالاً كبيرة على الاستجابة لطلبه بالبقاء في الدير.غابت الشمس بأسرع منالمعتاد . وسادت العتمة .المشاعل مطفأة بعد أن نفد منها الزيت . وساد صمت مطبق على الصومعة والدير . وأصبح مروان وحيداًكما لم يكن من قبل. كان شارداً أكثر مما ينبغي ، مبتئساً شاعراً بالحزن والاهمال . كان يرقب الفجر ليستأنف طريقه إلى مصير لم يختاره ، ولا يملك له دفعاً ، ولا تجدي معه المقاومة . كان يريد أن يتنصل من الماضي لكي لا يسد متوهماً المستقبل .
كانت المقبرة تبدو أقل وحشة في ضوء القمر وتناوب أصوات الذئاب من بعيد . ممتلئة بالأدخنة والأرواح فيها تتناجى تتأهب للانطلاق من مغاليق أكفانها معلنة الخروج . وأشعل أحدهم قنديل حلم إعادة العدل إلى الأرض . لن نعود إلى أكفاننا . ولن ننتظر. سنخرج ندعو الناس لنملأ الأرض عدلاً بعد أن امتلأت ظلماً وجوراً . لن يكون بعد ذلك اليوم مكاناً لأمثال مروان اللص ولكل أشكال الفساد الاداري والعقلي المشوهة الأخرى .
نظرمروان أمامه فخيل له الوهم أنه يلمح اشباحاً تتسلل عبر النافذة المطلة على المقبرة . وجسّم خياله المريض الأشباح فصاروا اناساً يعرفهم حق المعرفة كان قد طردهم من المخزن بدون سبب . وقفوا عند فراشه ينظرون إليه باحتقار وازدراء ويبصقون على وجهه الكئيب . غرق في الظلمة والليل طويل . كانت أطياف ضحاياه تتراقص طيلة الوقت أمام مخيلته . جاءوا من خلف الأسوارلمحاسبته .كان يراقب شبح الموت وقد أصبح أكثر اقتراباً من رقبته الغليظة كرقبة الثور.كان الليل أبرد مما تحتمله نفس جائعة ، والسماء مخيفة خلف سحب سوداء قاتمة . تصعد البرودة حتى أذنيه الكبيرتين .
وأخيراً رأى السماء يشقها ضوء رمادي خافت . بدأت الشمس تتدفق من نوافذ الدير ، وأصبحت الصحراء بلون الليمون ، والريح ترسم فوقها خطوطاً كالموج . وبدت صفوف الرهبان وقد انتشروا في أرجاء الصحراء المحيطة بالدير ، يجمعون الحطب ويبحثون عن حبات الفطر المدفونة في الرمال . ثم دقت الأجراس ، أدرك مروان أن هناك مسافرين آخرين ظهروا عند الأفق . فسارع إلى الخروج وصفق باب الدير وراءه كأنه يؤكد خروجه . وزاد من ألمه وخيبه أمله أن كل ما ظفر به من الراهب رزق نظرة اشفاق عابرة .
ركب حماره ورحل إلى مصير مجهول ينتظره خلف حافة الأفقعلى طول دروب محملة بنذر الموت مصحوباً بظله الأسود : كان الشيطان برفقته كأنهما شركاء في مهمة غامضة . سار وراء أمل بعيد يرقد خلف أفق غائم وهو يهتز فوق حماره مثل دب محتقن الوجه .
الفساد المطلق والغباء المبين . الجزء 3 .
ارتجف مروان وهو يستمع إلى عواء الذئاب في سكون الليل . كان الظلام باسطاً رداءه الأسود على قرى مغبرة لا يظهر منها إلا أضواء خافتة في الليل يهبط منها رجال حفاة وجوعى . تذكر مروان قريته وأهله...