إنقاذ السيد بانكس .. الذاكرة الحبيسة للطفل داخلنا كيف تؤثر في مسار احداث حياتنا ؟

16.09.2018 | 18:32

مراجعة : عبد الكريم انيس

متعة مشاهدة أحد الأفلام المتحركة أو أحد الأفلام الروائية هي نتاج تقاطعات بين ما يريد الكاتب ايصاله عبر نصه الذي كتبه بحرفية عالية، والإمكانات المتاحة المتوافرة عند الجهة المنتجة المنفذة للفيلم، والتي تكون في كثير من الأحيان مقيدة ومحدودة لاعتبارات مادية وتنفيذية وتقنية كذلك..

المخرج والممثلون وفريق العمل متعدد المهام، يهتمون بإعادة إحياء الكلمات التي صاغها الكاتب في عالم الخيال لتصبح مجسدة في عالم الواقع، وتبدأ دورة جديدة من العمل المضني لتجسيد الأحداث بأدوات مختلفة مع الاحتفاظ بجوهر نص الكاتب.

ذروة الإبداع في هذا المجال حين يُنقل نص ابداعي من حيز الخيال الخصب الى الواقع، ويحافظ منفذو العمل على السوية الاحترافية ذاتها التي صاغتها كلمات الكاتب، وهكذا يخرج الجميع سعيداً وراضياً، الكاتب وطاقم العمل والمنتج والمشاهدون على حد سواء.

ومن خلال تجربتي الشخصية لا أشجع على مشاهدة فيلم قد قرأت روايته، لأنك قد تشعر بخيبة تصوراتك التي وضعتها في مخيلتك حول الفيلم، فلن تجد العالم الذي خلقته في تصوراتك الذاتية، كما أنك لن تجد كل التفاصيل والمشاعر والأحاسيس التي خلقتها متعة قراءة رواية في عالمك الخاص. ومع ذلك فهناك استثناءات، فطاقم العمل المحترف يتمكن من الجمع بين النص الثري والمبدع عبر ظروف إنتاجية ومقدرة متمكنة تستخرج جمال العالم المفترض في الرواية وتعيد استنساخه حقيقة واقعة في عالم الشاشة الفضية، وهذا ما يبحثه فيلمنا هذا.

شخصية معقدة ومركبة

في الفيلم هناك شخصية فريدة بحد ذاتها، هي شخصية الكاتبة. وفي هذه الحالة فإن صعوبة تنفيذ نصها ونقله للواقع مع الحفاظ على عبقريته يكون بالغ الصعوبة. السيدة "ترافيرز" صاحبة مزاج خاص ومتقلب، بل ومزعج ظاهرياً كذلك، وبالرغم من إبداعها وتميزها في عالم الكتابة، فهي لا تكتب لأجل الترفيه أو للحصول على منفعة مادية، هي تكتب عن جزء من تجربتها، عن شخصيتها التي صاغتها ضغوط قاسية من تجارب الحياة الأسرية خصوصاً. ويمكن للمشاهد أن يغفر لها قسوتها وتعاليها واهتمامها بالتفاصيل الدقيقة والتي قد تبدو تافهة لكثيرين، لأنها تتحدث عن وقائع حدثت في ذاكرتها لا تريد لها أن تكون غير منضبطة أو مشوهة أو محرّفة إطلاقاً، ففي الحقيقة هي لا تدافع عن شخصية من الخيال، هي تدافع عن نفسها. قلة فقط من تستطيع الثقة بهم وإخبارهم عن نفسك، وقلة فقط من قد يستوعبون هذه الخصوصية، والعمل الفني يتطلب بعض التنازلات التي بموجبها يتم تسهيل إخراجه ليصبح مقطعاً فنياً يتمكن المشاهد من إدراك أبعاده وخلفياته، بأبسط ما يمكن.

يعتمد الفيلم اعتماداً مباشراً على الذاكرة الراجعة، أو تقنية "الفلاش باك" وقد نجح المخرج لحد كبير في جعل هذه التقنية تقنية ناجحة في ايضاح مواقف الكاتبة التي كانت تبدو عسيرة على الاستيعاب، وقد استخدم أسلوب التوازي بسرد الوقائع بين الواقع والماضي كي يربط المشاهد بالكيفية التي تجعل السيدة "ترافيرز" تأخذ قراراتها ومواقفها ودوافعها والتي أدت دورها بكل اقتدار على التوازي الطفلة Annie Rose Buckley والممثلة المخضرمة Emma Thompson.

ذاكرة تحرك المستقبل

عقب استقبال لافت تم تحضيره في غرفة الفندق، نجد السيدة "ترافيرز" تلقي الكمثرى التي قدمها لها مضيفها في حوض السباحة، في تصرف غير مفهوم، لكننا سنكتشف لاحقاً أن هذه الكراهية والنفور من حبات الفاكهة كانت متعلقة بذاكرة وفاة والدها الذي كان يدللها للغاية، وقد كان يحب الكمثرى، ولكنه كشأن باقي الآباء يعدون أطفالهم بما لا يقدرون عليه غالباً، لقد وعدها أن لا يتركها وحيدة، ولكن الموت أخذه منها دون إبطاء وجعلها يتيمة، وهذا ما ستحاول دوماً تجنبه.

في الفيلم تدور فكرة أساسية ضمن الأحداث تقول إن الذاكرة الحبيسة لطفل هي شيء فريد ومؤثر في مسار أحداث حياته اللاحقة، فرغم أن السيدة "ترافيرز" كانت مدللة من قبل والدها ولكنها تأثرت تأثراً بالغاً بمسار حياته المادية الصعبة والمتقلبة، وكان لإدمانه على الشراب تأثير سلبي عليها، قد لا يعتقد الآباء والأمهات بتأثير سلبياتهم على أطفالهم ولكنهم بالمعنى الحرفي أشبه بحوض النهر الذي يرسم مجرى حياة أولادهم في مراحل لاحقة في المستقبل، وقد يكون هذا شيئاً لا يمكن التخلص من آثاره بسهولة، لأنه يترك انطباعات عميقة، عميقة جداً في مناطق لا يمكن لأحد الولوج إليها، سيما إن كانت شخصية الطفل من النوع المتحفظ..

صبر وصدق

الكاتبة كانت تعامل صاحب شركات ديزني بفوقية واضحة رغم اتساع المسافة بينهما من ناحية كونها بحاجة لتوفير بعض المال وعليها أن لا تفوت أي فرصة للعمل مع شخص يحترم ويقدس إنتاجها، وهو صاحب الشركة الأكبر في عالم الترفيه للأطفال في تلك الفترة. لعب دوره المتألق توم هانكس Tom Hanks الذي حاول وسعه أن يكون بسيطاً ومتعاوناً مع نزقها وتطلباتها ومزاجياتها وطلب من الجميع التقيد بحرفية ما تريد مهما كان ذلك غريباً أو تافهاً أو حتى متكلفاً.

ولكنه أثبت في النهاية أنه رجل أعمال ناجح يعرف أين وكيف ينتقي اللحظات المناسبة ليصل إلى ما يريد، وقد استطاع شراء حقوق نشر كتاب يتحدث عن شخصية Mary Poppin ليحوله لعالم السينما، وأكد بلحاقه بالسيدة "ترافيرز" للندن ليعود بإمضائها للموافقة على بيع حقوق الملكية لفيلمه الجديد بأنه شخصية تسعى بوسعها وبكل ما أوتيت من قوة كي تحقق ما طمحت إليه وأنه يشغل موقعه المميز باستحقاق وليس بمجرد الوراثة أو المصادفة.

علينا أن نعير الانتباه لكونه استخدم ذاكرته التي اختزنت بعض القسوة من أبيه، فاعترافاته غير المعهودة عن صعوبة نشأته والمشقة التي تعرض لها أثناء توزيع الصحف أيام طفولته كان لها أثر في فتح ثغرة السد المنيع في ذاكرة كاتبته المفضلة، وكذا حين تحدث عن وعوده لأطفاله الذي يهتم كثيراً بما تشكله لهم شخصية ابتدعتها الكاتبة. وهكذا وظف ثغرة عاطفية لعقلية سيدة عنيدة وجيرها لصالحه وكسب ودها وتعاطفها ونال استحسانها ورضاها، في مقطع مميز أدى لحلحلة عقدة امتناعها عن التوقيع لإتمام الفيلم بعد أن اعتقد المشاهدون أن النتائج ستكون مخيبة.  

بدت السيدة الكاتبة متكبرة وذات عقلية متسلطة وتحب أن تتحكم بكل ما يحيطها، ولكنها ستزيل عنك هذه الشكوك لأنها في الوقت الذي عاملت بفوقية واضحة شخصيات متنفذة وصاحبة وجود في عالم الأضواء والمشاهير، منحت احترامها لسائق بسيط وسمحت له بتجاوز المدى الذي بإمكانه أن يسأل فيه عن خصوصياتها، وكذلك معاملتها المتساهلة مع مدبرة منزلها، هذه المعاملات تطرد من ذهنية المشاهد تهمة الغرور والتكبر.

كتب الفيلم كل من Kelly Marcel, Sue Smith وأخرجه John Lee Hancock وشارك في تمثيل بقية الشخصيات كل من Colin Farrell Ruth Wilson Paul Giamatti Bradley Whitford وآخرين.

أنتج الفيلم كل من Walt Disney Pictures، Ruby Films، Easy Tiger Productions، Essential Media & Entertainment، BBC Films، Hopscotch Features.

تم إطلاق الفيلم للعموم في فرنسا بتاريخ 5 آذار لعام 2014.

لمشاهدة المقطع الدعائي للفيلم (انقر هنا).


TAG: