كيف سيكون لسقوط النظام الأسدي المجرم من تأثيرات على البنية الفكرية والنفسية للمجتمع السوري ؟
في هذا المقال أحاول رصد بعض المتغيرات التي ستفرض نفسها في المجتمع السوري، وأنوه إلى ان مقاربتي تشمل فقط الناحية النفسية للتغيرات، ولا تتطرق الى الجوانب الأخرى الكثيرة المتعلقة بالموضوع .
مما يؤسف له ان معظم الشعب السوري في ظل النظام البائد كان يعاني من عقلية الندرة، وذلك بسبب النظام الوحشي الحاكم الذي دمر البشر والحجر لنصف قرن من الزمان.
وهي مدة كافية لتغيير العقول من الفطرة السليمة الى فكرة الصراع على المصلحة الشخصية الضيقة.
عقلية الندرة تعني ببساطة وبشكل موجز : الشح في كل شيء إيجابي.
شح في الكهرباء، شح في المياه، شح في الرواتب، وشح في الخبز، وجراء تراكمات الشح المخيـّمة على المجتمع السوري أورثت تلك التراكمات بشكل طبيعي شح في العواطف الإيجابيةونقص في الثقة بالآخرين . وأقصد بالعواطف الإيجابية، عاطفة التراحم و التودد والمساعدة وغيرها كثير من الصفات الإيجابية التي يعتز الإنسان بحملها ... والشيء الوحيد الذي سيكون في حياة السوريين وفرة فيه، هو مشاعر القهر والظلم والخوف والاكتئاب ...أو بتعبير أشمل المشاعر السلبية والتي تتمثل في الحسد والبغض والبخل، حيث انها كانت مهيمنة على العواطف ومنتشرة بكثرة بين الناس و هي كانت متوفرة بكثرة .
وعندما يكون لديك وفرة بشيئ ما ، يمكنك أن تمنحه بسهولة للآخرين. بينما عندما يكون هناك شح ما، تتمسك به ولا تمنحه للغير بسهولة. على سبيل المثال تصور ان كمية الخبز عندما تكون محدودة ، ذلك يعني انه اذا لم آخذ حصتي الآن فلن أجدها بعد ساعة. ربما لذلك تقتضي علي الحكمة أن اسارع إلى أخذها والتمسك بها، وعدم منح شيئاً منها للآخرين . لانها بالاساس غير كافية لي فما بالك لو أن كميتها ستنقص ؟
هذا يفسر الانحدار الحاصل في القيم الأخلاقية والدينية في المجتمع ، قيم الايثار وقيم التراحم والمودة في مناطق النظام البائد.
ولا زال هناك من يسأل ماذا دهاهم الناس! لماذا يتصرفون هكذا بعصبية وقلق و عدم اكتراث ولا مبالاة حتى بمستقبلهم ؟!
من هنا اذن ، لن نلوم شخصاً عاش في ظل نظام حكم كانت علاقته بشعبه علاقة حقد وكره وعداوة. لن نلومه على التمسك بمشاعره الإيجابية وعدم البوح بها، وعدم إظهارها، و عدم منحها للآخرين، خوفاً من أن تنفذ، فهو لا يريد ان يخسر اكثر مما خسر . بل سنتعاطف معه ونعتبره ضحية نظام الشح والندرة، نظام الوفرة في الحقد والكراهية.
أما مشاعر الحب والتقدير والاحترام المتبادل بين الناس يحتفظون بها لانفسهم ولا يبوحون بها، خوفاً عليها، هم من خلال تعاملهم مع الدولة يتعاملون مع عدو . فالدولة كانت عدوة للشعب. وهم يحاولون تجنب تغولها عليهم. إنها علاقة غير صحية يحكمها الصراع فإما ان تربح الدولة- وأحياناً تتمثل بشخص المسؤول- و أخسر أنا، وإما ان اتهرب منها واربح أنا أي تخسر الدولة أو المسؤول القائم على ذلك ، كونه يبحث عن الرشوة. هذه العلاقة هي التي كانت سائدة في معظم تعاملات الناس مع الدولة.
الآن ، بعد ان سقط نظام الأسد المشؤوم، المتمثل بالنظام الطائفي المقيت
سيتحرر الناس ليس فقط من سلطة الاجرام والنهب، بل سيتحرر الناس من سلطة الشح والندرة، التي استولت على مشاعر البشر وسيطرت عليها وضاقت عليهم بحيث ولّدت في حياتهم البؤس والكآبة والخوف فيما بينهم.
يراودني سؤال قد يتبادر الى الذهن ، وهو هل الفقير سيعاني من عقلية الندرة حتى بعد رحيل النظام البائد، كونه لا يملك سبل العيش الكريم التي تفرضها عليه عقلية الوفرة ؟
الحقيقة المؤلمة هي نعم . سيعاني و ستؤثر عليه هذه العقلية المدمرة لطاقة الابداع البشري. كونها مرتبطة بشمل اساسي بتوفر الحياة الكريمة للبشر ولكن الأمر الجيد هو أننا نستطيع العمل على التخلص من تلك العقلية من خلال التفكر الجاد والعمل الجاد، والعودة إلى جوهر التدين.
فهي عقلية ليست فطرية ولا مولد بها بل بتم تعلمها سواء بشمل مباشر من خلال تظريب نا او بشمل غير مباشر من خلال البيئة المحيطة.
فعلقية الوفرة هي نمط تفكير عام تشمل كل مفاصل الحياة البشرية من مشاعر وعلاقات ونمط عيش وعمل وغيره ...
أولى مظاهر تشكل عقلية الوفرة في الوجدان السوري لاحت فور سقوط النظام وهو حالة تنظيف الشوارع التي وجدناها في قد اناشرت في شوارعنا في مختلف المدن السورية انتشرت بين الناس حالة من التعاون الملفت ،للدارس او الباخث الاجتماعي .حدث ذلك فجأة وبدون تخطيط مسبق،حتى انهم لا يعرفون كيف أحبوا بعضهم البعض. والخبر السار ان الذي شارك في عملية التطوع في العمل العام سيكون من الأسهل عليه الانتقال من عقلية الندرة الى الوفرة من مجرد الشخص الذي أبدى إعجابه بالعملية فقط دون التفاعل النشط . وكذلك ويكون من اكتفى بمجرد الإعجاب سيكون اقرب لعقلية الوفرة ممن كان حيادياً اتجاهها.
هذه الحالة أيضاً برزت في نموذج مصغر عايشته انا في عام ٢٠١١ في مظاهرات اللاذقية السلمية، قبل ان يتم قمعها بالدبابات، من قبل عصابة الأسد، حيث بقي الرمل الجنوبي لمدة تتراوح بين ثلاثة الى سته اشهر ينعم بالتآلف والحب و الود بين أفراده، وكانت النظافة في الشوارع الضيقة ملفته وغير معهودة. مع انه حي شعبي مهمل وذلك بقصد خبيث من النظام الطائفي المجرم .
عندما لم يكن في الرمل الجنوبي وجود لأية مظاهر لقوات النظام كان التعاون بين الناس كبيراً جداً . لدرجة انه حتى أصحاب المشاكل السابقة اصبحوا ودودين مع الآخرين وتحسن سلوكهم الاخلاقي وقد تعافى المجتمع من كثير من مشاكله الاجتماعية السابقة بمجرد الابتعاد عن قوات الاسد. وهذه ظاهرة تستحق الدراسة والبحث، كونها تساهم في تطور بلداننا التي عانت الكثير بسبب الدكتاتوريات التي حكمتها .
ولكن هذا الربيع الرملي- للأسف -لم يستمر طويلاً، حتى تم وأده من قبل عصابة الأسد. هذا النظام أينما حل يحل معه الخراب. خراب يشمل النفوس و الفلوس .
ومن هنا نصل إلى نتيجة مفادها ان الحياة المستقبلية في سورية المستقبل بغض النظر عن طبيعة الحاكم ستكون رحبة للسوريين من الناحية النفسية والاجتماعية والمعاشية ولكن بشرط العمل الجاد.
ستكون الاحتمالات مفتوحة للأفراد كي تبني مستقبلها بغض النظر عن طبيعة الحكم وشكله. وستكون الحياة مفرحة مبهجة لهم ولكن بحب الخير للآخرين، حيث لا يمكن ان تكون بخير ومحيطك يعاني ولا يمكن ان تنجح بمفردك لذلك وفقط لذلك يكون التعاون مع الآخرين هو المدخل الى الخير الفردي .
*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]