يعكف البشر حاليا في شتى أنحاء العالم على اتخاذ قرارات تفصل بين الحياة والموت، في خضم المعركة الدائرة ضد فيروس كورونا المستجد. فبينما يتدفق المرضى على المستشفيات؛ يحدد الأطباء وأفراد فرق التمريض من سيحظى منهم بالعلاج أولا، والأسلوب الذي سيُتبع في هذا الشأن.
ويتخذ المسؤولون قرارات تتعلق بطبيعة الموارد التي سيلجؤون إليها، في وقت تتدافع فيه كل مكونات القطاع الطبي، للتعامل مع حجم الطلب المتزايد عليها.
يتوازى كل ذلك، مع مواصلة العلماء اتخاذ قرارات تتعلق بالنصائح التي ينبغي عليهم إسداؤها للحكومات، ويحددون من خلالها المسارات البحثية، التي يتعين عليهم متابعتها، في إطار جهودهم لإيجاد علاج للفيروس المميت.
أما الساسة فيتولون اتخاذ القرارات المرتبطة بتحديد القيود التي يجب فرضها على مواطنيهم، والمتعلقة بكيف يمكن أن تتعامل حكوماتهم مع التَبِعات الاقتصادية للأزمة الحالية.
وفي ضوء أن هذا الفيروس جديد من نوعه وسريع الانتشار، يتعين على المرء اتخاذ قرارات هي الأخطر من نوعها، في ظل ظروف تكتنفها شكوك هائلة، ولا يتوافر لديه فيها سوى قليل من الوقت.
فليس لدينا دليل إرشادي بشأن كيفية التعامل مع فيروس كورونا، كما نفتقر إلى أي قواعد جُرِبَت واخْتُبِرَت من قبل، على صعيد التعامل مع وباء على هذا النطاق الواسع.
وبينما لا ينبغي أن نُسْنِد لمن هم غير معنيين بهذا الملف، مهمة إسداء النصح والمشورة بشأن ماهية القرارات التي يتعين اتخاذها حياله، فمن حسن الحظ أن لدينا مجموعة قائمة بالفعل، من الأدلة العلمية التي تفيد في بلورة قرارات من هذا القبيل.
وللتعرف على المزيد في هذا الصدد، تحدثت إلى عدد من علماء النفس، الذين سبق لهم أن درسوا مسألة اتخاذ قرارات في ظل ظروف غير متوقعة أو خطرة أحيانا، وتعاونوا مع القائمين على ذلك أيضا، من رجال شرطة وقادة عسكريين، وعناصر في فرق التعامل مع الحالات الطارئة، بل ومستكشفي مناطق نائية ومتسلقي جبال.
من بين من تحدثت معهم في هذا الإطار؛ لورانس أليسون، أستاذ علم النفس الشرعي بجامعة ليفربول، الذي تعاون بشكل وثيق مع رجال الشرطة، وغيرهم من عناصر الفرق التي تتولى التعامل مع المواقف الطارئة، على مدار ثلاثة عقود.
في البداية، سألت أليسون عن النصيحة، التي يمكن أن يسديها لمن أجبرهم الوباء، على الوقوف في الصف الأول على جبهة اتخاذ القرار، فرد عليّ بالقول: "سأقول لهم في البداية، إنهم غالبا ما سيَخْبُرُون الشعور باليأس والضياع بعض الشيء، ويشعرون بأنهم لا يعرفون من أي نقطة يتعين عليهم البدء" في التفكير والتحرك. ففي المواقف الجديدة ذات الطبيعة الشائكة والمتطرفة، قد يشعر صانعو القرار بالانزعاج والغضب، لإحساسهم بأنه من المطلوب منهم فعل المستحيل.
ولذا يقول أليسون: "من المهم للغاية أن يدرك هؤلاء أنه من الطبيعي أن تنتابهم هذه المشاعر. فمجرد الإقرار بذلك، قد يجعلهم أقل إحساسا بالضغط والتوتر".
تمهل قبل أن تشرع في التفكير
ربما يمثل توقيت اتخاذ القرار، التحدي الأكبر الذي يواجه صناعه. فهل يتريثون في ذلك مُخاطرين بأن تسبقهم الأحداث، أم يتعجلون فيه، مُجازفين بالتصرف بتهور؟
تقول إِما باريت، الأستاذة في جامعة مانشستر والمتخصصة في علم نفس التعامل مع المواقف المعقدة، إن الناس غالبا ما يتصرفون في المواقف العصيبة "وكأنهم يرزحون تحت ضغط الوقت، حتى عندما يكون ذلك غير صحيح".
ويتفق زميلها الدكتور ناثان سميث مع هذه الرؤية قائلا: "أجرينا مقابلات مع أشخاص مخضرمين على صعيد التعامل مع مختلف أنواع المواقف العصيبة، وسألناهم كيف اتخذوا قراراتهم، في حالات من قبيل؛ متابعة مضي عملية عسكرية ما على غير ما يرام، أو وقوع انهيار جليدي على ارتفاع عالٍ. وقد قال الجانب الأكبر منهم، إنه يتسنى للمرء في مثل هذه المواقف وقت أطول مما يعتقد، يسمح له بأن يأخذ خطوة إلى الوراء، ويفكر مليا لثوانٍ معدودات، لكيلا يتخذ قراراته تحت وطأة مشاعره وانفعالاته".
وتتذكر إما باريت ما يُعرف بـ "كارثة كيغ وورث الجوية"، التي وقعت عام 1989 في المملكة المتحدة، جراء تحطم طائرة ركاب إثر اصطدامها بطريق سريع مرتفع قليلا عن مستوى الأرض في مقاطعة ليسترشَر، وهو الحادث الذي يُضرب به المثل في رأيها، على عواقب التعجل أكثر من اللازم في اتخاذ القرارات.
فعندما اكتشف قائد الطائرة أن أحد محركيّها يعاني من خلل جسيم، تحرك بسرعة لإيقاف تشغيله، لكنه أوقف بالخطأ المحرك الوحيد الباقي قيد التشغيل. وتُعلّق باريت على ذلك بالقول: "لقد اتخذ هذا الرجل قرارا سريعا للغاية ردا على نُذر الخطر التي لاحت أمامه، رغم أنه كان لديه - في واقع الأمر - بعض الوقت الذي يكفيه لتحديد أي المحركيْن يعاني من الخلل".
ويرتبط بذلك الأمر، نزوع البشر في المواقف المفعمة بالضغوط والتوتر، إلى تركيز انتباههم بشدة على القرارات، التي تتبادر إلى أذهانهم في التو واللحظة، على نحو يجعلهم لا يلتفتون إلى أي معلومات جديدة مهمة وجوهرية يحصلون عليها في غمار ذلك، وهي ظاهرة يُطلق عليها اسم "النفق المعرفي" أو "التغافل غير المقصود".
ومن بين الأمثلة الصارخة على هذا الأمر، ما حدث لرحلة الخطوط الجوية الفرنسية رقم 447، التي هوت في المحيط الأطلسي عام 2009. فقائد الطائرة انشغل قبيل وقوع الحادث، بإعادة الاتزان إلى جناحيها خلال مرورها بمطب جوي، ما ألهاه عن أن يلحظ أنها تأخذ مسارا صاعدا بحدة على نحو خطر. وأدى ذلك إلى توقف المحركات، ما أفضى إلى أن تهوي الطائرة. وقد بلغ انشغال الربان بالجناحيْن حدا، جعله لا يفهم معنى انطلاق نظام الإنذار في طائرته، بومضات متتالية تشير إلى توقف محركاتها.
أفضل القرارات السيئة
تواجه صناع القرار كذلك مشكلة أخرى، ذات طبيعة معاكسة لما سبق تماما، تتمثل في انهماكهم في بعض المرات على التفكير والتأمل، دون الإقدام على اتخاذ أي قرار أو تصرف عملي. وسبق أن صاغ لورانس أليسون مصطلح "النزوع إلى الإحجام عن اتخاذ قرار"، لوصف المواقف التي يصطدم فيها المرء بـ "حواجز نفسية"، تمنعه من حسم أمره واتخاذ قرار ما، وذلك عندما تبدو كل الخيارات المتاحة أمامه سيئة.
ويقول في هذا الصدد: "المشكلة الرئيسية التي تحدث عندما تسوء الأمور تماما، لا ترتبط عادة باتخاذ شخص ما قرارا خاطئا، وإنما في كونه لم يتخذه من الأساس"، مشيرا إلى أن رجال الجيش والشرطة يجدون أنفسهم في أغلب الأحوال إزاء مجموعة من الخيارات، التي تبدو كلها رهيبة. وفي هذه الحالة "يكون من الطبيعي ألا يرغبوا في اختيار أي منها على الإطلاق".
وقد يؤدي تركيز صانعي القرار، على مشاعر الندم التي قد تساورهم، حال كان لقرار ما يفكرون في اتخاذه عواقب مروعة، إلى شل قدرتهم على اتخاذ قرار من الأصل. ومن بين التصرفات الشائعة التي تبدر منهم حال وقوعهم في هذا المأزق، المطالبة بشكل متكرر بالحصول على معلومات، بالرغم من أنهم يكونون قد وصلوا إلى مرحلة، لا يفيد فيها اكتساب مزيد من المعلومات في الاختيار بشكل صائب.
ويقول لورانس أليسون إن صانع القرار الكفء، هو من يستطيع تحديد التوقيت الذي يصبح فيه إرجاء الحسم أمرا مكلفا بشكل أكبر، من عواقب أي قرار قد يتخذه ويضعه موضع التنفيذ. ويشير إلى أن هؤلاء الأشخاص يبرعون في اتخاذ "أفضل القرارات السيئة"، من خلال تقبلهم لفكرة أن "أي شيء سيفعلونه (في مثل هذه المواقف) سيكون خطأً".
ويستشهد ناثان سميث بما ورد في فيلم "لمس الفراغ"، وهو عمل ينتمي لفئة الدراما الوثائقية، ويتناول إقدام المتسلقيْن سيمون ييتس وجو سيمبسون، على تسلق أحد جبال الإنديز في بيرو. ويشير سميث تحديدا إلى القرار الموجع الذي اتخذه ييتس في إحدى اللحظات، بقطع الحبل الرابط بينه وبين سيمبسون رفيقه الجريح في مغامرة التسلق، حتى وهو يدرك أن ذلك قد يؤدي إلى هلاك الأخير على الأرجح. فقد خَلُصَ ييتس إلى أن تجنب قرار مثل هذا، سيفضي إلى هلاكهما معا. لكن لحسن الحظ أدت تلك الخطوة إلى نجاة الاثنين.
اِحْمِ فريقك
من جهة أخرى، يتعين على صناع القرار ممن يتولون مسؤوليات قيادية، ضرب النموذج والمثل لمرؤوسيهم. وتشير باريت في هذا الشأن، إلى أن المشاعر السلبية قابلة للانتشار مثلها مثل الفيروسات سواء بسواء. وتقول: "حتى إذا كان القلق يراودك، فعليك كشخص ذي موقع قيادي أن تُجسّد نموذجا يُحتذى، لما يمكن أن يكون عليه الشخص الذي لا يشعر بالقلق البتة" مهما كانت الضغوط.
ومن هنا، فعلى من يضطلعون بتلك المسؤوليات القيادية، إبداء اهتمام خاص بما يشعر به المنضوون تحت إمرتهم، خلال المواقف العصيبة الحافلة بالضغوط. ويتذكر سميث في هذا الإطار، ما فعله المستكشف إرنست شاكِلتون، خلال محاولته النجاة بحياته مع أفراد فريقه، من مصاعب واجهت مهمة استكشافية قاموا بها للقارة القطبية الجنوبية. فقد لاحظ حينذاك أن روح يأس واضحة، بدأت تتسرب من أفراد بعينهم في فريقه إلى الآخرين، ما دفعه إلى اتخاذ قرار مفاده بأن يقيم هؤلاء "اليائسون" معه في خيمته، ما أدى إلى عزلهم فعليا عن باقي الفريق، وذلك بهدف الحفاظ على الروح المعنوية.
في الوقت نفسه، ربما تخلّف الضغوط تأثيرات سلبية للغاية على العلاقات الشخصية القائمة بين الأفراد، وقد تقود البشر إلى تجنب الانخراط في مواجهات بينهم وبين بعضهم بعضا تماما.
ففي أوقات الأزمات، تقود ضرورة التقارب والتآزر، في بعض الأحيان، إلى أن تبلور مجموعة ما من الناس، إجماعا على قرارات بعينها، قبل استكشاف الخيارات الأخرى المتاحة لهم، بشكل كامل. وهكذا، يتوجب على أصحاب المراكز القيادية تشجيع مرؤوسيهم على مصارحتهم حينما يقعون في أخطاء، وألا يترددوا في نقل الأخبار السيئة لهم، كلما كان ذلك ضروريا.
ويشير سميث - الذي يتواصل ويتعاون مع المسؤولين عن اتخاذ القرار في هيئة الصحة الوطنية في المملكة المتحدة- إلى أن الاتصالات بين الأطراف المعنية بالمواقف التي تشتد فيها التوترات والضغوط، يجب أن تكون، بوجه عام، "قصيرة وقاطعة وواضحة"، بما يصل أحيانا إلى حد اتصافها بطابع خشن. وحذر الرجل في حديثه معي من أنه قد يصعب على العاملين الأقل خبرة، مثل الأطباء المبتدئين، تقبل هذا النمط من التواصل، وهو ما يوجب على الموظفين الأقدم منهم، تحضيرهم لمواجهة مثل هذه المواقف.
ركز على هدفك
ويمكن القول إن ضرورة أن يتسم المرء بالقدرة على التكيف - إلى حد ما - مع مواقف بعينها، لا تقل من حيث الأهمية عن وجود قواعد توجيهية وخطط للتعامل مع هذه المواقف، وكذلك تدريبات تُجرى في هذا السياق أيضا. وينصح لورانس أليسون صناع القرار في هذه الحالة بـ "التركيز على الهدف لا القرار".
واستشهد في هذا الشأن، بنموذج ضربه رجل شرطة أمريكي يُدعى ستيفن ريدفيرن، كان من بين أول من وصلوا إلى مسرح عملية إطلاق نار جماعي، وقعت عام 2012 في دار للسينما بولاية كولورادو.
فعندما وصل ريدفيرن إلى المكان وجد الكثير من رواد السينما مصابين بجروح بالغة، وبينهم أطفال. ورغم أن القواعد تحظر نقل الجرحى بسيارات الشرطة، فقد اتخذ هذا الرجل قرارا وصفه في وقت لاحق بأنه "مجنون وغير تقليدي". فبعدما واجهت سيارات الإسعاف صعوبات في الوصول إلى دار السينما، أدرك ريدفيرن أن البقاء دون أن يحرك ساكنا، سيؤدي إلى أن يفارق بعض المصابين الحياة، ما حدا به لإيصال الأطفال الجرحى بسيارته الرسمية، إلى المستشفيات القريبة.
ووصف لورانس أليسون ما أقدم عليه هذا الرجل بأنه "شجاع ومبدع وصائب"، إذ وضع هدف إنقاذ الأرواح نصب عينيْه. وأشار إلى أنه يتعين أن تُتاح لعناصر فرق التعامل مع المواقف الطارئة، ممن يكونون موجودين في مسرح الأحداث، الفرصة والصلاحيات التي تُمَكِنهم من التصرف من وحي اللحظة، خلال تعاملهم مع ما يواجهونه على الأرض، نظرا لأنه يكون لديهم - في الغالب - معلومات أكثر، من تلك المتوافرة لرؤسائهم، بشأن التطورات الجارية.
ولا يخفي ريدفيرن - الذي يساعد الآن في تدريب فرق التعامل مع الحالات الطارئة - أن تجربته مع حادث إطلاق النار ذاك، شكّلت عبئا عاطفيا ثقيلا عليه. فقد ظلت مشاعر الألم والفجيعة المرتبطة بالقرارات التي اتخذها في تلك الليلة، وحدد من خلالها مَنْ يُنقذ ومن يترك، تطارده لسنوات.
وفي نهاية المطاف، علينا أن نحاول أن نتذكر بمجرد انتهاء الأزمة الحالية، أن من اتخذوا خلالها القرارات الأكثر أهمية بالنيابة عنّا، سيظلون يحملون على كاهلهم عبئا ومسؤولية ثقيلتيْن لفترة طويلة من الوقت.
المصدر : بي بي سي