مشايخ السلطان .. مشايخ اليمين ام اليسار ..؟

بعد الثورات العربيّة، السوريّة تحديداً، لم يعد من الممكن الحديث عن دور اليمين الديني دون تناول دور اليسار في الكارثة الحاصلة. وهذا ما سيدفعنا في نهاية المطاف لتناول تخبّطات الفكر، والانحياز، وهشاشة المبادئ، كمشكلة إنسانيّة عامّة ..

يُتّهم اليمين الديني، ممثلاً بتيّار عريض من مشايخ السلطة، في دعم المستبدّين عبر التاريخ، وهي تهمة لها شواهدها من الواقع والتاريخ الحديث والقديم. تعود نشأة هذا اليمين السلطوي إلى العصور الإسلامية الأولى، منذ أن تحوّلت الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض، وقام على مبدأ الطاعة المطلقة لوليّ الأمر.

مع امتداد رقعة دولة الإسلام، بدأت الفتن تضرب في قلب الدولة الإسلامية حديثة النشوء، لدرجة أنّ اثنين من الخلفاء الراشدين الأربعة سقطا نتيجة تلك الفتن. ومع قيام دولة بني أميّة، كانت قد سالت دماء عشرات الآلاف من المسلمين في صراعات سياسيّة داخليّة، الأمر الذي جعل من درء الفتنة هاجساً ملحّاً عند كثير من الفقهاء، بيد أنّ ذلك دفع شريحة منهم إلى التوسّع في سدّ ذرائع الفتنة، ممّا أوقع بعضهم في الفتنة أيضاً من شدّة ممالأتهم للحاكم المتغلّب، ومن شدّة مبالغتهم في التحذير من الخروج على الحاكم...

يمكننا الحديث مطولاً عن يمين ديني سلبي، ساهم في تكريس ظاهرة الاستبداد عبر التاريخ الإسلامي، وهو قد لا يعبّر بالضرورة عن فئة متجانسة تملك دوافع متشابهة لمهادنة سلطة الحاكم المطلق، بل من الضروري التمييز بين يمين آثر اعتزال الأمر كلّه، وترك مسائل الحكم والسياسة الشرعيّة لأصحاب المطامع السلطوية ومن والاهم، وأخذ منحى الزهد والتصوّف والوعظ الإسلامي، ولكنّه تحوّل آخر الأمر إلى ما يشبه المؤسسة الدينيّة الموازية للرسميّة، وقد صبّ انعزال هذه المؤسسة أيضاً في مصلحة سلطة الأمر الواقع...

وبالمقابل، ثمّة يمين سلطوي كان أكثر تورّطاً في لعبة السلطة، تحوّل إلى مؤسسة دينيّة رسميّة وظيفيّة، شغلها الأساسي إيجاد المخارج الشرعية لممارسات السلطة، إن كان خوفاً من السلطة، أو اجتماعاً معها في مواجهة خصم واحد... يمكن أن نذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، كيف جمعت مصلحة العداء للإخوان المسلمين والسلفيّة العلميّة بين نظام الأسد والتيّار الذي يمثّله الشيخ البوطي، وكيف جمعت المصلحة المشتركة بين حزب النور السلفي و النظام المصري في مواجهة الإخوان في مصر...

لكنّ الحديث عن يمين ديني مهادن للسلطة، يفترض ألّا ينسينا أنّ التيّارات الدينيّة المعارضة للسلطة كانت فاعلة أيضاً على مرّ التاريخ، فالحالة الاجتماعية كانت دينيّة على المستوى العام، والحال أنّ المعارضة والمهادنة كانتا من نتاجها السياسيّ، لذا من المغالطة عند الحديث عن التيارات الإسلاميّة الاقتصار على جانب دون الآخر.

في الطرف المقابل لليمين الديني، نجد تيار اليسار، وقد أدّى دوراً لا يقلّ سوءاً عن دور مشايخ اليمين، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ اليمين نال القسط الأكبر من التقريع والاتهامات حول دوره في تثبيت دعائم الاستبداد، بينما لم يحظَ "مشايخ" اليسار باهتمام مماثل، ربما ساعد في ذلك الحماية (المعنوية على الأقل) التي كان يحظى بها التيّار ككل خلال فترة الحرب الباردة، طيلة مرحلة النفوذ السوفياتي ودعمه لأنظمة المنطقة التي كانت ترفع شعارات التصدّي للكيان الصهيوني، وللمشروع الامبريالي الأمريكي المساند له...

مع الانهيار السوفييتي، انكشف ظهر اليسار العربي والعالمي، وبدت هشاشة وتخبّط العديد من رموزه وأحزابه، وهو الذي كان محققاً لحدّ معقول من الانسجام والتوازن في الطروحات قبل ذلك، حين كان مناصراً لقضايا الشعوب التحرريّة، ومبادئ العدالة والمساواة، ومناهضة الظلم والاضطّهاد.

ومع بداية الثورات العربيّة، أظهر كثير من اليساريّين تخبّطاً غير مسبوق في تاريخ اليسار، فقد وجدوا أنفسهم أمام استحقاق تاريخي، وفرصة هامّة للانتصار للمبدأ. لكن، و يا للأسف! كشفت الثورات عن هشاشة المبدأ، وعدم وضوح الصورة بشكل صادم، فقد وقفت شريحة واسعة من اليساريين مع الثورة في تونس بادئ الأمر، ثمّ مع الثورة في مصر، بينما اتخذت موقفاً متشنّجاً من الثورة في ليبيا.

  لكنّ الثورة السوريّة شكلت معضلة كبرى لكثيرين، إن كان على مستوى اليسار العربي أم العالمي، وقد انخرط بعضهم في تشكيل ميليشيا "شبيبة خالد بكداش" وضعت نفسها في خدمة أجهزة أمن النظام خلال العامين الأولين من الثورة ، بينما سخّر بعضهم الآخر قلمه في تبرير التدخل الروسي، والحديث عن مؤامرة أمريكيّة بأدوات تنفيذ محليّة، مما وضعهم آخر الأمر، عن قصد أو عن تخبّط، في خدمة المشروع السلطوي، وفي مواجهة المطالب الشعبيّة.

المثير للاهتمام، أنّ أزمة اليسار لم تقتصر على النطاق المحلّي أو العربي، بل ثمّة أزمة على مستوى اليسار العالمي أيضاً، فلم يكن موقف نعوم تشومسكي أقلّ سوءاً من موقف بعض اليساريين العرب، وقد صرّح أنّ المعارضة السوريّة جلّها من داعش ، وأعلن دعمه للحرب على الإرهاب، وقال بصعوبة محاربة كلٍّ من داعش والنظام في آن معاً.

كما يعدّ اليسار الفرنسي أحد أهم الداعمين لنظام الأسد، ويقوم موقف هذا اليسار على دعامتين أساسيّتين؛ الإسلاموفوبيا من جهة، والموقف من الامبريالية الأمريكية من جهة ثانية. ينطلق اليسار الفرنسي عموماً من مبدأ تحرر الشعوب من الهيمنة، ولكنه ينحدر نحو ممارسة الهيمنة والاستعلاء على حراك السوريين.

بتصوري، لم يكن كثير من اليساريين العرب على قناعة تامّة بمبادئ التحرّر والعدالة، بقدر ما كان الأمر عبارة عن تبعيّة خالصة لمدٍّ شيوعيّ، وثمّة فرق كبير بين التبعيّة لتيار ساد في حقبة معيّنة، وبين الإيمان بمبدأ... وفي سوريا على وجه الخصوص لا يمكن أن نغفل الجذور الأقلويّة لكثير من اليساريين، و دور ذلك في تحديد وجهتهم النهائيّة، ففي النهاية كانت الأفضلية للانتماء الطائفي على أي انتماء آخر بالنسبة لكثيرين...

إذن، بعد الثورات العربيّة، السوريّة تحديداً، لم يعد من الممكن الحديث عن دور اليمين الديني دون تناول دور اليسار في الكارثة الحاصلة. وهذا ما سيدفعنا في نهاية المطاف لتناول تخبّطات الفكر، والانحياز، وهشاشة المبادئ، كمشكلة إنسانيّة عامّة، دون الوقوع في فخّ التعميمات العمياء التي تجعل من تكريس السلطة مسألة محصورة في التيار الديني، أو في المشايخ على وجه الدقّة...

مشيخة السلطة ليست حكراً على المتديّنين، وإذا قيل مثلاً: مشايخ السلطان... سيتبادر إلى ذهننا السؤال التالي:  هل المقصود مشايخ اليمين أم مشايخ اليسار ؟!

د. عماد العبار


المواضيع الأكثر قراءة

SHARE

close