هل فعلا كنا "شعب" واحد .. وهل يمكن ان نكون ؟

هل كان من الصحيح النظر للمجتمع في سوريا ككتلة واحدة؟ هل فعلاً السورييون هم شعب واحد أصلاً؟ هل الانهيار الحالي في المجتمع هو بنتيجة الحرب أو أن الحرب أظهرته فقط؟

لا يشك أحدٌ اليوم أن هناك انهياراً كبيراً في المجتمع "السوري" (أضع السوري بين قوسين لأن سوريا نفسها بحاجة لاعادة تعريف اليوم، لكن هذا موضوع معقد الآن ويحتاج للكثير من البحث). في الحروب أو الأزمات العاصفة التي تضرب المجتمعات، سواء كانت طبيعية أم غير طبيعية، تنكشف حقيقة المجتمعات (والأفراد)، فتظهر عارية بدون كل مساحيق التجميل والأقنعة التي كانت تلبسها في سنوات الرخاء. ما أريد قوله أن ما نراه من انهيار في المجتمع ليس نتيجة للحرب، بل ما حدث أن الحرب بينت هذا الانهيار وفضحته على نحو غير مسبوق ولم يعد هناك مجال لترقيعه أو اخفاءه.

للآسف، كانت سوريا محرومة من وجود دراسات اجتماعية حقيقية ترصد آراء الناس وتفاعلاتهم وتغيرات نظرتهم لما يجري من حولهم بعيداً عن أعين الرقباء. كانت الرواية الرسمية هي المصدر والنهاية لتفسير مايجري من أحداث، ولم يكن الكثيرون قادرين على التشكيك بصحتها علناً فضلاً عن معارضتها. في لحظات عابرة كانت تتكشف بعض جوانب هذا الانهيار، لكن لم يتخيل الكثيرون أنه كان شاملاً لكل هذه الدرجة.

لكن قبل الشروع في سرد الأمثلة، علينا التوقف قليلاً والبحث في فكرة "المجتمع" نفسها.

لا أعتقد أنه كان بالامكان الحديث عن وجود مجتمع واحد في سوريا، حتى لو أرادت الرواية الرسمية عكس ذلك.

لايمكن أن يكون هناك تعريف واحد للمجتمع السوري، يشمل كل المدن والمناطق السورية.

المجتمع بالتعريف هو مجموعة من الناس تشكل نظاماً تتفاعل بينها وتتأثر ببعضها البعض ويتشارك أفراده هموماً أو اهتمامات مشتركة. سنرى أنه وفق هذا التعريف لم يكن لدينا مجتمع سوري، بل كان الوضع أقرب ما يكون لجماعة مشتركة أكثر منه مجتمع.

لتوضيح ذلك، علينا أن نرى إن كان بالامكان أن نقول أن المجتمع السوري في دمشق يشبه ذلك الموجود في طرطوس أو الرقة أو حلب مثلاً.

سنجد الكثير من الأمثلة أنه لايمكن قول ذلك، أبسطها هو الكيفية التي كان (وربما مايزال) ينظر بها أهل دمشق لأهل حلب مثلاً، والعكس بالعكس. الكيفية التي ينظر لها أهل دمشق لأهل الحسكة ودير الزور (كلمة شاوي مثلاً تعتبر نوعاً من الشتم في دمشق بحق أبناء تلك المناطق، مع أن معناها ليس ذلك).

بل إن الأمر أعقد من ذلك، فمثلاً ينظر أهل حلب لأبناء الريف الحلبي نظرة فوقية ونظرة ترقب وتخوف، مع أن الحدود الفاصلة بين الريف والمدينة تضمحل شيئاً فشيئاً، لكن ماتزال تبقى مثل هذه العوائق والأفكار، ولا يقتصر الأمر على نظرة أبناء المدن المركزية لغيرهم، بل حتى داخل المدينة الواحدة ستجد مثل هذه الطبقية.

فمن هو أصله من داخل السور في دمشق، سيعتبر نفسه من أبناء المدينة الأصليين، في حين أن من هو من خارج السور، فهم عائلات مهاجرة قدمت من الريف ومن درعا واستوطنت جوار دمشق، وفق نظرة أبناء داخل السور لهم.

نعم هذه أفكار منتشرة بين الكثيرين حتى يومنا هذا، وللآسف. نفس الأمر ينطبق على حلب وعلى حمص وحتى على طرطوس.

هنا نكتشف أننا فعلاً لسنا أمام مجتمع واحد، بل أمام كيانات وجماعات بشرية تعيش في نطاق جغرافي.

 يدل على ذلك أيضاً مدى الاختلاط والاقتراب والتداخل وتعقد العلاقات بين هذه الكيانات البشرية حتى داخل المدينة الواحدة، أو المدن المتشابهة اجتماعياً ودينياً.

للآسف لا نملك احصائيات حقيقة على مدى انتشار الزواج العابر لهذه الكيانات، فلا نعرف عدد الزيجات التي تمت بين سكان دمشق وريفها مثلاً، فضلاً أن نعرف عدد الزيجات العابرة للطوائف، حتى وان كانت باتجاه واحد بالنظر للقيود الدينية والاجتماعية التي تسمح بمثل هذه الزيجات للرجال وتحرمها على النساء.

هذه توصيفات ليست سهلة، وربما قد يكون من المجازفة إطلاقها بدون دراسات جادة حول "المجتمع السوري"، لكن هي صحيحة بمقدار تأملها وبمقدار المصارحة والشفافية التي يمكن التفكير بها في هذه المواضيع.

غير أن انكشاف مثل هذه الحقائق أمامنا، ليس مشكلةً بحد ذاته، بل وربما وجودها نفسه ليس مرضاً في نهاية المطاف، كون أن هذه الجماعات البشرية لم تتآلف فيما بينها، فهذا له أسبابه الكثيرة سواءً سياسية أو تاريخية أو دينية.

وفي النهاية هذا جزء من طبيعة البشر أن يصنفوا أنفسهم وغيرهم بناءً على ألوانهم واماكن سكنهم وولادتهم، انكار أن هذا جزء من طبيعة البشر هو ما ساهم في الانهيار المبطن الذي كنا نعاني منه والذي انكشف أمامنا اليوم.

لكن الفارق بين المجتمعات البشرية يكمن في قدرة الجماعات المشكلة لها على تجاوز هذه الاختلافات والانصهار الايجابي والتفاعل فيما بينهما لتشكيل وعي جمعي يدرك هذه الفوارق الاجتماعية، ويحاول تطويعها للصالح العام.

التغيير العنيف الحاصل في سوريا اليوم، يحمل بطياته جانباً يمكن البناء عليه.

يمكن النظر إليه أنه نضال لإعادة بناء العلاقات بين هذه الجماعات البشرية على قواعد جديدة، أبسطها تحييد هذه الانتماءات أمام القانون.

ربما تكون هذه نظرة مبسطة لحد السذاجة لهذا التغيير، لكن لو عدنا للأشهر الأولى للثورة السورية سنجد الكثير مما يدعم هذا الاتجاه، والمظاهرات التي خرجت أثناء إعلان الهدنة قبل شهرين والتي حملت نفس الشعارات الأولى دليل إضافي على ذلك.

غير أن الاستسلام لمثل هذه الأقوال فيه خطورة بتخيل أن الأمور على مايرام وان كل شيء يمكن ترميمه. في الواقع كلا، هناك شروخ وكسور حدثت من الصعب ترميمها ولايمكن التعامي عن ذلك.

الأمل فقط، إن كان لنا أن نأمل، أنه في مرحلة ما مستقبلية، سيتم الانتباه للثمن الهائل الذي دفعه سكان هذه البقعة الجغرافية في محاولة تصحيح وضع خاطئ، وأن يتم البناء على أسس سليمة لا تهضم حقوق طرف لصالح طرف أو تحابي جماعة على حساب جماعة أخرى. ومن الصحيح القول أن هذا لن يتم دفعة واحدة، أو عبر جرة قلم ولن يكون نهائياً بسرعة، بل سيكون نضالاً مستمراً يحتاج لاستمرار البناء عليه.

أحمد قطشة 


المواضيع الأكثر قراءة

SHARE

close