اذا اردنا ان نفهم سياسات القوى العظمى الفاعلة في منطقتنا يجب علينا ان نقرأ هذه السياسات ونحللها على فترة طويلة من الزمن ، ربما تمتد الى منتصف القرن التاسع عشر.
لم تتخلص الدول الاوربية من تهديد الدولة العثمانية المباشر لها الا في الربع الاخير من القرن الثامن عشر ، وبقيت اوربا تعتبر "الدولة الاسلامية" تشكل خطرا مباشرا عليها وتقبع شوكة في خاصرتها منذ ان استولى محمد الفاتح على اسطنبول عام 1453.
ورغم ضعف الدولة وترهلها وفقدانها للكثير من اراضيها ، الا ان وجودها كدولة اسلامية موحدة تمتد على ثلاث قارات وتقع في عقدة الطرق البرية والبحرية بين الدول العظمى ومستعمراتها في الشرق والجنوب كان دائما امرا مؤرقا للدول الغربية الاستعمارية ووجود غير مطمئن يلوح دائما بامكانية ارتداد هذه الدولة عليهم واستعادة قوتها التي ترتكز على الرابط الديني للمسلمين الذين دأبوا ان يكونوا جزءا من دولة اسلامية قوية على مدى 12 قرن من الزمن.
عداوة الدول الغربية الاستعمارية ليست مع "الاسلام" تحديدا ، ولكن مع أي رابط يمكن ان يشكل اساسا متينا لقيام دولة قوية في "قلب" العالم وينافس هذه الدول ( الامبراطوريات ) على مصالحها ونفوذها لا بل يمكن ان يهددها مباشرة في وجودها.
ولما كان الاسلام هو الرابط الذي طالما وحد شعوب المنطقة تحت راية "الدولة" فان هذا الرابط ولهذه الاسباب كان دائما هدفا مباشرا للدول الاستعمارية لاضعافه والقضاء عليه.
وبدأت الدول الغربية بتغذية النعرات "القومية" ( الموجودة اصلا ) في جسم "الدولة الاسلامية" باساليب كثيرة لا مجال لذكرها هنا ومحاولة تغليبها على دور "الرابطة" او الجامعة الاسلامية .. ودفع الشعوب المكون للدولة العثمانية للارتباط "بالعرق" على حساب "الدين" لاضعاف هذا الاخير ( كرابط ) وتفكيك الدولة "الخطر" والقضاء عليها ، او ابقائها في طور "الضعف والانحلال" والسيطرة على قرارها والعمل على ان تصبح هذه الدول ( الاستعمارية ) هي اساس وسبب استمرار وبقاء "الدولة الاسلامية".
لنتذكر حملة ابراهيم باشا ابن والي مصر محمد علي باشا ( 1831 ) الذي تمكن من السيطرة على سوريا وتوحيد معظم الاراضي "العربية" واتجه شمالا نحو اسطنبول وكان من الممكن يؤسس لدولة "عربية" قوية ليكون لها شأنا كبيرا وتلعب دورا منافسا للدول الكبرى.
ولكن ماذا حدث ؟ تدخلت الدول العظمى لحماية الدولة المتهالكة وطرد "القائد" القوي من الارض التي سيطر عليها وإلزامه بالبقاء داخل حدود ولايته ( مصر ) ..
واستمر حكم العثمانيين في ظل نفوذ غربي كبير الى ان بدأت الحرب "العظمى" ، الحرب العالمية الاولى.
لمن يقرأ التاريخ نرى بان الانكليز بقوا يصفون الدولة العثمانية "بالصديقة" وصدوا محاولة الشريف حسين بالانقلاب عليها قبل بداية الحرب وبعد بدايتها عندما لم تعلن تركيا موقفها بعد من الانضمام الى دول المحور والتحالف مع المانيا.
وبعد ان دخلت تركيا الحرب استدار الانكليز الى "المكون" العربي المتمثل في شخص الشريف حسين والذي ابدى في اكثر من مناسبة رغبته في التحالف مع الانكليز للحفاظ على موقعه اميرا لمكة.
وفعلا نجح الانكليز في "تأليب" قيادات العرب على الدولة العثمانية وبترتيب "مخابراتي" محترف استطاعوا في سحب "المكون العربي" من عامل دعم وقوة للدولة المتهالكة وحولوه الى سلاح اضافي يطلقون منه رصاصة الرحمة عليها ، ذلك بعد ان خرجت عن "سيطرتهم" بغير رجعة واصبح الصراع " صراع حياة وموت" بين انكلترا وفرنسا من جهة والمانيا والدولة العثمانية من جهة اخرى.
انتهت الحرب و"انتصر" العرب ونالوا "استقلالهم" ( 1918) فماذا حصل بعد ذلك ؟
الذي حصل بان الانكليز نقضوا عهودهم ، ورفضوا بشكل قاطع قيام أي دولة "عربية" موحدة تضم الاراضي التي طالب بها الحسين في مراسلته الشهيرة "حسين مكماهون" ..
وعندما "صدق" الامير فيصل نفسه واتخذ خطوات تتحدى ارادة الدول "الحليفة" انكلترا وفرنسا واعلن استقلال سوريا في اذار 1920 تم تنصيبه ملكا من قبل اول "برلمان" سوري في التاريخ ( المؤتمر السوري ) بناءا على احكام دستور عصري .. وجه "الحلفاء" انذارهم المعروف "انذار غورو" ليترك "الملك" ملكه وهذا ما حصل وخرج فيصل من سوريا الى غير رجعة ووضعت البلاد تحت الانتداب وفق احكام الاتفاقية "السرية" ( سايكس بيكو ) التي وضعت في الوقت ذاته الذي كان الانكليز يقدمون الوعد بعد الاخر للعرب بالحرية والاستقلال.
كل هذا يوضح سياسة الدول التي اقتسمت تركة "الرجل المريض" وقضت على " الدولة الاسلامية" في المنطقة ، السياسة التي تتجه الى التقسيم والتفتيت ودعم الجماعات والاعراق والطوائف في مواجهة بعضها وتمكين الاقلية من حكم الاكثرية من خلال الاستقواء بها لتبقى هي تسيطر على القرار وتدير الامور بما يتناسب مع مصالحها.
اذا راجعنا وثائق الحرب العالمية الاولى المتعلقة بالجزيرة العربية سنرى كيف ان الانكليز كانوا يدعمون الزعماء المحليين في الجزيرة العربية كل على حدى ويكيلون الوعود لكل واحد منهم بحسب اطماعه وطموحه .
فكانوا يعقدون المحادثات السرية ويتبادلون الرسائل مع الشريف حسين ويدعمونه بالشكل الذي يمكنه من تحقيق اهدافهم في "اضعاف" الجيش العثماني دون ان يمكنوه من تشكيل جيش منظم قوي يستطيع من خلاله ان يحفظ "الاستقلال" والاستقرار للارضي التي "يحررها" من العثمانيين ..
وفي نفس الوقت لا يمكن لهم ان يتركوه وحده في الساحة ويمكنوه من السيطرة على الجزيرة العربية ولا حتى يسمحوا له بحكمها من خلال التحالفات والاتفاقيات ، على العكس كانوا يدعمون بالمقابل "ال سعود" وحرصوا على ان يبقى هؤلاء شوكة في خاصرة الحسين وجدارا في وجه طموحه بتشكيل دولة عربية واحدة ..
وعندما ايضا "صدق" الشريف حسين نفسه ورفض عرض الانكليز "المجتزء" اعطوا الضوء الاخضر لعبد العزيز ال سعود وطردوا الحسين حتى من مسقط رأسه وارضه التي حكمها اجداده من قبله ولم يسمحوا بان يعود اليها قط.
انحاز الانكليز للطرف الذي قدم "الطاعة" اكثر ( ال سعود ) ، انحازوا للذي فهم اللعبة وتحالف معهم على اساس عدم المساس بمصالحهم ، بل على اساس ان يكون حارسا على تلك المصالح.
وفي تاريخ سوريا الحديث خلال الانتداب وبعده وعندما تشكلت "نواة" للعمل السياسي على اسس ديموقراطية بفعل "الجيل" الاصلاحي العثماني العربي الذي حاول مع باقي الاحزاب العثمانية "الاصلاحية " احلال الديموقراطية في الدولة العثمانية وحارب الاستبداد وامن بمبادئ الحكم الديموقراطي وقتها وانتقل الى محاولة تأسيس دولة عربية ديمقراطية بعد زوال دولتهم العثمانية ، مثل شكري القوتلي وهاشم الاتاسي وفارس الخوري وغيرهم من الاسماء المعروفة ماذا حصل ..
بعد "الجلاء" واختيار السوريين لرئيس مدني يرسخ مبدأ الشرعية وتمثيل الارادة الشعبية ( شكري القوتلي ) ، بدأ عصر العسكر ( الاستبداد ) والانقلابات وادخلت "سفارات" الدول العظمى ووكلائها البلاد في حالة من عدم الاستقرار ومصادرة الارادة الشعبية وتمكين الحكم الديكتاتوري المخابراتي الى ان وصلت البلاد الى حكم "حافظ الاسد" رمز الاستبداد وسيده في المنطقة في القرن العشرين ومثله مكن العسكر ( الاستبداد ) من الحكم في مصر وفي العراق ..
والاستبداد بدون "مؤامرة" ولا خطة يفعل فعله في المجتمعات يفقر ويجهل ويفرق ويساعد على تفشي كل الامراض المزمنة التي من شأنها ان تقضي على اية امة ..
وفي الطور الجديد اليوم من هذا المسير الطويل ، لم يتغير ابدا نهج الدول المهيمنة على مقدرات العالم في منطقتنا ..
من الممكن اليوم الا نفهم كل التفاصيل ولكن من خلال هذه المراجعة السريعة واذا تعمقنا اكثر ونظرنا نظرة اكثر شمولية من زاوية منفرجة تحصر بين زاويتيها حقبة اطول من الزمن سنفهم السياسات المطبقة اليوم ، والتي لم يتغير فيها شيء الا الاساليب بما يتناسب مع تطور الادوات و"العلوم العسكرية" التي من المفترض ان تصل بهذه الدول الى اهدافها وتستمر في تحقيق مصالحها باقل التكاليف ..
وعليه فان وكلاء ( الحكام ) هذه الدول المهيمنة يمهدون "التربة" ويغذونها بكل انواع السموم وعندما يأتي دور القطاف يمعنون في التفرقة والتقسيم، وما يتم تقسيمه لا يمكن في أي حال من الاحوال ان يسمحوا باعادة تشكيله وحدة واحدة تحت أي مسمى وعلى ولا على أي اساس ( راجعوا التاريخ ) ..
ان قامت وحدة سيمزقوها وان شكل مجلس سيعملوا على انحلاله واذا وقع تعاون قد يؤدي الى وحدة القرار او المصير سيحرصون على عمل كل ما يستطيعون لافشاله وزرع بذار الشقاق بين اطرافه ليعودوا الى الطريق المرسوم من قبلهم ..
وكل عميل او وكيل في المنطقة اما تنتهي فترة صلاحيته واما في لحظة من اللحظات يصدق كذبة "القائد والملهم " ويحاول ان يكسب الشرعية، وعندها سيرمونه في حفرة للصرف الصحي او يرفعون عنه الحماية ويرمونه للجماهير العطشى للثائر ليفرغوا رصاص مسدس في رأسه بعد ان يكون قد نال نصيبه من اللكز والنكز في مؤخرته ..
رئيس التحرير
نضال معلوف