“مأذون" القلمون والمهمات المستحيلة في ظل الحرب

لا يتوقف "أبو مالك" عن الحركة، وربما تجده في كل حي أو شارع من شوارع القلمون، فالمسؤوليات والمشكلات التي ألقتها أوضاع بلده على كاهله تحتاج لدولة بكامل مؤسساتها لمعالجتها، بينما هو يخوضها وحيدا، ويصارع من أجل الوفاء بكل متطلباتها، فبعضها لا يمكن أن يساعده فيه أحد.

لا يتوقف "أبو مالك" عن الحركة، وربما تجده في كل حي أو شارع من شوارع القلمون، فالمسؤوليات والمشكلات التي ألقتها أوضاع بلده على كاهله تحتاج لدولة بكامل مؤسساتها لمعالجتها، بينما هو يخوضها وحيدا، ويصارع من أجل الوفاء بكل متطلباتها، فبعضها لا يمكن أن يساعده فيه أحد.

خلال ساعات النهار يعمل بتدريس الأطفال في "المدرسة الشرعية”، وبعد ذلك يعمل على توزيع المعونات على المحتاجين، لكن دوره الأصعب في السنوات الأخيرة هو عمل المأذون، يوقع على عقود للزواج أو الطلاق، ولذا فربما دخل كل بيت في المدينة، وأسست عقوده بيوتا وأسرا جديدة، لكنها أيضا هدمت بيوتا عديدة في كثير من الأحيان.

ويؤكد أبو مالك أن عقود الطلاق أصبحت همه الأكبر وشغله الشاغل مؤخرا، بسبب الفراغ الذي شكله غياب السلطات من محاكم ورجال قانون، وهو ما جعله شخصا شديد الأهمية وموضع  احترام وتقدير من أهل قريته الذين فتحوا له صناديق الأسرار  في حياتهم الزوجية ومصاعبها بل وجرائمها أيضا.
 ولم يكن يتخيل وهو الرجل الذي عاش في المكان قرابة ستة عقود أن بعض تلك القصص يمكن أن تحدث في هذه المنطقة الجبلية الهادئة من ريف دمشق لكنها حدثت بالفعل، ويقول أبو مالك وهو يقلب أوراق الذاكرة :" أصرت "فرح" على الطلاق، رغم أن مبرراتها لا تستدعي ذلك، وبحكم موقعي أصررت عليها البقاء عند زوجها، وإلا شرعاً تعتبر هي المذنبة”.

وسرعان ما فتحت بئرا من البكاء والزفرات فقد سقطت بين أحضان والد زوجها بعد والد زوجها بعد أن لاحقها طويلا وتحرش بها وأغراها بالهدايا، والكلام المعسول، ثم هددها وتوعدها واستفرد بها وبدأ بلمس جسمها وأجبرها على مضاجعته”.

هذه القصة باختصار وغيرها لم تكن لتصل إلى حقيبة الأوراق السرية في غرفة نوم أبو مالك لولا ثقة المجتمع به نظراً لدوره الإنساني الكبير وسلوكه المستقيم وعلمه الشرعي، ونشاطه في حل العديد من المشاكل الشائكة، لذا تحول مع مرور الزمن إلى مخزن كبير لأسرار كثير من البيوت،

 ويقول أبو مالك إنه لم يكن أمامه سوى تطليق البنت رغم أنها تحب زوجها وكانت سعيدة بالعيش معه، كما أنه طلق كثيرات غيرها لأسباب مشابهة تتعلق بانتهاك كرامتهن وممارسة العنف الجنسي تجاههن سواء من الأقارب أو الأزواج الذين أثرت فيهم أوضاع الحرب وغياب القانون، ومن بين تلك الفتيات كانت س.ت التي أراد زوجها ممارسة الجنس معها على خلاف الطبيعة.



“طلبت رؤيتي على انفراد، وباحت بما يعتصر داخلها من ألم وصعوبة العيش مع هذا الرجل، لقد حاول أكثر من مرة ومنعته، ولكنه في المرة الأخيرة حاول ممارسة الشذوذ معي ولم أتمالك نفسي، وأريد الطلاق".

هكذا أصبح حال القلمون بعد خروجها عن سيطرة القوات الحكومية فلم يعد هناك محاكم أو مخفر شرطة، بل حل مكانهم رجال الدين، وأصبح الحل والعقد بيدهم.

ويستطرد الرجل الذي وجد نفسه في عين العاصفة "معدل الطلاق زاد بنسبة 70% بعد خمس سنوات من الحرب وازدادت المشاكل العائلية في ظل الحرب والبطالة والفراغ، ولجأت بعض العائلات لإجبار البنات الصغيرات للزواج قبل بلوغهن السن القانونية”.

ولا يتم توثيق أغلب الزيجات بشكل رسمي، وكثير من الأزواج يموتون في القتال وتبقى مشاكل اجتماعية لم تعرف من قبل مثل مشكلة الطفلة الأم (ف.ش) والتي تزوجت عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها فقط، من أحد عناصر الجيش الحر ولم يتم توثيق زواجها.
وبعد أشهر قليلة حملت وقبل أن تضع ولدها، قتل الأب في إحدى المعارك مع تنظيم الدولة “داعش”، وقد جاءت للشيخ باكية لا تدري ماذا تفعل "سأضع مولودا ولم أبلغ السن القانونية، وزواجي غير مسجل لدى الحكومة، وسيكون طفلي بدون قيود عند الدولة".
لكن المشكلة لم تعد مشكلة فتاة واحدة فهنالك ألاف الحالات المشابهة لتلك الحالة في أغلب المناطق التي لا يوجد فيها دوائر نفوس، حيث أن معظم حالات الزواج والطلاق لا تسجل، ووفقا للمادة 16 من قانون الأحوال الشخصية السوري والصادر عام 1950 فإن أهلية الزواج للفتى بتمام الثامنة عشرة وللفتاة بتمام السابعة عشرة من العمر”.

 وفي العام 2014 كشفت إحصائيات قضائية عن وجود نسبة كبيرة من معاملات الزواج لقاصرات أقدمن على الزواج عرفياً، إذ يتجاوز عدد معاملات تثبيت الزواج للقاصرات اللواتي تزوجن خارج المحكمة الشرعية 100 حالة يومياً، في حين بلغ عدد حالات الزواج العرفي في سورية للقاصرات ما يقارب 400 حالة.

لا يتوقف هاتف أبو مالك عن استقبال عشرات الاتصالات كل يوم، ومع كل اتصال حكاية جديدة لم يعد قادرا على المتابعة، ولذلك  وجد نفسه مندمجا في بعض اللجان التي تسعى للمصالحة بين  المعارضة المسلحة والجيش السوري النظامي، وأصبح حريصا على إيجاد أرضية مشتركة لتجنيب المدنيين المزيد من الحرب والدمار.
 ولا يخفي الشيخ المحمل بكل هذا الرصيد من مأسي المجتمع أنه يأمل أن يؤدي ذلك إلى وقف سفك الدماء وسقوط الضحايا ولكن أن يقود أيضا إلى الحفاظ على أسر سورية كثيرة وبيوت تتهاوى مع استمرار الحرب والصراع.

عاصم زيدان 


المواضيع الأكثر قراءة

SHARE

close