هل تصبح سوريا المعجزة الاقتصادية القادمة؟...بقلم : زاهر حبش

مقدمة

تعيش سوريا مرحلةً معقدة تعكس تراكم عقود من السياسات الخاطئة والعبثية، تفاقمت بشكل كبير خلال الحرب المدمرة التي أثرت على بنيتها التحتية واقتصادها ونسيجها الاجتماعي. منذ استلام حزب البعث للسلطة، تعرضت البلاد إلى سياسات ممنهجة صادرت الأسواق وموارد المال، ونشرت الفساد والمحسوبية، مما أضعف الطبقات الصناعية والتجارية والزراعية لصالح فئة مجرمة استغلت مقدرات الدولة. ومع بروز سياسات الخصخصة، سيطرت هذه الفئة على الاقتصاد كليًا، محولة إياه إلى أداة قمعية تجاه معارضيها والشعب السوري.

غياب أي خطة تنموية أو اقتصادية واضحة للدولة السورية عبر العقود الماضية ليس أمرًا مفاجئًا، إذ لم تكن السلطة الحاكمة تهدف إلى تنمية البلاد، بل انصب تركيزها على استنزاف موارد الدولة لتمويل رفاهيتها الخاصة وآلة التوحش ضد السوريين. وبلغ الوضع ذروته عندما بدأ النظام يعتمد على أموال المخدرات لتغطية احتياجاته بعد انهيار مؤسسات الدولة بشكل شبه كامل.

ورغم الصورة القاتمة الناتجة عن سنوات من الإهمال والنهب والدمار، فإن تجارب التاريخ تظهر أن الدول التي مرت بظروف مشابهة تمكنت من النهوض مجددًا، بفضل استراتيجيات واعية وإرادة وطنية صلبة استغلت قيام النظام الدولي الجديد والرغبة الدولية بالاستقرار. واليوم في سوريا جسدت الإرادة الوطنية الصلبة للثوار بالنصر على السلطة الوحشية وتظهر بوادر أمل بإعادة الدولة ومؤسساتها إلى أيدي الشعب. |
إذاً نعم، يمكن أن تصبح سوريا المعجزة الاقتصادية القادمة إذا استُثمرت الإرادة الشعبية والدولية اليوم في وضع خطط شاملة لإعادة الإعمار، مع ضمان دعم دولي ومكافحة الفساد، مما يمهد الطريق لنهوض سوريا وتحولها إلى نموذج تنموي واعد وهو ما يستعرضه هذا المقال بالتفصيل.

 

الدروس من الحرب العالمية الثانية: مقارنة بين الحالة اليابانية والحالة السورية

تعكس دروس إعادة الإعمار من الحرب العالمية الثانية أهمية النظر إلى تجارب الماضي لفهم تحديات الحاضر. رغم اختلاف الوضع السوري عن الحالة اليابانية، إلا أن التجربة الألمانية تحمل أوجه شبه أكبر للوضع السوري الراهن من حيث الدمار الشامل، الانقسام السياسي، والتدخلات الدولية.

الدروس المستفادة من الحالة اليابانية: على الرغم من الدمار الكبير الذي لحق باليابان بعد الحرب العالمية الثانية لكنه تمكن من تحقيق نهضة شاملة بفضل العوامل التالية:

الدعم الاقتصادي الأمريكي:
قدمت الولايات المتحدة مساعدات بقيمة 2.2 مليار دولار (1946-1952) لدعم الاقتصاد وإعادة الإعمار. 

تضمنت المساعدات: إصلاح البنية التحتية: إعادة بناء المدن المدمرة مثل طوكيو وهيروشيما.
إصلاحات سياسية واجتماعية: إرساء نظام ديمقراطي ودعم الإصلاحات الزراعية.

التعليم والتكنولوجيا: التركيز على نظام تعليمي حديث والاستثمار في الصناعات التقنية، مثل الإلكترونيات والسيارات.

 

على الرغم من الدروس الهامة التي يمكن تبنيها من التجربة اليابانية والتشابه من حيث الدمار الحاصل للبنية التحتية والمدن لكن هناك اختلافات عدة مثل: 

النظام الإمبراطوري كرمز موحد: احتفظت اليابان بالنظام الإمبراطوري كرمز يوحّد الشعب، رغم تقليص صلاحياته. هذا العامل ساهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي أثناء عملية إعادة الإعمار وإصلاح النظام الساسي والاقتصادي لليابان. الوضع السوري: المجتمع السوري باختلافاته العرقية والطائفية والفكرية يفتقد إلى رمز أو مؤسسة موحدة مما يصعّب تحقيق المصالحة الوطنية.

إشراف قوة دولية واحدة: خضعت اليابان لإشراف الولايات المتحدة، مما ساهم في تنسيق جهود إعادة الإعمار بينما في سوريا هناك أطراف دولية متعددة ذات مصالح متضاربة مما يعقد جهود إعادة الإعمار.


 

الحالة السورية: أوجه التشابه والاختلاف مع التجربة الألمانية

يشبه الوضع السوري الحالة الألمانية إلى حد كبير من حيث حجم الدمار الهائل الذي طال البنية التحتية في جميع أنحاء البلاد، إلى جانب انهيار الاقتصاد والمؤسسات الحكومية والعزلة الاقتصادية.

الدمار الشامل والانقسام السياسي: كما انقسمت ألمانيا إلى شرقية وغربية بعد الحرب العالمية الثانية، تواجه سوريا انقسامات سياسية وأيديولوجية مع سيطرة جهات متعددة على الأراضي، مثل الإدارة الذاتية الكردية، المعارضة، والنظام.

بالإضافة إلى ذلك، تسيطر دول دولية وإقليمية على أجزاء من الأراضي السورية، مما يجعل اتخاذ القرار السياسي الوطني أمراً صعباً دون مراعاة ردود الفعل من هذه الدول.

تعاني سوريا من نقص حاد في المساكن، نزوح جماعي، وحاجة ماسة إلى إعادة بناء قاعدتها الزراعية، والصناعية، والتجارية، والأمنية.

كما أن إعادة إعمار سوريا ستتطلب إدارة الوضع المجزأ وحلولاً للتعامل مع الأيديولوجيات المتنافسة، على غرار ما واجهته ألمانيا بعد الحرب إلا ان الوضع السوري اشد تعقيداً من الألماني نظراً للتنوع العرقي والطائفي والديني في سوريا

الدول القوى المنتصرة في ألمانيا كانت متفقة على إعادة بناء المانيا ومنع عسكرتها. في سوريا هناك عدة أطراف إقليمية ودولية ذات مصالح مختلفة قد لا تريد أن تدعم جهود إعادة الإعمار أو ترى سوريا دولة متعافية وقوية.

على الرغم من انهيار الدولة الألمانية إلا أنها استفادت من خبرة صناعية قوية ومؤسسات إدارية عريقة لكن سوريا ومن خلال حكم نظام البعث على مدى السنين تفتقر إلى الخبرات الصناعية والخبرات لإعادة الإعمار.


 

الدروس المستفادة من التجربة الألمانية:

خطة مارشال: حصلت ألمانيا الغربية على 1.4 مليار دولار (ما يعادل 15 مليار دولار حالياً) ضمن إطار خطة مارشال، مما ساهم في إعادة إعمار البنية التحتية، والصناعة، والمدن الألمانية، وأعطى دفعة أولية لتعافي الاقتصاد.

إصلاح العملة: أدى استبدال المارك القديم بعملة جديدة عام 1948 إلى استقرار السوق والقضاء على السوق السوداء.

إصلاح النظام السياسي والإداري: تمثّل ذلك في إعادة هيكلة مؤسسات الدولة ووضع دستور جديد لألمانيا.

لاقتصاد الاجتماعي: تبنّت ألمانيا مزيجاً بين اقتصاد السوق والعدالة الاجتماعية، مما أسهم في تحقيق تنمية مستدامة.

إعادة بناء البنية التحتية: شملت إعادة بناء شبكات النقل والمواصلات بشكل شامل.

إعادة بناء المراكز الصحية: تم إطلاق العديد من المبادرات الصحية وتجديد المراكز الصحية.

التعاون الإقليمي: كان انضمام ألمانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة عاملاً حاسماً في عملية إعادة البناء.



خطة طريق لإعادة إعمار سوريا:

الأمن: تحقيق الأمن يمثل الركيزة الأساسية لعملية إعادة الإعمار، حيث لا يمكن جذب مشاريع أو استثمارات دون ضمان الأمن والاستقرار. وتشمل الإجراءات المقترحة:

تفعيل دور المجتمع المحلي في ضبط الأمن خلال المرحلة المؤقتة.

تعزيز دور المؤسسات الأمنية الرسمية.

تفكيك الفصائل المسلحة وإعادة دمج أفرادها ضمن مؤسسة وطنية جامعة.

نشر قوات أمن وطنية موحدة بدعم محلي لضمان الاستقرار وحصر السلاح بأيدي هذه القوى.

إطلاق برنامج لمحاسبة مرتكبي الجرائم من النظام مع جدول زمني لضمان السلم الأهلي

تشكيل لجنة مختصة بقضية المختفيين قسرياً والمعتقلين والمفقودين لكشف الحقائق وتقديم المعونة للضحايا.


 

الإصلاح والاستقرار السياسي: يتطلب تحقيق الاستقرار السياسي إصلاحات شاملة تشمل:
وضع دستور جديد يعكس تطلعات جميع فئات الشعب.
إطلاق حوار وطني شامل يضم كافة الأطياف.
مكافحة الفساد في المؤسسات الحكومية لتعزيز النزاهة والشفافية.


صندوق تعافي سوريا ورفع العقوبات:
إنشاء صندوق دولي تحت إشراف الأمم المتحدة لتمويل مشاريع إعادة الإعمار، مع التركيز على العمل دبلوماسيًا لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا.
بناء شراكات مع منظمات دولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي.
تقديم حوافز للدول المانحة لضمان استمرارية المساعدات والاستثمارات.
وضع آليات صارمة لضمان الشفافية في استخدام الأموال المخصصة.
تقديم تقارير دورية عن تقدم الإصلاحات لتعزيز الثقة المحلية والدولية.

 

إعادة تأهيل الليرة السورية:

تطبيق سياسات نقدية لضبط التضخم.

دعم الليرة السورية عبر إنشاء احتياطي نقدي مدعوم دوليًا.

تنظيم الأسواق المحلية وتقديم بدائل اقتصادية فعّالة.

تعزيز الثقة بالمؤسسات الرسمية للحد من الاعتماد على السوق السوداء.

 

الموارد والخبرات الإنسانية:
استغلال الثروات الطبيعية مثل النفط والغاز.
التركيز على الصناعات الذكية مثل تكنولوجيا المعلومات والطاقة المتجددة 

وضع خطط لإعادة تأهيل المناطق الزراعية والصناعية والمرافق العامة من موانئ ومطارات و معابر حدودية
تنفيذ برامج تعليمية وتدريبية واسعة النطاق لتأهيل العمالة الوطنية.
تشجيع الكفاءات السورية بالخارج على العودة والمساهمة في إعادة الإعمار.


إعادة الإعمار وإصلاح المؤسسات الحكومية:
تحديث البنية التحتية مثل شبكات المياه، الكهرباء، والنقل.
خلق بيئة عمل جاذبة للكفاءات، مع الاستفادة من الخبرات المحلية والدولية.
رقمنة المؤسسات الحكومية للحد من الفساد وزيادة الكفاءة.

 

الاندماج بالسوق الدولية:
تخفيف القيود التجارية لزيادة الصادرات ودعم الاقتصاد الوطني.
تحسين العلاقات الاقتصادية مع الدول المجاورة.
تشجيع القطاع الخاص على تعزيز التجارة الدولية، مع تقديم حوافز ضريبية للاستثمارات الداخلية والخارجية.

 

خاتمة

تقف سوريا اليوم عند مفترق طرق تاريخي. ورغم الدمار الهائل والانقسامات السياسية والتحديات الاقتصادية، فإن التجارب التاريخية، مثل التجربتين اليابانية والألمانية، تثبت أن النهوض من الركام ليس مستحيلاً. يتطلب هذا النهوض إرادة شعبية موحدة، وإصلاحات سياسية جذرية، ودعماً دولياً فاعلاً، إلى جانب تبني رؤية تنموية شاملة تعيد بناء البنية التحتية وتعزز من قدرات الاقتصاد الوطني.

لضمان نجاح هذه المرحلة، من الضروري تشكيل مجلس خبراء يضم اختصاصيين من الكفاءات الوطنية السورية لدعم الحكومات السورية المتعاقبة في إدارة الاقتصاد، إعادة الإعمار، وتحقيق الاستقرار. هذا المجلس سيكون حجر الزاوية في إعادة بناء سوريا وتحويلها إلى نموذج اقتصادي واعد في المنطقة.

 

المراجع

"Japan's Post-War Reconstruction," History Learning Site.

"The Marshall Plan and Germany's Recovery," Economic History Review.

"Post-War Economic Recovery in Japan," Journal of Economic History.

"Rebuilding Germany: Lessons from the Past," European Policy Center.

 

*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة على سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]

 

 


المواضيع الأكثر قراءة

SHARE

close