مع كلّ عمليّة إرهابية تحدث في الغرب، يجد المسلمون أنفسهم في وضع حرج للغاية، وكان التضييق قد بدأ على المسلمين منذ أحداث أيلول في الولايات المتحدة، واستمر الأمر مع كل عمليّة كانت تقوم بها الجماعات المتطرّفة، إن كان في قلب الدول الغربية، أو من خلال ضرب مصالح الغرب خارج حدوده.
كانت العمليات قد أخذت طابعاً منظّماً مع توسّع نشاط تنظيم القاعدة، بعد هزيمة السوفييت وانسحابهم من أفغانستان. منذ ذلك الوقت باتت القاعدة محطّ أنظار الخلايا المتشدّدة في كافة أنحاء العالم. وبعد ما ينيف عن عقدين من الزمن، جاء ظهور تنظيم الدولة (داعش) كحلقة، قد لا تكون الأخيرة، ضمن سلسلة طويلة من العنف المتصاعد نتيجة الاحتقان المجتمعي، والاستعصاء السياسي، ومشاكل الثقافة والتربية، والسياسات التدخليّة الاستعمارية التي لم تترك للمنطقة فرصة التعافي من عيوبها الذاتية...
لكّن مسألة العنف لم تبدأ مع تنظيم القاعدة، ولن تنتهي مع تنظيم الدولة. فالعنف علّة أصيلة في التاريخ البشري، ويأخذ شكل ظاهرة حين تفشل السياسات وتغيب الحلول... مع تزايد الحرج الإسلامي العام أمام تفاقم الظاهرة، ومع ارتفاع وتيرة الضغط على الجاليات الإسلامية في الغرب، وتصاعد الحملات الإعلاميّة الممنهجة، التي عملت على الربط ما بين العنف كسلوك والإسلام كعقيدة، ظهرت دعوات لإعادة النظر في تراث الإسلام، وإجراء الإصلاحات الفكرية اللازمة فيه. وهي دعوات تحمل الكثير من الحق، ولكن بعضها يراد به الباطل أيضاً...
بتصوّري، لا يمكن فصل بعض دعوات الإصلاح عن الحملة العالميّة على الإرهاب، والتي أخذ منها الهجوم على الإسلام ككل حيّزاً لا يستهان به. فقد ركّز الإعلام الغربي، وتبعه في ذلك الإعلام الرسمي العربي، على الربط بين الإرهاب كظاهرة والإسلام كثقافة، وبالتالي كان تشخيص الظاهرة قد اعتمد مبكّراً جداً في أروقة السياسة الغربية، ثم جرى بّثه عبر حملات إعلامية من خلال حوارات علنيّة موسّعة؛ لقد قرّر بعضهم أنّ الإسلام هو أصل المشكلة، وبالتالي فلا حلّ إلّا بإصلاحٍ على هيئة الإصلاح الديني في أوروبا، أو بمعنى آخر: تحييد كامل للدين، ومن ثمّ التعامل مع كماضٍ غابر، وثقافة تنتمي إلى تاريخ، ولا رابط بينها وبين الواقع...
يجدر بنا التأكيد على مشروعيّة أي دعوة إصلاحيّة، وينبغي الإقرار بتأخّر عملية المراجعة عقوداً طويلة. فثمّة روايات واجتهادات عديدة بحاجة إلى إعادة القراءة وفق النصّ القرآني والواقع الراهن، وثمّة الكثير من البديهيات التراثية، والروايات المنسوبة إلى عصر السلف تحتاج إلى غربلة؛ سيّما الخاصّة بموضوع الردّة، والذي يتعارض مع بديهيات وعموميات النص القرآني والسلوك النبوي. كذلك الأمر في ما يخصّ مسائل الرجم، والتعامل مع الأسرى...
ومن الجدير التذكير به، أنّ التاريخ الإسلامي المتوسّط والحديث يسجّل لنا سيرة العديد من الحركات الإصلاحيّة، بعضها أصابه الجمود لاحقاً، في حين أنّ بعضها الآخر لم يفلح في إكمال مسيرته. نذكر هنا حركة محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، ومن بعده اجتهادات رشيد رضا، و جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وقد كانت حركات مختلفة فيما بينها، لكنها التزمت جميعها بفكرة التجديد "من داخل الإسلام"، بما يتناسب مع الحاجات المتجددة للأمّة.
وفي العصر الحديث، لم تخلُ كتابات كثير من المفكّرين الإسلاميين من حديث عن الإصلاح أو التجديد... مع اختلاف المعاني المقصودة بحسب التوجّه الفكري للقائل به. بعضهم قصد منه محاربة البدع والخرافات، بينما ذهب آخرون إلى ضرورة مواكبة الحداثة وضرورات العصر، دون تفريط بمقاصد النص. في حين أنّ فئة كانت لا ترى الإصلاح إلّا من خلال حثّ الأمّة على أداء الفريضة الغائبة، أي الجهاد، و هذا الغلو جعلها منها عبئاً جديداً على الأمّة.
إذن، لا جدال في أنّ الإصلاح، ونقد التراث، مطلب حيوي للنهوض بالمجتمعات الإسلاميّة. لكنّ الإصلاح المطلوب إصلاح يراعي ثقافة هذه المجتمعات، ويتفهّم احتياجاتها، وهو مختلف جذرياً عن الدعوات الاستعلائية التي ظهرت مؤخراً، بشكل متزامن مع الحملة المتصاعدة على الإسلام، حيث بات الحديث عن نقد الإسلام وتراثه، وكامل تجربته، الشغل الشاغل لفئة من التغريبيّين، الذين يريدون فرض حلول خارجية على مجتمعاتهم، بما يوافق وجهة نظر الآخرين عنها.
مؤخراً، شهدت تلك التيارات انتعاشاً أكثر ممّا مضى، وبات الكلام معلناً من قبل كثيرين حول العلاقة ما بين النصوص الدينيّة والسلوك الدموي المتطرف. وبالنسبة لكثيرين، لم يعد الكلام عن الإصلاح يعني إصلاح حال المسلمين من خلال إعادة قراءة النصوص قراءة معاصرة، بل ظهرت أصوات تحاكم النصّ كمسبّب للتطرّف، وبالتالي عوضاً عن أن يوضع السلوك المتطرف في قفص الاتهام، لسوء فهم أصحابه للنص، ولعدم قدرتهم على قراءته قراءة مناسبة لتغيرات الزمن، بات الإسلام نفسه موضوعاً في القفص، وباتت الأصابع تشير إليه كمصدر عقائدي للعنف والإرهاب!
هذه الدعوات، والتي يتم تقديمها على طبق الإصلاح، لا تندرج أصلاً تحت مسمى الإصلاح، بل الأصح أن يطلق عليها حركات "الهدم" وإن خرجت بلبوس الإصلاح، وقد أعطى جنون داعش وأخواتها دفعاً كبيراً لهذه الدعوات، فلقد مارست داعش فعلياً أبشع الجرائم ضد الإنسانيّة، ونسبت كل أفعالها إلى القرآن والروايات التاريخية.
اعتمدت دعوات الهدم على ممارسات داعش بالدرجة الأولى، لتبرّر توجيه سهامها نحو القرآن بوصفه نصّاً يحرّض على العنف والكراهيّة. لم يعد النقاش مطروحاً حول تجديد فهم النصوص قطعيّة الدلالة والثبوت، بل بات الأمر عبارة عن مساواة بين داعش والإسلام، وبذلك اتفق أصحاب هذا الكلام مع الرأي القائل بأنّ ذلك التنظيم المشوّه يمثّل التطبيق الأمثل للإسلام.
من اللافت للنظر، ذلك التشابه في فهم النصوص بين المتطرفين الإسلاميين و دعاة الهدم، فكلاهما فهما القرآن فهما سطحياً، فخرجا بنتائج متطابقة. سيّما عند تناولهما لآيات القتال، وهي آيات تنقل توجيهات للمسلمين ضمن أجواء حربية قتاليّة. فالمتطرف اعتمد على النص لتبرير ميوله الإجرامية، في حين قام دعاة الهدم باعتماد النص لتبرير تحييده عن الحياة، بذريعة تحريضه على الكراهية والقتل. اتّفق الفريقان على عنف النص؛ وكلّ منهما استخدم النتيجة بما يخدم توجّههم المحدد...
يحق لنا الشكّ بتوجّهات أي دعوة تدعو إلى الهدم، ويحق لنا وضعها في سياق الحملة العالمية على الإسلام في هذه الفترة بالذات. وإن كان التطرّف هو الإفراط الذي يهدّد أمن المجتمعات، فإنّ دعوات الهدم، التي لا تميّز ما بين الواهي والأصيل، هي التفريط الذي يهدّد هويّتها الثقافية.
د.عماد العبار