وقع في يدي منذ أيام كتاب متفرد بعنوان "عرب بلا رب" للكاتب البريطاني براين ويتاكر, المحرر بصحيفة "الجارديان", والمهتم منذ عقود بشؤون الشرق الأوسط.
يحكي الكتاب عن تاريخ الإلحاد وحرية المعتقد في الشرق الأوسط, ويشار الى ان التفرد في ذلك الكتاب ليس فقط في عنوانه الأخاذ ولا في مناقشته لأحد "التابوهات" في الثقافة العربية, ولكن أيضا لإنصافه الشديد واعتداله في طرح موضوعه الى جانب وعيه الكامل بالمتغيرات التي حدثت للشرق الأوسط خاصة بعد ثورات الربيع العربي.
أورد الكتاب أمثلة تاريخية عن بعض مشاهير العرب الذين وسموا بالإلحاد ومنهم العالم الشهير "أبو بكر الرازي", والشاعر الأشهر "أبو علاء المعري". كما تعرض الكاتب لقصص تروي كيف اتجه بعض الأشخاص إلى الإلحاد, وصور لنا معاناتهم في حياتهم الشخصية بعد اتخاذهم لقرار جذري وصادم كهذا.
وعند قراءتي لهذه القصص, استوقفتني إحداها تتحدث عن مهندس هندي مسلم سافر للعمل في المملكة العربية السعودية, فهاله ما رأى هناك من ظلم وعنصرية وأخلاقيات متدنية حتى من زملائه في العمل, فما لبث الا أن اتجه, بعد بحث وقراءات متعددة, نحو الإلحاد.
لم تنته القصة الحزينة بل إنه وبعد عودته الى بلده الهند نجح بإقناع والديه الطاعنين في السن بترك الإسلام, ثم توفي والده بعد ذلك بشهور قليلة. ورغم انني لا أحمل ضغينة تجاه تلك التحولات, إلا أنني وجدتني متلبسا بحزن عميق تجاه ذلك العجوز الهندي الذي ترك دينه ليلقى ربه كافرا بعد عبادته له ثمانون عاما.
أثار ذلك الكاتب تساؤلاتي حول قضية الإلحاد, ولا سيما في ضوء التقارير الواردة من جهات عدة والتي تشير الى تزايد ملحوظ في عدد الملحدين بين أوساط الشباب العرب بالتزامن مع ثورات الربيع العربي وانكسار حاجز الخوف وانحسار الخطوط الحمراء السياسية والدينية والاجتماعية.
ففي ظل الأنظمة السابقة والمجتمعات شديدة التحفظ لم يكن مسموحا للملحد أن يجهر بآرائه أو معتقداته إلا وحوصر اجتماعيا أو عوقب جنائيا هذا إن لم يفتك به أهالي منطقته, وهو ما تغير بشكل واضح بعد عام 2011.
ذلك الغموض حول مجتمعات الملحدين جعل الصورة النمطية عن الفرد الملحد أنه ذلك الشخص المهتز نفسيا أو المضلل فكريا أو هو ذلك الشخص الذي يتعمد إثارة الجدل بحثا عن شهرة أو عن طلب لجوء سياسي بدعوى الاضطهاد الديني في بعض الأحيان. ورغم أن تلك النماذج موجودة بالفعل إلا أنه لا يمكن تعميمها على كافة الملحدين, لأن غالبية الملحدين, الذين تابعتهم أو قرأت عنهم, كانوا على قدر عال من التعليم والثقافة.
وبعد انتهائي من الكتاب الذي يروي قصص إلحاد لبعض الشباب, حاولت البحث ومتابعة مدونات تحمل أفكارا إلحادية, وكان هدفي الأساسي هو معرفة الأسباب التي تدعو الشباب للجنوح الى تلك الأفكار, وما هو تصورهم للحياة بعد تخليهم عن دينهم السابق.
وقبل التطرق لأنواع الملحدين, أود أن أشير الى أنه من العسير الوصول إلى أرقام دقيقة عن عدد الملحدين في العالم, ولا سيما في العالم العربي, إلا أن بعض الجهات الدينية أشارت إلى بعض الأرقام. فوفقا لتصريحات لدار الإفتاء المصرية في كانون الثاني 2014، فإن هناك نحو 866 ملحدا في مصر، في حين قدر آخرون عددهم بالآلاف.
وفى نفس العام، عممت عدة وسائل إعلام سعودية دراسة أجرتها مؤسسة "وين غالوب الدولية للأبحاث" كشفت فيها أن "خمسة في المئة من السعوديين قالوا إنهم كانوا ملحدين"، أي في بلد يبلغ عدد سكانه 29 مليون نسمة.
وكانت هيئة الإذاعة البريطانية أعلنت أن نسبة الملحدين بلغت 8% من سكان العالم وذلك بحسب مسح أجرته عام 2004. يتواجد أغلبهم في أوروبا وشرق آسيا, وتتجاوز نسبتهم 40% في بلدان مثل فرنسا وكوريا الجنوبية, في حين يظل تعداد الملحدين في الشرق الأوسط مجهولا وهو ما يبدو منطقيا في ظل إحجام الملحدين العرب عن البوح بمعتقداتهم الحقيقية.
وفيما يلي تصنيف مبسط لأنواع الملحدين العرب وأسباب الحادهم (مع التنويه الا أنني كنت أقوم بدور المتابع فقط ولم أجر أي نقاشات مباشرة مع أي منهم):
ينقسم الملحدون الى ثلاثة أنواع رئيسية:
1-الربوبيون: وهو من يؤمنون بوجود خالق عظيم للكون لكنهم ينكرون فكرة الأديان كما أنهم لا يؤمنون بالأمور الغيبية كالمعجزات والوحي.
2-اللا أدريون: وهم كما يتضح من تسميتهم لا يؤمنون بوجود الله ولكن لا ينكرون وجوده بنفس الوقت, هم فقط جعلوا إيمانهم معلق حسب ما تقول أدبياتهم.
3-الملحدون: وهم من ينفون وجود إله كليا, ويقولون أنه لا دليل مادي أو تجريبي على وجود الإله الخالق وأنه على المؤمنين بفكرة الإله الخالق أن يثبتوا وجوده عليما أو عمليا قبل أن يحاربوا فكرة الإلحاد.
وهنا نأتي الى الأسباب التي أوردها بعض الملحدين في تدويناتهم أو رواياتهم حتى نضع أيدينا على جوهر الأزمات التي مر بها أولئك الشباب ودفعتهم الى الإلحاد وترك أديانهم, عسى أن يوضع حد لذلك النزيف المستمر والمتزايد من شبابنا المتجه نحو هاوية الالحاد باندفاع غير مسبوق:
-الأسئلة الوجودية والمعضلات الفلسفية: اعتنق الكثيرون الفكر الالحادي نتيجة عدم توافر إجابات لتساؤلات حائرة حول غيبيات متعددة أهما "إذا كان الله هو الخالق فمن خلق الله؟", ولكن أكثرها جدلا كان سؤال "هل الانسان مخير أم مسير؟", وأقتبس هنا تساؤل أحدهم "إذا كان الله هو الرحمن الرحيم وهو القادر على كل شيئ وهو العالم بكل شيئ فكيف يخلق إنسانا ويلهمه فعل الخطأ ثم يصليه بعد ذلك الجحيم؟"....هنا يطرح الملحدون أسئلة أراها مشروعة, رغم ايماني التام بتلك الغيبيات من وجهة النظر الإسلامية, إلا أنه لا يمكننا أن نحاسب انسانا لمجرد أنه يمر بمرحلة شك, بل الأولى أن يتصدى المفكرون والفلاسفة المؤمنون لمناقشة تلك التساؤلات بدلا من مهاجمة أصحابها.
-التنشئة الدينية المتشددة: ذكر استطلاع رأي أجراه مركز "بيو" للدراسات عام 2010 أن خمسة وثلاثون ملحدا من أصل أربعين نشأوا في بيئة بروتستانتية أو كاثوليكية محافظة. ونذكر هنا مثالا عن أحد الملحدين المصريين يقول أنه كان ينتمي للدعوة السلفية قبل الحاده وأنهم تربوا على طاعة مشايخهم وتطبيق ظواهر النصوص, ولما تعمق في القراءة والاطلاع اصطدم بأحكام وآراء تتنافى مع كل القيم الإنسانية وكانت تلك اللحظة هي بداية مراجعته لأفكاره انتهاء بخروجه من الإسلام وإعلان إلحاده.
كما تذكر إحدى المسلمات السابقات أنها كانت منقبة وملتزمة بجميع الفرائض, إلا ان وجدت أسرتها الملتزمة دينيا تؤمن وتصر على قناعات تنتقص من قدر المرأة وتحط من شأنها إلى درجة مساواتها بالحيوانات على حد قولها, فكان ذلك دافعها الرئيسي نحو الالحاد.
-المذهبية والطائفية الدينية: تجتمع آراء الملحدين العرب حول هذه النقطة تحديدا, ويقول أحدهم "كيف يقوم الخالق بإرسال الأنبياء والرسل كي يأمروا أتباعهم بقتل مخالفيهم إرضاء للإله؟", وضرب أولئك الأمثلة بالقتالات الطائفية بين السنة والشيعة في الإسلام وكذلك بين الطوائف المسيحية المختلفة ناهيك عن الكراهية المتأصلة بين أتباع الديانات المختلفة على حد تعبيرهم.
-التعارض بين الأديان والعلم: يرى جزء غير يسير من الملحدين أنهم تحولوا للإلحاد بعد ما فشلوا في التوفيق بين قناعات العلم ومفاهيم الإيمان...فهم يعيبون على أصحاب الديانات إنكارهم نظرية "النشوء والارتقاء" لداروين, أو نظرية "الإنفجار الكوني العظيم" مثلا في مقابل تصديقهم للروايات الدينية التي تتحدث عن أصل الانسان أو خلق الكون...كما لا يؤمن أنصار ذلك التيار بالمعجزات الحسية كالاسراء والمعراج أو معجزات السيد المسيح لأنها تخالف الناموس الطبيعي للكون.
كذلك تعرض البعض لمحاولات تفسير الاعجاز العلمي للقرآن, فيقول أحدهم "يحاول علماء المسلمين أن يقنعوا العالم بان للقرآن معجزات علمية ولكن بطريقة عكسية فهم ينتظرون ظهور الاكتشافات العلمية ثم يحاولون البحث في آيات قرآنية يمكن تأويلها وإسقاطها على الحقيقة المكتشفة علميا", ثم يضرب مثلا بآية "وأنزلنا الحديد...", فيقول إنه بعد اكتشاف العلماء لحقيقة أن الحديد لم يكن من معادن الكرة الأرضية بل أتى من الفضاء الخارجي سارع العلماء المسلمون لتأويل تلك الآية على أنها من الإعجاز العلمي القرآني, في حين أن كلمة "أنزلنا" تحمل تأويلات أخرى كما في آية "وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج...", فهل معنى ذلك أن الأنعام أيضا جاءت من الفضاء الخارجي؟؟
-الاندماج في المجتمعات الغربية: ينقسم ذلك الفريق إلى نصفين, النصف الأول هو من رأى أن كل ما يروج داخل الشرق الأوسط عن المجتمعات الغربية بأنها مجتمعات منحلة بطبعها أو أنها تفتقر الى القيم الإنسانية هو محض افتراء بل بالعكس وجدوا أن هناك كثيرا من الفضائل التي اندثرت في مجتمعات العرب كالإخلاص في العمل والصدق واحترام حرية وخصوصية الافراد, فكان رد فعل ذلك الفريق هو التخلي عن كل ما آمنوا به في أوطانهم وتبني الأفكار الموجودة داخل مجتمعاتهم الجديدة خاصة من ذهبوا الى أوروبا. أما النصف الثاني فهو من امتلك شجاعة الاعتراف في أنه وجد سعادته في كثير من الأشياء المحرمة دينيا كالمشروبات الكحولية والعلاقات الجنسية, خارج إطار الزواج, أو العلاقات المثلية, حيث أنهم لم يتحملوا مواجهة وازعهم الديني أو وخز ضمائرهم المستمر فاتجهوا شيئا فشيئا إلى التخلي عن معتقداتهم مقابل الاستمتاع بملذات الحياة من وجهة نظرهم.
كانت تلك أهم الدوافع التي لاحظتها من متابعتي لتدوينات وكتابات بعض الملحدين العرب, فإذا ما أمعنا التفكير سنجد أنها تحتوي على بعض المفاهيم المغلوطة كما أنها تحتوي على تساؤلات حقيقية ومشروعة. وسنجد أيضا أن هؤلاء الشباب هم ضحايا جهل وتخلف وتأخر وضحالة مجتمعاتهم, لكن ما يثير الدهشة والحزن معا هو تعسف المجتمعات المبالغ فيه مع هؤلاء الضحايا. فتجد المسلمين الذين أمرهم ربهم بالدعوة الى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة لا يتوانون عن نهش أولئك الشباب بكل الصور الممكنة بدءا من الاعتداء الجسدي مرورا بالمحاكمات والاغتيال المعنوي أو نبذهم من المجتمع على أقل تقدير. في حين يكتفي علماء الدين ومشايخ المؤسسات الرسمية بالمطالبة بمحاكمة هذا أو ذاك بدلا من السعي الحثيث نحو إثنائه عن أفكاره ومقارعته الحجة بالحجة وإعادته الى روضة الايمان.
وبهذا نرى أن خطورة أزمة الإلحاد في الشرق الأوسط تكمن بأنها كجبل الجليد الذي لا يظهر منه سوى قمته و الواقع يقول أنك قد تكون تتعامل يومياً مع ملحد أو ربوبي من دائرتك المقربة, فالإلحاد لازال فكرة يخشي الفرد البوح بها حتي إلي أقرب المقربين إلي إذا كان يُشاطره أفكاراً شبيهة ، لذلك فإن التحاور الإيجابي مع هؤلاء الشباب هو الحل الأمثل فسياسات الترهيب و التسلط الديني أو المجتمعي لن تورثهم إلا مزيداً من الحنق و العند ، و يكفي أن تعلم عزيزي القارئ أن استطلاعا للرأي أُجري منذ سنوات أظهر أن ١٣٪ فقط من الملحدين مقتنعون قناعة تامة بفكرة الإلحاد و أن غالبيتهم كانوا يُعانون من الخواء الروحي وهو ما يعني أن باباً لا يزال مفتوحاً بيننا و بينهم.
لذلك...فقط ساعدوهم قبل أن تجلدوهم.
د. عمر فهمي