انفصال .. الفضيلة بين الغني والفقير ؟

06.09.2018 | 13:32

مراجعة : عبد الكريم انيس

فيلم "انفصال" موضوع مادتنا اليوم تتخطى فيه القيّم الإنسانية لأفكاره المطروحة كل ما عداها من أشياء تبدو تفصيلاتها اعتيادية وبسيطة جداً حد الملل. لا يوجد ما يشدك في الفيلم، فالديكور بسيط جداً وغير متكلف، ولا يوجد أحداث تعتمد على التشويق المتسارع، إلا ما يتسق مع التصعيد الدرامي للأحداث التي تحدث بشكل بارد طبيعي يشبه الحياة اليومية التي نعيشها في شرقنا المتعب والهرم...حتى تظهر الحقيقة مختلطة الأبعاد.

يعتمد الفيلم اعتماداً كلياً على تجاذبات اجتماعية يومية يضعها في قالب التضاد والنزاع ترتكز إلى الحاجة المادية وطلب الحياة الأفضل.. فنجد: النفور بدون حقد، العلاقات الأسرية، الوفاء الذي يأسر الصغير والكبير على حد سواء، الكذب، الفقر "الأبيض" الذي يرفض المال الذي تدخله شبهة، القيم التي  تنتصر على القهر والفقر والحاجة...

وفجأة تنفصل الغشاوة الكاذبة عن الحقيقة التي يعاني منها الجميع، ويحصل الانفراج، ولكنه انفراج يعيد المشاهد لنقطة البداية، فمخرج الفيلم لا يهتم بتحقيق النهاية السعيدة لأنه غلّب مبدأ الواقعية الاجتماعية، وهو مبدأ يستحق الاحترام كونه يدعو المشاهد لإعادة النظر بحيثيات مجتمعه أكثر من إعطائه الفرصة كي يخرج معتقداً أن مشاكله المعقدة سيتم حلها بالانسيابية ذاتها التي يحققها كاتب السيناريو المتحكم بكل التفاصيل.

الطلاق وسيلة نهائية

على خلاف المتداول من استخدام لفظ الطلاق أو التفريق، والتي يكون أحد الشريكين فيها قد عانى بشدة من الطرف الآخر، لا يستخدم كاتب السيناريو الأسباب الشائعة وراء انكسار العلاقات على المستويات الثنائية بين أفراد المجتمع (الإهانة ـ القسوة ـ الضعف...إلخ)، هنا يقع الطلاق بسبب فضيلة، هذه الفضيلة هي البقاء مع أب مسن مقعد ومصاب بالخرف، لا يمكن للابن أن يتركه وراءه. وهذا بحد ذاته يجعل نص الحوار وفكرة الفيلم متجاوزة للأفكار النمطية السائدة عن علاقات ما قبل الطلاق وما يحدث خلالها، وهذا ما منح الفيلم جواز الانطلاق بفيزا مفتوحة في عالم التشويق لنستكشف أين ستنتهي أحداث بدأت لأسباب متعلقة بالقيّم

محاولة للتبرير

تحاول الزوجة التي طلبت التفريق تبرير موقفها بأن فرصة الحياة الجديدة التي ستمنح لها ولزوجها في أميركا عالم الأحلام وعالم الفرص  التي لا تعوَّض، لا يمكن تفويتها، ومن يفكر بإضاعة مثل هذه الفرصة لا بد أن لديه مشاكل في القدرة على الحلم بحياة مختلفة لا يمكن إطلاقاً تحصيلها في ايران. ولهذا تطلب التفريق من زوجها، الذي تصفه للقاضي بأنه صاحب أخلاق جيدة وإنسان محترم، ولكنها لا تستوعب تصميمه على العناية بوالده المصاب بالخرف، رغم أن هذا الأب لا يستطيع تمييزه ولا يتعرف أنه ابنه البيولوجي الحقيقي، وبإمكان أي شخص آخر أن يقوم بالمهمة دون تبعات أخلاقية...

ومن هذه الحادثة غير المعهودة، وعلى عكس طلبات التفريق التي تكون فيها الأنثى غالباً إنسانة ضعيفة ومقهورة من قبل زوج جاهل وقاس، نجد نص السيناريو المميز يدفعك لتتعاطف مع الزوج، فالحالة هنا مختلفة، والطرف الذي يتعرض للضغط هو الزوج صاحب المبدأ الأخلاقي الذي لا يمكننا إلا احترامه.

رسالة أخلاقية

في الفيلم خصوصية تعليمية عالية مليئة بالأدب والاحترام، من خلال إظهار العلاقة التي سادت بين الزوجين في مرحلة طلب التفريق، وهي تتعاكس بشكل كبير مع ثقافة متعارف عليها بمجتمعاتنا في مرحلة الشقاقات الاجتماعية التي تتميز عادة بكونها مدمرة وتتصاحب عموماً بالكراهية ويضيع فيها الأبناء جراء تفكيك منظومة الأسرة الهيكلية. لدينا ضمن مسار الفيلم طفلة تنحاز لموقف والدها وتقف ضد إرادة والدتها، ولكنها تتأثر تأثراً طبيعياً بهذه التجربة القاسية، ولكن مع فارق هام وكبير، كونها تنحدر من أبوين متعلمين ومثقفين وصاحبي أخلاق رفيعة، لم تسيطر مشاكلهما الشخصية على طفلتهما، بالإضافة لكونهما مكتفين مادياً وليسا من الطبقة المعوزة، التي غالباً تكون نتائج مثل هذه التجارب فيها ذات آثار مدمرة وتداعياتها مؤلمة جداً.

الفقر والأخلاق

في جهة مقابلة يذهب بنا كاتب النص لعائلة معوزة تعيش حياة قاسية ، تضطر وبفعل آثار القهر الاجتماعي للقبول بالعناية بوالد الرجل، الذي يحتاج لمن يهتم بوالده حين يكون في العمل، وبأسلوب بسيط للغاية نشاهد كيف تتحول سيدة تعيل زوجها المديون وطفلتها وتقاسي الفقر لمهنة رعاية كبار السن، وهي مهنة مجهدة وتحتاج بالإضافة للقدرة الجسدية معرفة ببعض الأمور الطبية الإسعافية، واستعداداً للرعاية المتوقعة بشخص متقدم بالسن يعاني اضطراباً في الذاكرة.

ونشاهد هنا كيف تدبر بعض النساء الفقيرات حاجات أسرهن عن طريق العمل في خدمة البيوت، مع غياب كامل لدورالدولة في تأمين حقوقهن أو حتى متابعة شؤونهن. ويكون مضمون العلاقة بين رب العمل والعاملة قائم على أساس أخلاقي يعتمد في حال الاختلاف على ضمير الأقوى، في واقع يسجل حالات كثيرة من الاعتداء على الحقوق وحتى على الأخلاق.

حادثة فارقة

يضيع الأب الخرف، ويغضب الزوج بشدة لاكتشافه ما حدث مع والده المريض، وتقع مشادة بين الطرفين: السيدة الفقيرة التي تعمل في بيته لتعيل عائلتها وزوجها المديون، والتي تحرص على مشاعره كثيراً، مع الزوج الأخلاقي الذي يعاني من آثار إجراءات طلاقه وما يفرز عن ذلك من تأثير على حياته بالإضافة لحمله مسؤولية والده. الحادثة هنا لا تضعنا حكماً بين شخصين سيئين، بل تضعنا أمام ظروف متباينة، تدفع كل طرف ليأخذ اتجاهاً مختلفاً يجده محقاً.

تتعقد المسألة حين يتطور الموضوع لإنهاء وظيفة مؤقتة بدون حقوق مضمونة، بعد شجار عاصف دفع فيه الزوج السيدة الفقيرة فأسقطها أرضاً مما أدى لإسقاط جنينها.. لقد وضعنا الفيلم الآن أمام  جريمة قتل، تتعقد حين يعتبر القضاء أن جنين السيدة العاملة عمره أكبر من أربع أشهر، وبالتالي تتطور القصة الخلافية التي تحدث في بيوت مغلقة كثيرة لتصبح قضية كبرى، ويحاول كل طرف أن يتنصل من مسؤولية قد تترتب عليه، ألا وهي الإخبار بالحقيقة كاملة، ليأخذ العدل مجراه.

الانفراج وتعليق للمسألة الأساسية

رغم فقر وحاجة السيدة العاملة، ورغم كونها إنسانة بسيطة لم تتلق تعليماً وافياً، ورغم كونها ادعت ادعاءً على الرجل صاحب الأخلاق الكريمة الذي أصرّ على رعاية والده المسن، إلا أن مستوى الأخلاق لدى هذه السيدة كان أعلى من رغبتها بالحصول على أي تعويض مالي كان من الممكن أن تحصل عليه لقاء حكم قضائي لصالحها يمكّن زوجها من الوفاء بديونه كلها، واختارت بأخلاقية عالية المستوى تحكيم ضميرها، والاعتراف بالحقيقة.

تصرف السيدة الفقيرة التي هي بحاجة ماسة للمال وتراجعها عن قبول مال لا تستحقه يوازي بكل قيمة أخلاقية ممكنة الخطوة الأساسية التي اتخذها الرجل المقتدر والمكتفي مالياً والذي رفض السفر لبلد الأحلام لكي يقوم برعاية والده المسن والمريض.

درس أخلاقي كبير يقدمه الفيلم لنا، وهو أن الفقير العفيف شخص على قدر عال من المسؤولية الأخلاقية، ترتقي به وتحميه من الانزلاق، حتى في حال قدرته على تمثيل دور الضحية.

يختتم الفيلم بالقضية التي عنونها أساساً ضمن أسلوب النهاية المعلقة التي تحتمل كل الإمكانيات الممكنة، فتمكنك أنت كمشاهد من أن تكون صاحب خيار في كيفية إنهائها وأخذ الخيارات التي باعتقادك أنها خيارات صائبة، وعلى قدر كاف من الصحة.

Jodaeiye Nader az Simin، a separation، Une séparation الفيلم الإيراني "انفصال" وقد مثله بكل إجادة وبساطة متقنة كل من  Payman Maadi، Leila Hatami، Sareh Bayat،  Shahab Hosseini، Ali-Asghar Shahbazi، وآخرون.

وقام بكتابة السيناريو وإخراج الفيلم المبدع Asghar Farhadi.

أنتج الفيلم  Asghar Farhadi Productions،

Dreamlab Films (with the participation of)

MPA APSA Academy Film Fund

تم إطلاق الفيلم في فرنسا بتاريخ 8 حزيران .2011

المقطع الدعائي للفلم اضغط هنا 


TAG:

منظمة تتهم "الادارة الذاتية" بارتكاب انتهاكات بحق معتقليها .. وواشنطن تعلق

اتهمت منظمة "العفو الدولية" الادارة الذاتية لشمال وشرقي سوريا، بارتكاب انتهاكات بحق المدنيين المعتقلين في السجون التابعة لها، بالمناطق الخاضعة تحت سيطرتها، فيما علقت الخارجية الامريكية على ذلك، مشيرة الى انها ستعمل على مراجعة هذه التقارير.