مراجعة في كتاب
تل مطران لعلي بدر فن الاقتراب من "المحرمات" .. دون الاحتراق بنارها ..
للأحداث ظاهر يمكن لكل شخص أن يلحظه ، أفعال وأقوال وصور تمر أمام ناظري الإنسان يمكن لو كان مهتما أن يسجلها في ذاكرته ويعيد استذكارها أمام الآخرين لينقل لهم الصورة .. ولكن للأحداث غالبا "باطن" قلة قليلة من الناس يمكن أن تدركه ..
ولهذا نجد هناك نوع من الكتابات تشبه الكتب المقدسة ، ليس في "قدسيتها" ولكن في الرسائل والعبر التي تحملها في سياق الأحداث ، فالمشاهد تتوالى والشخصيات تتكلم والأحداث تتفاعل لترسم تفاصيل الرواية ، هذا يحدث في كل الروايات ، ولكن بعض الكتاب ينجحون في تحميل كتاباتهم رسائل خاصة يسعون لإيصالها الى الجمهور .. بل أكثر من ذلك يرسمون كل مشاهد الرواية وفصولها بهذه الغاية ..
ورواية "تل مطران" للكاتب العراقي الشهير "علي بدر" واحدة من هذه الروايات التي تنسج بذكاء الأحداث حول مواضيع "محرمة" ، لا يمكن من خلالها إدانة الكاتب لنقاش "المقدسات" وفي نفس الوقت نرى بأنه توغل عميقا في هذه المواضيع وقلبها ونقدها وفلسفها من خلال أحداث تحوم حولها ولا تتناولها بشكل مباشر.
الدين ، الإنسان ، الله ، صفات الله ، هل هو رحيم؟ هل هو عادل؟ وحتى "هل هو موجود؟" كما عرفناه بالكتب المقدسة .. كل هذه المواضيع ناقشها الكاتب من خلال أحداث الرواية التي تسير في سياق لا يتعلق مباشرة في هذه القضايا .. بل إن الرواية في الواقع اقرب لأحداث قصة خيالية ، حلم تشاهده في جو ضبابي ، رؤى تدفعك لكي تفكر بعمق في أمور في العادة لا تجرؤ ان تقترب منها حتى ..
أستاذ لغة عربية ينتقل من بغداد الى بلدة نائية في الموصل ليدرّس في كنيستها هناك ، فصل جديد من حياته يبدأ وينتهي في سياق غريب مشوق يرسم الكاتب عوالمه ببراعة لا تخلو من "سحر" يغلف أحداث الرواية بشكل عام التي تتابع في فصول قصيرة متلاحقة.
يمكن ان نأخذ على الرواية الاسهاب احيانا في الوصف في مواقع لا يخدم السياق ويبدو احيانا مملا بل معترضا للأحداث المشوقة التي تتوالى بسرعة بحيث يضطر القارئ اكثر من مرة لتجاوز هذا الوصف ليصل الى ما بعده ..
وبالنسبة لي شخصيا لا أحب النهايات التي تشبه نهاية رواية "تل مطران"، ولن اكشف عن ماهيتها لكي لا افسد على القارئ متعة القراءة ، ولكني بالعموم اعتبر بأن مثل هذه النهايات مخيبة وتقلل بشكل عام من القيمة "الدرامية" للرواية وحتى انها تنعكس بشكل سلبي على الافكار التي وردت فيها.
يمكن ان اؤكد بان نهاية الرواية لم تكن بقوة فصولها التي امتدت على أكثر من 400 صفحة ، ولكن هذا لم يؤثر على روعتها والأجواء الغريبة التي نجح الكاتب في وضع القارئ فيها ، والافكار العميقة التي طرحها ببراعة ودفع بنا من خلال الحبكة لكي نقترب من هذه "المحرمات" دون خوف او تردد ..
اخيرا يمكن ان نقول على ان رواية "تل مطران" لعلي بدر ، رواية مختلفة مشوقة تناسب كل المستويات ، قد يقرأ فيها البعض الأحداث ضمن الحبكة المعروضة وستقدم له المتعة ، وهناك من ستصله الرسائل المضمنة بين السطور ويكسب من قراءتها المتعة والفائدة ..
نضال معلوف