زرت صديقا لي في مدينة صغيرة ( نسبيا ) في تركيا على شواطئ البحر المتوسط ، واخذتنا الاحاديث كما يلتقي أي اثنان من بلداننا حول الاوضاع واستقرار بعض المناطق وامكانية العودة الى الوطن.
صديقي وهو في العقد الخامس من عمره هذا رغم ما فيه من كل الطباع السيئة ، الا انه رجل يحمل شهادتين جامعيتين ويهتم بمهنته كثيرا وقد قرأ بضع الاف من الكتب يعيش في هذه المدينة منذ سبع سنوات ..
قال لي .. اسمع يا صاحبي انا اعيش هنا على هذه الواجهة البحرية في بيت مساحته 150 مترمربع باقل من 250 دولار في الشهر .. واذا اضفنا اليه هذا الكورنيش الممتد على مسافة 15 كلم فيه كل ما تشتهيه من اشجار وملاعب وادوات تمرين وترفيه واكواخ مجانية .. اضف اليها الكثافة السكانية المنخفضة.. فانك يمكن اعتبار هذا الكورنيش هو الحديقة الخلفية لمنزلك ..
وتابع .. بيت على شاطئ هادئ وحديقة ممتدة وكانها حديقة قصر .. وبضع عشرات الدولارت تشعر معها بانك تعيش اميرا ..
ومن كثرة المقاهي على البحر وغيره تعتقد بانهم خصصوا هنا لكل مواطن مقهى كامل و10 نُدلٍ يقومون على خدمتك على مدار ساعتين ترتشف خلالهما كاس شاي مع سيجارة باقل من 1 دولار.
ناهيك بانه طيلة سبع سنوات لم "يزّورني" عنصر مخابرات .. ولم اضطر الى ان ارشي شرطي ولا موظف حكومي .. الكل هنا محترم نظيف اللباس و اليد .. واعيش هنا بكرامتي مرتاح البال ..
فكرت في كلام هذا الصديق "البرجوازي " وسألت نفسي بالفعل لماذا يعود الى بلده وهو كان احد سكان مناطق السكن العشوائي في حي قذر مملوء بالحفر والنفايات في منزل لا تتراوح مساحته 50 متر مربع لايرى الشمس ولا يطل الا على منور بيت "ابو خليل" الذي يملأ ، وزوجته واولادهما الستة، الشارع صراخا وضجيجا وراوئح نتنة ..
وكأنه قرأ أفكاري .. تابع كلامه ..
ولا تفكر في المهجرين و النازحين والمهاجرين الى مراكز الايواء .. فلو خيرتهم بين منزلي ها هنا وبين الوطن لاختاروا المنزل وقالوا لك ألا لعنة الله عليك ونترك لك الوطن ..
قد تظن اني برجوازي غني وأتكلم كلام "الميسورين" وانا لست كذلك .. كل مافي الامر اني حصلت على عمل يؤمن لي دخلا مناسبا يوازي دخل أي فرد متوسط في هذا البلد .. واعمل اقل من 25 ساعة في الاسبوع وامضي باقي الوقت مسترخيا بين القراءة وصيد السمك ..
فكرت .. وحاولت ان اثير حنينه وان التف عن طريق القلب لا العقل ..
قلت له .. الم تشتاق الى الشوارع.. ومقاهي الرصيف.. الم تشتاق الى الشاورما والفلافل .. الا تشتاق للمطاعم.. الا تشتاق للاقارب والاصدقاء ..
قاطعني .. كنت لافكر في العودة من اجل الفلافل والشاورما لانه حقيقة هي اكثر ما يعنيني في الوطن .. لولا انه هنا في المدينة جاءت "جالية" من بلدي لا بأس بها واستوردت معها كل هذه الكنوز حتى اني بت اكل من الشاورما والفلافل هنا اكثر مما كنت اكله هناك ..
.. اسقط في يدي .. ولم اجد سوى ان استخدم "الانا" المتضخمة التي اعرف انه ما زال يحملها في طبعه .. قلت يا رجل في وطنك كان لك قيمة .. الكل يعرفك .. وكنت في مجال عملك من القلائل المميزين .. وتحسب لك الحكومة والمسؤولين الف حساب .. كان مجرد ذكر اسمك يجعل الرؤوس تلتفت وتدور لتبحث عنك ..
صمتَ قليلا ثم كثيرا وحسبت باني غلبته .. وقف وهم يريد ان يغادر ..
وقبل ان اسأله ، قال .. سأقول لك .. سأعيش هنا نكرة لا سجل لي .. افضل الف مرة من شهرة تنتهي باسم مسجل على لوائح المساعد " حمد" ..
نضال معلوف