غرباء تماما .. عندما يكشف خسوف القمر الجانب المظلم في داخلنا

15.10.2018 | 19:41

مراجعة عبد الكريم انيس

يعتمد فيلم Perfetti sconosciuti  (أو perfect strangers غرباء تماماً)، اعتماداً مباشراً على كاتبي السيناريو الخمسة الذين كتبوا الفيلم ببراعة مبتكرة، وأوجدوا أحداثاً متراكبة تصاعدت وتيرتها حتى طالت تفاعلاتها جميع الشخصيات. وهذا ما يدفع المشاهد للاستغراق ضمن الأحداث، والتفاعل مع ردات فعل الشخصيات، فيتوقع لبعضها المزيد من الانحدار، ويمنح تعاطفه لآخرين، أو يزدري فعلاً ما يبدر عن أحد الشخصيات وكأنه موقف يحدث معه.  

  لقد شق الفيلم طريقه للعلن على الشاشة الفضية في روما بتاريخ 2 شباط 2016 ورشح لـ26 جائزة، نال منها 13 جائزة، حتى تاريخ كتابة هذه المراجعة.

كاتبو نص السيناريو هم حسب الترتيب الأبجدي: Filippo Bologna، Paolo Costella، Paolo Genovese، Paola Mammini، Rolando Ravello.

يتبدى لنا في الفيلم الأهمية المباشرة لكاتب السيناريو، فبنية الفيلم الأساسية المعتمدة على الحوار الصاعد المتسلسل، الذي يحمل المفاجآت المتتالية، تشد انتباه جمهور متعود على الإبهار البصري والمؤثرات الخارجية.

وسيكتشف المشاهد عبر تلك الحوارات التي ستجري على مائدة طعام جمعت أفراداً تمت دعوتهم في ليلة لخسوف القمر، أبعاد شخصية كل فرد من خلال حديثه عن نفسه وعن شريكه وعن بقية الأفراد الآخرين.

بالكاد سنشاهد مقاطع صغيرة خارج غرفة الطعام، التي سيتداول بها أصدقاء الطفولة وزوجاتهم شيئاً من تحدي الثقة والحقيقة المتوارية وراء الخصوصية ضمن عالم التكنولوجيا الذي يمنح الإنسان مساحته الخاصة التي يعتقد أنها ليست قابلة للاختراق أو للتسريب.

استخدام وظيفي مزدوج:

يستخدم مخرج العمل Paolo Genovese  الذي شارك بكتابة النص أيضاً، حادثة فلكية هي خسوف القمر، لتكون فكرة موازية لشخصياته في الفيلم، إنه القمر الذي نشاهده من جهة واحدة فقط. يقول باولو ببساطة إن لكل منا وجه لا يعرفه آخرون عنه، هو محاط بالسرية وربما كان متقنعاً بالمثالية، أو القسوة، أو تصنع المشاعر الكاذبة، ويمنح الآخرين وجهاً واحداً يلفت إليه الانتباه كحالة القمر تماماً، فاستخدام القمر يشير ليس فقط لكونه كويكب منير تصادف وقوع ضياء الشمس عليه وانعكاسها منه لينير سماءنا الغارقة بالظلام الكالح؛ بل ليدلل على قبح كل شخص فينا، على اعتبار أن القمر كوكب قبيح تملؤه الفجوات والصخور ذات الأشكال الغريبة والمخيفة، وله وجه آخر لا يشاهده أحد غارق في الظلمة والوحدة الموحشة.

من الممكن أيضاً أن تكون دلالة الخسوف بالتحديد أشبه ما تكون بعارض يصيب العلاقات الثنائية، وأن هذا العارض هو مجرد فترة زمنية طارئة صغيرة، لا ينبغي التعويل عليها، ولن تصيب علاقاتنا بضرر دائم، فما حدث وطرأ ما هو إلا تشويش أو تشويه سيمر عند الشريك الآخر.

لا تعرفه حقاً:

يتحدث الفيلم عن أصدقاء مقربين، يعرفون بعضهم بعضاً منذ الصغر، يعطيك هذا ايحاءً عن احتمالية أنهم ما داموا يعرفون بعضهم منذ الصغر فهذا يعني أن كثيراً من شؤون حياتهم مكشوفة لهم، وبالتالي هم يعرفون الكثير عن أذواقهم، مغامراتهم وميولهم، أشياءهم المفضلة، علاقاتهم الزوجية والأسرية، وشيئاً من أسرارهم، بحكم أن الصداقة تعطي الحق للأصدقاء المقربين بمعرفة بعض التفاصيل السرية التي يحتفظ بها الفرد لنفسه، ومن هذه النقطة بالذات يبدأ الفيلم بنسج حبكته السينمائية المغلفة بالمفاجآت غير المتوقعة، حين تقترح مضيفة المنزل بعد حوار عن تعدي التكنولوجيا على شؤون الحياة الخاصة لتضع الجميع في سياق لعبة تبدو أنها بسيطة ولكنها وبدون سابق علم تجعل الجميع عراة أمام أنفسهم وأمام الآخرين، وليكتشف الجميع بعضهم وكأنهم يتعارفون للمرة الأولى.

ما بين الترويج والواقع:

مع الموجة العالية في الإعلام التي منحت الشاذين جنسياً حقوق الكشف عن ميولهم الجنسية، باعتبارها حقاً إنسانياً لكل من ولد ولديه إشكالية بيولوجية، لكنها باتت أقرب للوقاحة منها للصراحة حين يتم استخدامها للدلالة على التفرد.

 إن الحديث عن هذا الشأن في الإعلام شيء وعندما يتحول لنطاق الممارسة الاجتماعية بعيداً عن الأضواء وضغوطات تشكيل الرأي العام، يصبح شيئاً آخر صعب التداول، وهذا برز بطريقة استفزازية، اعتمدها كاتب السيناريو، عندما اكتشف أحد الأصدقاء المقربين أن صديقه المقرب جداً كان شخصاً شاذاً جنسياً، هذا لم يكن فقط مفاجئاً له بل كان أمراً مستفزاً، ومع أن المخرج حاول تلطيف الفكرة للحد الأدنى المقبول واقعياً بتقبل الصديق تدريجياً لإعلان صديقه عن وضعيته الجديدة التي كانت غائبة عنه، لكنه تحدث عن صعوبة تصوره لذلك حين كان مخدوعاً فيه، وينام معه في مكان واحد، ويسمح له بالنظر له في وضعيات لم يكن ليسمح بها لو كان يعلم بهذا التوجه لديه، وقابله هذا بمفاجأة فوق المفاجأة الأولى أن الصديق الشاذ جنسياً كان صديقاً آخر يخجل من إبداء هذه الحقيقة لأصدقائه المقربين لأنه كان يخشى من هذه النتيجة بالذات، من النظرات والهمسات، والسخرية المبطنة، والادعاء بالقبول مع مواربة ومراوغة، لن تجعله الصديق الحميم السابق ذاته. هناك شيء قد انكسر.

خيانات متبادلة:

في زحمة المفاجآت التي يقدمها الفيلم، سنجد أن فكرة الخيانة الزوجية تبدو وكأنها شأن شبه روتيني، فالكل خائن، سواء بالشكل المادي الفيزيائي أو حتى ضمن العالم الافتراضي الزائف والفارغ أصلاً، بل هناك من يعرف تماماً بشأن خيانة شريكته ولكنه يتجاهلها، هذا سيأخذنا لسؤال جوهري، ما الذي ينقص هؤلاء وهم يعيشون الحياة الحرة التي ليس فيها ضوابط أو حتى تبعات على أفعالهم اجتماعياً أو قانونياً، ماهو مسمى هذه الحالة من الخواء التي تتسبب بمثل هذه الخروقات الأسرية، والتي تتسبب بأوجاع كبيرة للأطفال خصوصاً؟ ما الذي يدفع شخصاً اختار شريك حياته بكل أريحية وبدون أي ضغوطات خارجية كي يقوم بمثل هذه الأفعال الخادشة للحياء، التي تخرق عهود الوفاء بين الشريكين؟ إنه السؤال الأعمق في هذا الفيلم وكل مشاهد لديه إجاباته الخاصة.

رمزية صادمة:

في المشهد الختامي يبدو للمشاهد أن كل شيء قد عاد لما سبق وكأن شيئاً لم يكن، وهذا يعيدنا مرة أخرى لحادثة الخسوف ذات الفترة الزمنية القصيرة والعارضة، ولكن يبدو بالتدقيق أن الأمر بات أكثر تعقيداً، فقد شاهدنا أن تلك الشخصيات كانت تخدع بعضها بعضاً بطريقة وقحة وفجة، وتؤذي الطرف المقابل في كثير من الأحوال، ولكننا سنشاهد في المشهد الختامي ما يدل على تعميق حالة الخداع وانتقالها من حالة خارجية تمارس مع الآخرين، لحالة ذاتية يخدع فيها الشخص نفسه ويتناسى أنه بات مكشوفاً أمام الآخرين، ربما لأنه أقنع نفسه أن الآخرين لديهم سقطاتهم الخاصة أيضاً.

سيريانيوز


TAG: