اسرار تدهور سعر صرف الليرة التركية ..
فقدت الليرة التركية في يوم واحد حوالي 15% من قيمتها بالنسبة للدولار ، وكثرت التحليلات والتسريبات حول اسباب هذا التراجع وما وراءه .
لا شك بان ما حدث هو امر غير عادي ولكنه لم يكن امرا مفاجئاً
فالاحداث في المنطقة تمضي في سياق ويجب وضع أي حدث يطرأ في هذا السياق لنستطيع ان نفهمه ونفهم ابعاده.
وكما بات معروفا فان منطقتنا عموما وفي سوريا خصوصا هناك عدة اجندات تتبع لمرجعيات مختلفة او حتى متضادة ، وليس الموضوع هو فقط توزيع المكاسب والنفوذ ، بل ان القضايا موضع الاختلاف بين هذه المشاريع هي قضايا جذرية تمس الامن القومي للأطراف المتنازعة وتشكل خطرا وجوديا لبعضها.
بالنسبة لتركيا لنفسر سلوكها في سوريا يجب ان نفهم حقيقة مخاوفها وما هي مصالحها التي تمس امنها القومي وتبني موقفها تجاهنا بناءا عليه.
الموضوع لا يتعلق باردوغان بالتأكيد ، وبغض النظر عن شخصيته وتصريحاته ومحاولاته للاستئثار بالسلطة ، الا ان سياسة تركيا في سوريا اعتقد بانها سياسة موضع اجماع لدى كل الاطراف السياسية الفاعلة في تركيا ( موالاة ومعارضة ) .
واساس الموقف التركي ينطلق من مبدأ اساسي لم تحد عنه تركيا في السابق ولن تتخلى عنه في المستقبل.
هذا المبدأ يقول بانه أي مشاريع تقسيم في المناطق المجاورة لتركيا ان كان في العراق او سوريا هو خط احمر قاتم وامر لا يمكن المساومة عليه لانه يشكل خطرا وجوديا على المنطقة.
اقامة حكم ذاتي في العراق وبعدها اقامة حكم ذاتي للاكراد في سوريا ، في وسط منطقة غير مستقرة تتعرض لاعادة التشكيل ، يعني بالضرورة انتقال مثل هذه المطالب ( اقامة حكم ذاتي للاكراد ) الى داخل تركيا ودخول البلد في سلسلة من الاضطرابات التي ستفضي الى خطر تمزيق هذا البلد مثلما تم تمزيق الدول المجاورة له.
ان كان اردوغان او غيره من الساسة الاتراك فان الاولوية لهم هي تركيا ذاتها ، ومن ثم يمكن ان تتباين المواقف حول باقي الاولويات وترتيبها ومنها قضايا تتعلق "بالثورة السورية" والنظام.
ولكن جوهر مشروع تركيا اليوم هو الحفاظ على سوريا كوحدة واحدة ، هذه هي الاولوية ومن ثم يمكن التفكير من سيحكم هذه "الوحدة" وكيف.
يتضارب هذا المشروع مع المشروع الاميركي الذي في حده الادنى يريد تحويل سوريا الى فدرالية ويضغط باتجاه الحفاظ على مناطق "الادارة الذاتية" التي تقع اليوم تحت نفوذ احزاب وقوى كردية حليفة له ، ويريد ابقاء هذه المناطق على وضعها الحالي وتشريع قوانين تحافظ على هذا الوضع ضمن دولة سوريا لا مركزية .
والحقيقة بان هذا الصراع موجود منذ سنوات وهو موضع تجاذب اميركي تركي جعل العلاقات بين البلدين متوترة بدرجات متفاوتة خلال هذه الفترة واضطرت تركيا الى تغيير تحالفاتها ومحاولة بناء تحالفات جديدة للحفاظ على قدرتها في تحقيق هدفها .
والجديد اليوم بان الازمة في سوريا وصلت الى فصلها الاخير ووجب ايجاد حل لكل النقاط الخلافية المعلقة.
الذي لا يعرفه الكثيرون بان تركيا ليست مع ادارة ذاتية في مناطق الاكراد وكذلك هي ليست مع اقامة حكم ذاتي او منطقة منفصلة في ادلب ايضا.
وربما هي تساوم على ادلب وانهاء "انفصالها " عن سوريا ( الواحدة ) في مقابل انهاء المشروع الكردي في الشمال الشرقي ايضا.
فموقف تركيا ثابت ومبدأي من أي عملية تقسيم كما ذكرت تحت أي مسمى ، وستعمل ضده في العلن والخفاء لان نجاح مثل هذا المشروع سيهدد وجودها.
ومع الوصول الى النهاية وعدم التوصل الى تفاهمات حول شكل هذه النهاية بين الاطراف الفاعلة ، سيجعل هذه الاطراف تستخدم اسلحتها ضد بعضها البعض ويحاول القوي فيها فرض ارادته على الطرف الاقل قوة.
وما يجري اليوم يفسر تصرفات الولايات المتحدة ليس تجاه تركيا وفقط ولكنه يوجد تفسيرا لتصرفاتها تجاه ايران وروسيا وباقي الدول الاقليمية ( العربية ) التي تضغط الولايات المتحدة عليها لتبقيها ضمن ادواتها وتجبرها على تنفذ خططها في مواجهة القوى الاخرى.
رفع الرسوم الجمركية لدخول الالمنيوم والصلب الى الولايات المتحدة للعارفين في القضايا الاقتصادية ليس سببا في ان تخسر العملة التركية (المرتبطة باقتصاد قوي ) لـ 15% من قيمتها في يوم واحد.
لقد دخل في المعركة ادوات الولايات المتحدة (التي تحرص على استمرار تبعيتهم لمشروعها بكل الوسائل من التهديد الى الترغيب ) تلك الادوات التي تشكل "خزنة" الولايات المتحدة لتمويل حربها في المنطقة ، ومع قرب الوصول الى خط النهاية من الطبيعي ان تستحث اميركا ادواتها هذه لتضمن الفوز بالسبق من خلال وضع كل ما تملك من قوة في الميدان لتسبق الاخرين وتفرض مشروعها.
انها العشرة امتار الاخيرة في سباق ماراتوني طويل ، سيحرص كل الاطراف ان يستثمروا كل طاقاتهم للوصول الى الفوز باكثر حصة ممكنة ، لانهم يعرفون بان أي جهود تبذل لن تكون ذات جدوى بعد الوصول الى خط النهاية.
نضال معلوف