صور وذكريات مهاجر.. بقلم: وحيد كامل
شعر بإرهاق و تعب ، فاتصل للحصول على إجازة يومية من عمله . لم يستطع المكوث في السرير طويلاً. نهض و بدأ بشرب قهوته . تناول ألبوم الصور . و شرع يقلب صفحاته.
الصورة الأولى لأخيه الكبير على شرفة المنزل في بلده و هو يسقي الورود . تأمل الصورة ، و تألم لحال أخيه الذي فقد بصره تدريجياً في السنة الأخيرة. وتنهد بحسرة على شوقه له ، لم يره منذ خمس سنوات. أمعن النظر في الورود ، سمعها تقول له اشتقنا لك و أبكانا الفراق ، فقلب الصفحة.
الصورة الثانية له مع والدته ، يجلس إلى جانبها متطفلاً و مشاغباً . قرأ الفاتحة على روحها و تمنى لو أنه ما فارقها يوماً مهما كانت الأسباب ؛ فقد اكتشف متأخراً جداً أن الجنة تحت قدم أمه في الدنيا قبل أن تكون في الآخرة . تأمل الصورة فرأى في عيني أمه نظرة عتب فطلب منها السماح ، و طلب لها الرحمة . أحس أن زفراته تكوي أحشاءه ، فقلب الصفحة.
في الصورة الثالثة وقع نظره على ابنة أخيه الطفلة (ملاك) . عمرها أربع سنوات و لم يرها . تأمل وجهها البريء ، فأيقن أنه يوجد ملائكة على الأرض. ولفت انتباهه ساحة الدار التي تلعب بها ، ففيها وُلِدَ و نشأ وتزوج و أنجب ، و فيها حزم حقائب السفر عندما أغرقَ أمَّهُ بدموعِها ، فغَصَّ ، وقلب الصفحة.
الصورة الرابعة أرسلها له أحد أقاربه لعائلته في المزرعة . سقى الله تلك الأيام . صحبة طيبة ، طبيعة رائعة ، حياة عائلية في غاية المودة و التآلف . إنه يوم راحة وشواء وسباحة وضحك وفكاهة. توقف قليلاً عند الوجوه في الصورة . اليوم كل واحد منهم في بلد . ومنهم من هو مفقود ، ومنهم من هو في رحمة الله ولم يبلغ الثلاثين. قبل أن يتابع النظر في الوجوه كادت الدمعة تغلبه فقلب الصفحة.
الصورة الخامسة لحديقة منزله الصغيرة. دقق النظر في الصورة ، إنها تماماً كما أراد . فهذه عريشة العنب، و هذه شجرة الليمون ، وتلك شجرة الأكدينا ، و إلى جانبها ياسمينة وبعض الورود . تم زراعتها جميعاً قبل سنوات و حسب رغبته . لكنه سمع مؤخراً أن بيته طار في الهواء ، وطارت الأحلام معه ، وطارت الذكريات . لم يستطع أن يقاوم دمعته فحمد الله أن أمه في مستقر رحمة ربها، و أنها رحلت قبل أن ترى هذه الأيام. وقلب الصفحة.
في هذه الصفحة صدمته صورة أبيه . انتابه شعور غريب ، فقد وقع بصره على الشخص المطلوب الآن ، إنه الإنسان الذي يحتاجه اليوم ، إنه الجبل الذي يستند إليه ، إنه الوالد الذي يبكي بين يديه و هو مطمئن في وقت البكاء هذا ، إنه الحصن الحصين ، إنه الدرع الذي يحميه ، و الملجأ الذي يلجأ إليه .
نزلت دمعته فوق صورة أبيه و شعر بعدم القدرة على مشاهدة المزيد من الصور فعاد إلى سريره وغمره ارتياح كبير عندما ابتلت مخدته بدموعه. فعرف أن هذه الدموع جنبته الإنهيار فكأنما هي شلالات من الماء أطفأت حرائق ملتهبة في قلبه.