من هذا المكان حُكِمت سوريا منذ القرن السادس عشر!!!
يستوطن التاريخ في دمشق وكأنه بناها لتكون له بيتاً، تحتفظ له باوراقه تارة بالياسمين في أيام السلم وتارة اخرى بالبارود في خضم الحروب، فلم تشهد مدينة في التاريخ ما شهدته دمشق، فما أن تذهب مملكة أو حضارة حتى تأتي غيرها، والمدينة الشاهد الوحيد على تلك الممالك.
وقد حُكمت سوريا على مدار القرن الستة الماضية من مكان واحد، شهد أحداث متتابعة من قبل بني عثمان حتى خروج آخر جندي فرنسي، ولم تقف الحكاية هنا بل في عهد الاستقلال بني في نفس المنطقة "القصر العدلي" نهاية القسم الغربي من شارع النصر.
وكانت أولى تلك المشيدات في هذه البقعة هي "دار السعادة" التي بنيت على شكل قصر جميل في بداية القرن السادس عشر وقبل دخول العثمانيين بلاد الشام عام 1516م، في محلة كانت تُدعى سابقاً بـ "محلة الأخصاصي" أو "سوق الأخصاصيين" نسبة للتجار الذين كانوا يبيعون الأخصاص والأقفاص، ثم تبدل اسم المحلة بشكل تدريجي ليصبح "الدرويشية" وذلك بعد بناء جامع درويش باشا.
ومع بداية عام 1573 م تغير اسمها من "دار السعادة" إلى "سراي الحكومة"، وكانت فعلياً داراً للحكومة كونها المقر الرسمي والفعلي لجلوس الوالي العثماني في الشام، كما أوضحت التقارير التي كانت ترسله الهيئات العليا بالبلاد للباب العالي في الأستانة عن التنظيم الإداري في الدولة.
أما أول من اتخذها مقراً لسلطته وممارسة صلاحيته فكان والي الشام العثماني "شعبان أحمد شمسي باشا" الذي استمرت فترة ولايته على الشام من (عام 1554م وحتى عام 1561م، وهو صاحب المدرسة "الأحمدية" التي تسمى اليوم بجامع شمسي أحمد باشا في سوق الحميدية، تبعه في ذلك الوالي "عيسى باشا" وكذلك الوالي "محمد باشا العظم" والوالي "حسن إبراهيم باشا".
ومع دخول قوات محمد علي باشا إلى دمشق سنة 1831، استقر في سراي الحكومة قائد الجيش المصري إلى بر الشام "ابراهيم باشا بن محمد"، وبقي فيها مدة ست سنوات وأطلق عليها اسم "السرايا العسكرية".
وعند انسحابه منها دمر القسم الجنوبي “الحرملك” وتركه يحترق كي لا يترك وراءه ما يفيد الدولة العثمانية من معلومات هامة قد تضر بجيشه المنسحب.
وعلى أثر ذلك الحريق أمرت الأستانة بإعادة إعمار ما تهدم من السرايا ومن البيوت المحيطة بها، فصار السرايا على شكل مجمع طابقي مؤلف من طابقين، وزرعت حول المبنى الأشجار خصوصاً عند الواجهتين الشمالية والجنوبية، كما تم فتح بوابة كبيرة لها من الناحية الشمالية التي حوت على الحدائق والساحة الكبيرة.
وفي أواخر القرن التاسع عشر أعيد تجديد البناء ليصبح الطابق الأرضي على شكل أقواس متتالية عالية الارتفاع لسهولة دخول وخروج عربات النقل التي تجرها الخيول، أما الطابق العلوي فأصبح مكاتب لموظفي الحكومة وضباط الجيش وتم تعديل فتحات نوافذ هذه المكاتب لتصبح على طراز هندسة الأبنية العثمانية، وجعل سقفها من القرميد الأحمر.
وأواخر العهد العثماني تحولت التسمية من "السرايا" إلى "دار المشيرية العسكرية" (مركز قيادة الجيش الهمايوني الخامس) بسبب استقرار المشير العثماني المفوض وقيادة الجيش في ولاية بر الشام فيها بشكل دائم.
ومع دخول الجنرال الفرنسي غورو إلى دمشق سنة 1920 م، اطلق على الدار اسم "المندوبية"نسبة إلى دار الانتداب، وصارت رسمياً مقراً لدوائر المندوب السامي المفوض من فرنسا
وفي عام 1929 شغل قسم من المندوبية دوائر النفوس الشامية بالإضافة إلى دائرة الأمن العام والجوازات.
وقبل أن يغادر الانتداب الفرنسي بلادنا بعام واحد احترق هذا المبنى، وطالت ألسنة اللهب معظم الغرف، مما سبب تداعي المبنى وبات آيلاً للسقوط، فهدم كلياً سنة 1945.
وبعد الجلاء قامت الحكومة السورية في في فترة ولاية الرئيس شكري القوتلي بتشييد "القصر العدلي" ونُقلت إليه جميع دوائر العدل الشرعية والمدنية وذلك سنة 1952م، وشيد على طراز العمارة الإسلامية المتمثلة بالواجهات الثلاثة للمبنى وعلى وجه الخصوص الواجهة الرئيسية التي جاءت على طراز القصور الفخمة.