خيبة امل المواطن السوري بين مشاريع السلفيات المتشددة وحكم الاسد ..
قدمت تجارب الحكم المصغّرة في المناطق المحرّرة في سوريا صورة مصغّرة عن طبيعة الحكم بحسب ما تفهمه عموم الفصائل الإسلاميّة، حيث فشلت هذه الفصائل، من خلال إدارة الهيئات الشرعيّة لتلك المناطق، في تقديم ما يبعث على الأمل بمستقبل مختلف يشبه المستقبل الذي حلم به الثائرون...
فعلاوة على التقارير العديدة عن قمع الحريّات واعتقال النشطاء والصحفيين والمدنيين الأبرياء في معظم المناطق المحرّرة، فإن الخطاب السياسي لهذه الجماعات كان مخيّباً لآمال جميع المتابعين المتأملين بواقع مختلف عن سابقه الأسديّ...
لم تكن أزمة التطبيق تلك خاصة بسوريا وحدها، فقد وضعت أحداث الربيع العربي شعوب المنطقة وجهاً لوجه مع عيوبها الذاتيّة، وهذه المواجهة تعدّ الأخطر على الإطلاق في عمليّة التغيير...
ولا نبالغ بالقول إنّ ما حدث في سوريا وحدها يكفي لأن يكون مادة للبحث في معظم مشاكل المنطقة، إن كان على المستوى السياسي الاقتصادي، أو الاجتماعي الديني، أو حتى النفسي والتربوي.
وأظهرت الحالة السورية العديد من مكامن الخلل في منهج كثير من الجماعات الفاعلة، سيّما بعد أن أتيحت الفرصة لها للتعبير عن ذاتها، وعن مرادها من الثورة، وعن حقيقة فهمها العميق للقيم والمطالب التي نادى بها الحراك الثوري في البدايات، وفي مقدمتها مطالب الديمقراطية وعدم احتكار السلطة...
وهكذا فقد شهدت الساحة السورية بروز تيارات الإسلام السياسي بتنويعاتها: تيارات الإسلام المعتدل بتنويعاته، تيارات الإسلام السلفي والقاعدة، ثمّ أخيراً جماعة "ما بعد القاعدة" ممثلة بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. وقد أتيح لهذه التيارات تقديم تجارب مصغرة على درجات متفاوتة في الأهمية والتأثير، والاستمرار أيضاً.
ولكن، ومع طول أمد الثورة، تضاءلت مساحة الاعتدال لصالح انتشار أوسع للمدّ السلفيّ، تحوّل إلى تنافس بين تياراته، الأقل والأكثر تشدداً...
وثمّة اعتقاد بأنّ تمكين الجانب السلفي، سيّما الجهادي منه، جاء نتيجة العديد من الظروف والمقدمات الموضوعية، وفي مقدمتها العنف المنفلت الذي مارسه النظام دافعاً بالجميع نحو الخطوط الأكثر راديكالية والأقدر على المجابهة، وهو اعتقاد منطقي يملك الكثير من الأدلّة والمقومات، إلا أنّ لهذا التمكين بالمقابل فاتورة توجّب على السوريين جميعاً دفعها، بما فيهم إسلاميون مؤيدون للثورة...
نشأت الهيئات الشرعية، التي تمّ تأسيسها في المناطق المحرّرة كحلب وإدلب وغوطة دمشق، في ظلّ تفاهمات بين مجموعات وتنظيمات مختلفة في الرؤى، ولكن يجمع بينها جذر سلفيّ مشترك، الأمر الذي يجعل الطابع السلفي هو الغالب على عمل هذه الهيئات. ولكن مع وجود الجذر السلفي المشترك على مستوى المرجعية الدينية، إلا أنّ السلفيات الموجودة تختلف فيما بينها حول المرجعية السياسية والوطنية، وهنا ينبغي التمييز بين عدّة سلفيّات فاعلة على الأرض السوريّة:
سلفية وطنية، ريفيّة المنشأ، سوريّة على مستوى القيادات والتكوين العام، كأحرار الشام وجيش الإسلام، وهي سلفية متجذّرة في المجتمع السوري، حيث يعد الشيخ الألباني(1). واحداً من أهمّ مرجعيّاتها بعد اشتغاله على التأصيل النظري لهذا التيار، متابعاً بذلك عمل أسلافه التاريخيين، وفي مقدمتهم الشيخان ابن تيمية وابن قيّم الجوزية(2)، أما عن أولى محاولاتها التطبيقية فكانت مع الشيخ مروان حديد والطليعة المقاتلة من بعده...
بالمقابل، ظهرت سلفية قاعديّة، أمميّة لا تملك مشروعاً وطنياً، جلّ أعضائها هم من السوريين أصحاب الخبرة القتالية في العراق وأفغانستان، كجبهة النصرة التي استفادت من أخطاء القاعدة في جولاتها السابقة، وحاولت أن تخلق تحالفات مع فصائل سورية فاعلة بما يخدم مشروعها الأممي، بينما حافظت على ولائها للمشروع الجهادي العالمي للقاعدة الأم...
يمكن الحديث أيضاً عن سلفية ما بعد القاعدة، ممثلة بتنظيم الدولة الذي يعدّ استمراراً لتنظيم قاعدة العراق، والذي كان يعرف سابقاً بجماعة التوحيد والجهاد، حيث سعى إلى ملء الفراغ الحاصل في شمال سورية وشرقها، واعتمد سلوكاً وحشياً تجاه الفصائل الأخرى، بما فيها فصائل القاعدة، محاولاً فرض نفسه كمرجعية عليا تحتكر الفتوى والعنف والقيادة، وللدقّة، فإنّ هذا التنظيم يمثل ظاهرة أوسع من أن يتم تفسيرها بالسلفية وحدها، إذ لا يمكن تجاهل التكوين البعثي فيه على مستوى القيادات، وكذلك الخبرة المخابراتية والعسكرية الظاهرة في عمله، وهو ما تفتقده عموماً جماعات الإسلام السياسي...
لم يكن الواقع مخيّباً للآمال على مستوى عمل الهيئات الشرعيّة فحسب، بل إنّ الخيبة طالت أبسط التوقعات وأكثرها بداهة، فلم يُظهر قادة معظم الفصائل موقفاً مرناً من مسألة الديمقراطية وتداول السلطة...
فبالحديث عن السلفية الوطنيّة، نجد تصرّحاً للقائد السابق لجيش الإسلام (زهران علّوش) يقول فيه برفض الديمقراطية معتبراً بأنّها ومقولة "الإسلام هو الحل" على طرفي نقيض، قائلاً: "الديمقراطية موضوعة تحت أقدامنا" !
وكذلك كان موقف أحرار الشام حين أعلنوا من خلال ميثاق الجبهة الإسلاميّة رفضهم للديمقراطية، والتزامهم بالحاكمية القائمة على منهج "إن الحكم إلا لله" وهو منهج يضع كلّ تطبيق بشري في مواجهة الحاكمية الإلهيّة للكون... أمّا عن السلفية الأمميّة ومعها سلفية ما بعد القاعدة، فهما لا تعترفان أصلاً بحدود وطنية، ولا بانتخابات ولا صناديق، ولا أية شرعية أخرى فوقها...
ولكن، عند الحديث عن موقف الجماعات الإسلاميّة المتشنّج من الديمقراطية لا بدّ أن نستثني موقف القائد السابق للواء التوحيد (عبد القادر الصالح)، والذي أبدى في مقابلة مع الجزيرة موقفاً مرناً من المسألة، ومن مسائل عديدة أخرى، كالموقف من الأقليّات والشكل المستقبلي للدولة، والعديد من القضايا الأخرى...
يمثّل موقف القائد السابق للواء التوحيد حالة استثنائية، ولكنه يمثل بتصوري موقف الإسلام السوري الشعبي تجاه القضايا الوطنية، وهي حالة تتمتّع في عمومها بالعفوية والبساطة في تناول الدين، وتمتاز ببراغماتيّة لها مقوماتها في عموم التديّن السوري وطبيعة تعاطيه مع قضايا الواقع..
وهنا فان القول بأنّ موقف الإسلام السياسي من قضايا الواقع هو موقف محسوم، قولٌ يجانب الواقع، لأنّ السلفيّة الجهاديّة، أو حتى العلميّة المتشدّدة، لا تعتبر الممثل الوحيد، أو الأكبر، للإسلام السوري وإن كانت جذورها ممتدة في تاريخه... بل لعلّي أقول بأنّها تمثّل شريحة بسيطة منه، ومشروعها محتوم بالصدام مع الإسلام الشعبي أولاً، قبل الصدام، تالياً، مع المجتمع السوري بكل مكوناته...
ساهمت سياسة نظام الأسد في انتعاش المشروع السلفي المتشدّد وانتشاره على حساب التيارات الأخرى الأقرب إلى الحالة الشعبيّة، وساهمت كذلك البنية التنظيمية المحكمة لهذه التنظيمات، وخبرتها الواسعة، في اكتسابها شرعية ثورية واسعة في لحظة ما، ولكن مع مرور الوقت، ومع ظهور الحاجة للإدارة، توازي الحاجة لمواجهة نظام الأسد، بدأت عيوب هذه المشاريع تظهر للعيان، وبات الخوف من مشاريع السلفيّة المتشدّدة لا يقل عن الخوف من مشروع الأسد إن استطاع البقاء...
يحتاج الإسلام السوري الشعبي، العشوائي الطابع، وهو الإسلام الذي ميّز عموم الحراك الثوري في بداياته، إلى أن يعيد تنظيم صفوفه ليستطيع التعبير عن حال شريحة واسعة من عامّة السوريين، حتى يتمكّن أنصاره من الإمساك بزمام المبادرة في وقت أصبح المشروع السوري الشعبي هو وحده الغائب عن النقاش، لصالح مشاريع إقليمية أو دولية انتهازية، أو مشاريع محليّة سلفيّة أثبتت أنها غير قادرة على تمثيل واستيعاب الإسلام السوري ...
د.عماد العبار
..........................................................................................
1ـــ ناصر الدين الألباني (1914 ـــ 1999): أحد أهم أعلام المدرسة السلفية العلمية في العصر الحديث، اشتغل على علم الحديث وعمل على تنقيح كتب الحديث وله الكثير من الكتب والمصنفات في هذا المجال أشهرها صحيح الجامع والضعيف الجامع وصفة صلاة النبي، بالإضافة إلى العديد من الآراء والفتاوى المثيرة للجدل.
2ـــ ابن تيميّة الحراني (1263 ـــ 1328): إمام السلفية، دعا إلى العودة بالإسلام إلى الجذور الصحيحة (القرآن والسنّة وعمل السلف الصالح) ونبذ البدع والخرافات وتصحيح الانحرافات الصوفيّة.
ابن قيّم الجوزيّة (1292 – 1349): الدمشقي الحنبلي، لازم ابن تيمية وتتلمذ على يديه، وسجن في سجن القلعة في الفترة ذاتها التي سجن فيها شيخه.