بلدة "القديسة بربارة" .. معلولا .. اسرار تكشفها صحيفة عمرها اكثر من 50 عام

البربارة ليست القصة الوحيدة التي تعيش في صخور هذه البلدة الفريدة ، قصص وحكايا مثيرة يرويها كاتب متخصص نشر عن "معلولا" قبل 50 عاما ..

نشرت هذه المادة في مجلة المضحك المبكي في العدد رقم 1007 ، 4 تشرين الثاني عام 1962 ، ويكشف الكاتب معلومات مهمة ومثيرة عن البلدة التي ارتبطت بعيد شهير عند السوريين "عيد البربارة".


معلولا المختبئة بين الصخور الشاهقة

معلولا البلدة الحبيبة المختبئة في ركن من القلمون على سلسلة جبال لبنان الشرقية.

انها لا تبعد عن دمشق سوا 60 كيلومترا ولكن من يعبر الممر الجبلي لينفذ اليها يحسب انه انما يمضي الى دنيا من السحر والاسرار يكاد الخيال نفسه يبدو طبيعيا فيها. ذاك ان كل ما تقع عليه عينه هناك هو بعيد عن مألوف البيئة والزمن: جدار جبلي شاهق يتحلق القرية وتتشبث بيوتها بصخوره متدرجة طوابق ضيقة لا يعلو واحدها اكثر من ارتفاع بيت واحد – ومغاور فاغرة افواهها هنا وهناك فوق البيوت وما بينها.

ولعل اول ما يستيقظ في ذهن الزائر انه انما يقصد موقعا حصّن لاغراض الدفاع تكفي حفنة من المقاتلين المتربصين فيه لرد فرقة من مئات المهاجمين.

ومن الواضح انه لم ترسم اية خطة في بناء القرية فجاءت منازلها كما شاءت لها نزوات المنحدرات الجبلية وتضاريسها وهي ما تزال تحتفظ بغرف في الصخر وجعلت لها ابواب وسلالم.

اما ازقتها فاغلبها لا منافذ لها بالنسبة للغريب ولكن ابن البلدة يستطيع متابعة سيره فيها باختراق فناء اول بيت يصادفه وبارتقاء سلم او سطح فيصير الى زقاق آخر تعلوه قناطر وقد يخيل للسائر انه يمشي صعدا فاذا بالطريق تنحدر فجأة انحدارا مروعا، وهو يتقدم في الطريق ولكنه يرى نفسه على سطح احد المنازل ويتابع سيره في درب متعرج فإذا بالدرب يقوده الى ساحة احدى الدور.

وفي معلولا مضيقان جبليان هما المنفذان الوجدان نحو الاراضي العالية ويدعوهما الاهلون "الفج الغربي والفج الشرقي".

ولا شك ان طابع البلدة اليوم هو نفسه في العهد البيزنطي من حيث شكلها المدرجي ومن حيث متاهة طرقها. وهذا ما يفسر امكاناتها الدفاعية اتجاه الاحداث الكثيرة التي مرت بها كما ان عزلتها عن العالم الخارجي تفسر وجود ديرين شهيرين فيها هما دير مارتقلا ودير مارسركيس ويعتبر اولهما وهو يقبع عند مدخل الفج الغربي كحارس امين، اقدم دير في العالم لا ببنائه الحالي واكثره محدث في عصور مختلفة ولكن لأن القديسة تقلا اولى شهيدات النصرانية وتلميذة بولس كانت قد اتخذت من مغاور ذلك الموقع موئلا لها ومنسكا طيلة ايام حياتها ودفنت في احدى حجراته، ولا تزال جموع الحجاج تؤم الدير التاريخي من كل حدب وصوب للزيارة والتبرك بمقام الدفينة التقية، وبماء تنسب اليها خواص عجائبية يقطر نقطة اثر نقطة من سقف صخري هناك. وتقول التقاليد ان القديسة تقلا كانت تمسح به جباه المتقدمين للعماد على يديها.

اما دير مار سركيس فيشرف من علو 1622 مترا عن سطح البحر على منظر عام جميل للقرية ولكرومها وبعض سهولها وقد اختير بناء كنيسته على انقاض هيكل وثني، وترجع قبة الدير الى العهد البيزنطي وقد تناثرت خلف الدير قبور صخرية ما يزال بعضها يحمل صورة نسر امبراطوري ونقوشا يونانية ترجع للقرن الاول المسيحي، ومن مشوقات الزيارة الى معلولا الاساطير والتقاليد التي تدور حول مبانيها وصخورها وماورها بل حتى حول مسالك المياه فيها.

فالفج الغربي لم يكن كذلك منذ الازل وقد كان الجدار الجبلي قائما هناك املس كراحة الكف قبل ان تصل اليه فتاة مسيحية هي القديسة تقلا هاربة من ظلم ابيها الوثني ومن جنود الوالي – الروماني الذين كانوا يلاحقونها. ولكن الصخور اضطربت وانشقت دفعة واحدة عندما سجدت الصبية وابتهلت للعذراء ان تجد لها مخرجا.

وهكذا وجد الفج، هذا الممر الغريب الذي يسير متعرجا بين جدارين عموديين ينطبق حينا على نفسه امام السائر حتى ليخيل له ان الدرب مسدود ويتسع حينا الى فرجة ذراع واحد او عدة ازرع ثم يعود فيضيق الى ان يصل بسالكه الى الفسحة والنور، وفي الفج، في محلة (سارونايا) ما يدعى "بالمشنقة" والى جانبها صخرة "المحكمة" وتقول الاسطورة ان رجال القضاء كانوا يقفون عليها لنشر حكم الاعدام وان الملك كان يقف على رأس الصخر المقابل للتصديق على الحكم.

ويعرف الاهلون بوجود سراديب حفرت داخل الهضبة تبدأ من رأس الفج الغربي بمدخل عسر وتنتهي بمدخل الفج الشرقي، وقد نقشت فوق مدخله الغربي حية ضخمة هي تعويذة للوقاية من الهلاك وكان المعلوليون يلجؤون الى هذا السرداب عندما يفاجئهم خطر مداهم، وقد جعلوا له مسيل ماء ينفذ الى داخله ليمدهم بماء الشرب عند الحاجة.

وتروي التقاليد انه كان للملك سوطيروس ولد صغير وكان يلعب عند مخرج النهر من مغارة في ساحة شارونايا الواقعة في اول الفج الغربي وحدث ان غفل الحرس عن الولد الصغير فوقع في الماء واختنق ولم يدركوه الا ميتا. وكان الولد وحيد ابيه اثيرا عنده فحزن عليه وامر بردم النهر والنبع الذي الى جواره فنفذ امره وانحسر النهر والنبع قرونا عديدة وكان النهر يمر بقناة – الى جهة الشرق ويميل الى جهة البيادر حيث كان الحمام الامبراطوري وتحته مطحنة "تشته" فتوقفا عن العمل واصابت الاهلين خسائر فادحة.

ولكن اشد ما يأسف له اهل القرية عدم عثورهم حتى الآن على "الكنز" وهو يتألف من – مجموعات ثمينة من الاواني الفضية والذهبية كان الروم قد خبأوها قبل مغادرتهم الارض السورية بعد الفتح العربي، وقد جاء ذكر تلك الاموال في كتاب "الكنوز" الذي يتناقل كل معلولي اخباره والذي يحدث عن وجود تلك الدفائن في موقع من هذه القرية ذات الاسرار.

ولعل آخر من رأى الكنز فيما يعرفون شاب عاش قبل مئة عام اسمه ابراهيم يواكيم وكان في صغره كسولا يهرب من المدرسة ويختبئ في مزار مارتوما. وفي احد الايام ظهر له في المقام شيخ جليل – فتح امامه طاقة في الصخر واراه كميات من الذهب كبيرة وقال له خذ ما تريد فخاف الولد وقال: "هذا مال وقف لا آخذ منه" فقال له الشيخ: "اني اذن اكافئك على امانتك واهبك عوضا عن الذهب روح علم وفهم".

وكبر ابراهيم يواكيم وقضى حياته يشتغل بالطب ماهرا فيه فما رأى مريضا حتى عرف علته وحتى وصف له الدواء الناجح ان كان داؤه قابلا للشفاء والا اخبره بعدم فائدة التداوي وذاعت شهرة هذا الطبيب في كل مكان بزمانه.

وكان في البلدة مكان يدعى "حمام الملكة" ترافقه اسطورة رهيبة خلاصتها انه كان معبدا رومانيا يجتمع فيه الوثنيون ويمارسون ألوانا من التهتك والشعائر الخليعة فأتاهم احد رجال الله يدعوهم للتوبة فما سمعوا نصحه ولا ارعووا عن ضلالهم حتى اهلكهم الله عن آخرهم لرفضهم رؤية النور الحقيقي، ثم بنى المسيحيون كنيسة هناك.

وهكذا يسمع الزائر حيث سار في معلولا وشوشات الاساطير والاقاصيص الطريفة الغارقة في ضباب الزمن. فعلى هذه الصخرة ظهر القديس الفارس جاورجيوس "الخضر" معتليا – حصانه الابيض، وهناك ما تزال آثار قدمي القديسة تقلا محفورتين في الجبل وفي ذلك الحقل توقفت القديسة نفسها تستريح اثناء هربها من جند ابيها وتحدثت مع فلاح كان يحرث الارض فرجته ان يساعدها على النجاة من مطارديها بان يقول لهم بأنها مرت من هنا عندما كان يحرث هذه الارض ووفى الرجل بوعده فأخبر الجنود الرومانيين ان الفتاة الهاربة مرت به منذ ان كان يفلح الارض، ورأى الجند سنابل القمح تغطي الحقل بكامله ففهموا انها سبقتهم منذ زمن طويل ويئسوا من العثور عليها وبادروا الى العودة ذاك ان يد العناية قد تدخلت وشاءت ان تحدث الاعجوبة التي نجت الصبية المؤمنة من قيضة اعدائها.

ومع ان معلولا لا تتمتع بموقع جميل خلاب يجعل منها اروع قرى القلمون الاعلى غير ان سحرها الاكبر هو دون ريب كون اهلها ما يزالون يستعملون اللغة نفسها التي كان يخاطب بها السيد المسيح تلاميذه ويعظ بها الجموع وهي السريانية اي الآرامية القديمة ويدعوها العلماء اللهجة الآرامية الغربية، وقد كانت السريانية مع اليونانية اكثر اللغات شيوعا في الامبراطورية الرومانية الغربية وقد اصبحت في زمن الساسانيين حسب ما قرره "رايخ" اللغة الرسمية في البلاد ووصلت حتى الى الصين حيث كانت لسان النساطرة واليعاقبة الديني (رايخ: دراسة حول القرى الآرامية على جبال لبنان الشرقية) وقد كانت الآرامية السريانية القديمة في فترة طويلة من التاريخ لغة الادب والعلوم والفلسفة وكانت مراكز التعليم في اوديسا ونصيبين وحران وقد اشتهرت مدرسة حران في زمن الخليفة المأمون لانها تعهدت في ذلك الزمن بترجمة كتب اليونان – العلمية والفلسفية الى العربية بعد ان كانت تترجم اولا الى السريانية وقد استبدلت هذه اللغة العربية على انها بقيت هنا وهناك حتى القرن الرابع عشر، ثم نامت في كل مكان في العالم الا في معلولا وفي قريتي بخعا وجبعدين الصغيرتين وهو امتياز نادر يشكل احدى الغرائب الاثرية التي تجعل من سورية ومن معلولا خاصة هدفا سياحيا وعلميا كبيرا.

ولكن اللهجة الآرامية الغربية آخذة مع الاسف في الانقراض وليس من يعنى بالحفاظ على هذا التراث الاثري الثمين المتناقل.

الدكتور يوسف سمارة


صدرت مجلة المضحك المبكي في دمشق عام 1929، وهي مجلة سياسية كاريكاتورية اسبوعية من اشهر المطبوعات السياسية الساخرة في الوطن العربي ، ويمكن اعتبارها هي من اسس الكوميديا السياسيّة على الساحة السورية ( وربما العربية).

اصدرها الصحفي حبيب كحالة ( 1898 – 1965 ) وهو درس التجارة والاقتصاد في الجامعة الاميركية في بيروت.

أنشئ كحالة في بداية الثلاثينات من القرن الماضي مطبعة حديثة بدمشق لطباعة المجلة، وكانت تقع في شارع الملك فؤاد الأول، استمرت هذه المجلة في الصدور إلى عام 1965 ، وقامت "الجهات المعنية" بإغلاق المجلة وإلغاء ترخيصها وذلك عام 1966.


المواضيع الأكثر قراءة

SHARE

close