تركيا ليست أماً رؤوم للسوريين وليست عدوا مطلقا.. هي دولة قوية فيها مؤسسات عريقة وحقيقية تعمل من اجل مصلحة شعبها ولحماية امنها القومي قبل كل شيء.
سلوك تركيا تجاه الاحداث في سوريا لا يمكن ان ننظر اليه في معزل عن مصالحها اولا وعن موقعها في خارطة العلاقات الدولية ثانيا، لا يمكن ان ننظر الى تركيا كما نحب ان نراها (كل طرف من الاطراف منا على هواه) ونتجاهل حقائق اساسية تحدد سياسات الدولة (التركية) منذ عقود طويلة.
قامت تركيا بما يجب القيام به في اطار حماية مصالحها وفي اطار كونها جزء شريك من شبكة مصالح تربطها باوربا واميركا وتمتد اليوم الى الشرق الاوسط لتتلاقى (او تصطدم) مع مصالح دول في الشرق على رأسها روسيا.
هي بلا ادنى شك باتت دولة محورية في الاحداث الجارية في الشرق الاوسط، ولكن يجب علينا ان نفهم بان تركيا لا تتصرف بشكل منفرد، واي نظرة لدورها على انه دور تركي خالص غير معني بالتنسيق مع الشركاء، هي نظرة قاصرة ستصل بنا الى استنتاجات خاطئة بكل تأكيد.
وايضا من الخطأ ان نقيّم الدور التركي في المنطقة من خلال مراقبة "الدبلوماسية التركية" واعني من خلال المواقف المعلنة والتصريحات الاعلامية والخطابات الجماهيرية، فكل هذا هو جزء من ادوات (وقدرات) الدولة في سعيها لتحقيق مصالحها، مكمل لاجزاء اخرى تتعلق بتحالفاتها العسكرية، شركاتها الاقتصادية، اتفاقاتها الامنية..
وفي غير الجانب الدبلوماسي الظاهر للجميع، ويتم تقييم السياسات التركية عموما بناءا عليه، يجب الا ننسى بان تركيا هي الحليف الاساسي للولايات المتحدة في المنطقة (منطقة الشرق الاوسط) ولنفكر اذا لم تكن هي فمن غيرها؟..
وتركيا هي بوابة الاتحاد الاوربي الى الشرق الاوسط، والتنسيق الامني بين الطرفين قديم وعميق وواسع ويطال معظم الملفات ذات الاهتمام المشترك وعلى رأس هذه الملفات اليوم القضية السورية وقضايا الشرق الاوسط لما لهذه القضايا من تأثير خطير ومباشر على دول الاتحاد.
شراكاتها الادارية والاقتصادية والتكنولوجية وثيقة مع دول اوربا، ولكل من كانت له فرصة السكن لبعض الوقت في تركيا وانتقل الى اوربا سيجد وحدة المعايير الادارية وتماثل الانظمة في كثير من القطاعات مثل التعليم، المصارف، الطرقات، تجارة التجزئة، التكنولوجيا.. بحيث لا يمكن ان نجد اي فروقات تذكر بين تركيا وبين باقي دول الاتحاد الاوربي في هذا المجال..
قد يكون الاتحاد الاوربي وتركيا لم يصلا الى نقطة الشراكة التامة لتصبح تركيا جزءا من الاتحاد، ولكنها قطعت مسافة كبيرة في مواءمة انظمتها على كافة الصعد لتكون جاهزة للاتحاد في حال توفر القرار السياسي.
كل هذا الكلام لكي نفهم الى اي مدى ترتبط تركيا بالغرب وكيف تتوزع الاذرع والخطوط في علاقاتها.
لا شك ان تركيا مدت في العقدين الاخيرين خطوط اضافية باتجاه الشرق الاوسط والعالم الاسلامي، ولكن يجب دائما ان نسأل انفسنا فيما اذا كانت هذه التحركات منفردة ام ضمن منظومة شراكاتها التي تكلمنا عنها، هل سياسات تركيا في الشرق الاوسط هي تحركات منفردة خاصة بها وخالصة لمصالحها، ام تحركات ضمن شراكة اكبر تحقق مصالح كتلة تشكل تركيا جزءا "شريكا" منها؟
واحيانا تشوش علينا الخلافات بين تركيا وبعض دول الاتحاد الاوربي الرؤية وتدفعنا لكي نعنقد بان هناك نوع من العداء، والحقيقة بان هذا ليس صحيح تماما، وان معظم هذه الخلافات موجودة بين الدول الاوربية الاوربية ذاتها، وبعض من هذه الخلافات (اعتقد اكثرها) هي خلافات بين (اميركا – تركيا) وبين (الاتحاد الاوربي).
وعلى اساس هذا كله فان تركيا تتحرك فيما يخص سوريا والسوريين في اطار اتفاق دولي واسع يضم الاطراف التي تلعب دورا اساسيا في قضيتنا وهي تنفذ ما يترتب عليها من هذا الاتفاق في اطار وحيد هو "تحقيق مصالحها".
الان تحقيق المصالح التركية ليس بالضرورة يتعارض مع تحقيق مصالح السوريين، على العكس هي من اكثر الدول تأثرا بما ستؤول اليه الامور في بلدنا، وهي من اكثر الدول التي يرتبط تاريخها بتاريخنا.
وفي السنوات العشرة الاخيرة اصبحت تركيا جزءا لا يتجزءا من حياة ملايين السوريين سواء ممن يقيمون بها او ممن يرتبطون معها بشكل كبير في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة في الشمال السوري.
وهذه العلاقة المتداخلة بكل ايجابياتها وسلبياتها ستؤثر حكما في القرار التركي وستأخذ تركيا بمصالح السوريين (برأيي اكثر من اي دولة اخرى متورطة في الصراع) ولكن لا يمكن ان يفكر عاقل بانها يمكن ان تذهب في اتجاهٍ لتحقيق مصالحٍ السوريين تتعارض مع مصالحها.
تحقيق مصالح السوريين من قبل تركيا سيكون بقدر ما تتقاطع مع مصلحة تركيا ذاتها، وهذا امر ايضا ينطبق على كل دول العالم، فرئيس الدولة والاحزاب والمؤسسات تعمل على تحقيق مصالح الاتراك وليس السوريين.. وعليه من الخطأ ان ننتظر من تركيا ان تكون الام الرؤوم للسوريين وان تضحي بنفسها كرمى لعيوننا..
كما انه من غير المنطقي ان نعتبر تركيا عدوة لنا، لان مناصبة دولة جارة العداء، واستعداء شعبها، شعب يرتبط تاريخيا واقتصاديا واسريا مع الشعب التركي، لا يحقق مصالحنا في شيء ونحن في هذا الوضع الذي بحاجة فيه لكل طاقتنا ولكل الاطراف لتقف جانبنا.
ما يمكن ان نؤكد عليه بانه من المفيد ان نتخلص من "التوقعات العالية" للسياسيات التركية اتجاه سوريا، وان نتخلص من اصرارنا على العلاقة "الابوية" معها.. يجب ان نفهم بان اردوغان رئيس للشعب التركي والجيش هو جيش تركيا والمؤسسات مؤسساتها وعلاقتنا بكل هذه المكونات هي علاقة مصلحة، وان مصالح تركيا لا تنحصر في مصالحها معنا وفقط (والحقيقة مع الاسف اليوم نحن الحلقة الاضعف) وهي وان كانت تقدم لنا شيئا اليوم فهي تأمل ان تحصد مقابلا له في المستقبل..
مع الاسف ما يمكننا ان نقوم به بشكل مستقل (السوريين بكل اطيافنا) اصبح محدودا للغاية بعد ان فقدنا كل قدرة على اتخاذ قراراتنا بانفسنا وتحولت هذه القدرة الى الاطراف المتصارعة على ارضنا، ولكن من الممكن ان نعمل بقدر ما نستطيع ونأمل بان نستطيع ان نحافظ على علاقة طيبة مع تركيا الشعب والاراض كدولة جارة قوية، تشكل نموذجا حضاريا ناجحا لشعوب المنطقة فيما يخص بناء الدولة الحداثية المدنية المتقدمة.. التي نأمل يوما ان نسير على خطاها..
نضال معلوف