لا جدال في أن وحدة سوريا أرضاً وشعباً هي خط أحمر. نحن لم نضحِ بعشرات آلاف الشهداء كي نقبل أن تتحول البلاد إلى جزر معزولة أو إدارات موازية. أي خطاب أو ممارسة تحمل في طياتها نزعة انفصالية، حتى لو غُلِّفت بعبارات المشاركة واللامركزية، هي أمر مرفوض وخطر على مستقبل سوريا.
لسنا ضد اللامركزية الإدارية التي تعطي للمحافظات دوراً أكبر في إدارة شؤونها اليومية. هذا مطبق في دول كثيرة ويحمي الدولة من الترهل. لكن تحويل "اللامركزية" إلى كانتونات مسلّحة أو سُلطات أمر واقع يكرر تجربة لبنان في الحرب الأهلية حين تحولت الميليشيات إلى "دول داخل الدولة"، ونعلم جميعاً كيف انتهى ذلك: انهيار الدولة نفسها وفقدان الثقة بين مكوناتها. نحن لا نريد لمدن مثل الحسكة أو الرقة أن تُعامل وكأنها كيانات منفصلة عن دمشق أو حلب أو حمص.
التجربة العراقية بعد 2003 ماثلة أمامنا: حين تحولت الفيدرالية الكردية إلى شبه دولة لها جيشها وعلاقاتها الخارجية الخاصة، ضعفت بغداد وخسرت سيادتها على جزء كبير من أراضيها. إذا تركنا الحسكة أو القامشلي خارج القرار المركزي، سنكرر التجربة العراقية بكل مخاطرها. كذلك، وجود أصوات متناقضة في ملفات السياسة الخارجية يُربك الدولة. تخيلوا أن دير الزور تصدر موقفاً مغايراً لدمشق تجاه تركيا، فكيف سيأخذ المجتمع الدولي سوريا الجديدة بجدية؟
الأخطار الاقتصادية لا تقل خطورة. النفط والغاز يتركزان في الشرق (دير الزور، الحسكة). إذا تحولت هذه الموارد إلى أداة بيد إدارات محلية منفصلة، فستُحرم باقي المحافظات مثل حلب وحماة ودمشق من عوائدها، كما حصل في العراق حين وقعت أربيل عقوداً نفطية دون الرجوع إلى بغداد. كذلك، إذا وضعت كل محافظة قوانينها المالية الخاصة، فستتفكك السوق الوطنية السورية إلى "كانتونات اقتصادية" متصارعة بدل اقتصاد وطني موحد.
الأخطار الأمنية والعسكرية أشد فتكاً. إذا سُمِح لكل محافظة بالاحتفاظ بقواتها الخاصة، ستنشأ جيوش محلية متنافسة كما حدث في ليبيا بعد 2011 حيث ابتلعت الميليشيات الدولة. والأسوأ أن تركيا أو إيران ستسعى لدعم مناطق محددة لزيادة نفوذها. حدودنا مع العراق وتركيا حساسة، وإذا لم يكن القرار العسكري والسيادي بيد دمشق حصراً، فستتحول هذه الحدود إلى ثغرات مفتوحة للتدخل الخارجي.
أما اجتماعياً وثقافياً، فإن إعطاء صلاحيات شبه مستقلة على أساس قومي أو طائفي سيكرس النزعات الضيقة على حساب الهوية الوطنية السورية. قد تبدأ المدارس والإعلام في كل منطقة بتدريس روايات خاصة، كما حصل في البوسنة بعد الحرب حيث درس الصرب والكروات والبوشناق مناهج متناقضة. نحن لا نقبل أن يكبر أطفال حلب على منهج مختلف عن أطفال الحسكة أو أن يُربّى شباب درعا على رواية أخرى غير شباب اللاذقية.
الدبلوماسية أيضاً مهددة. حين يفتح ممثلون محليون قنوات مع دول الجوار كما حصل مع بعض ممثلي "الإدارة الذاتية"، تصبح صورة سوريا أمام العالم مشوشة. الدول الكبرى ستستغل الفوضى وتعقد صفقات مع كيانات محلية بدل الدولة السورية. تخيلوا أن تركيا تتعامل مع القامشلي مباشرة، أو أن العراق يعقد اتفاقاً نفطياً مع دير الزور دون المرور بدمشق: هذا هو التقسيم بعينه.
حتى على المستوى الإداري، فإن تضارب القوانين بين محافظة وأخرى سيعطل المشاريع الوطنية الكبرى مثل شبكة السكك الحديدية أو مشاريع السدود. سوريا الخارجة من حرب طويلة تحتاج إلى خطة تنمية شاملة، ولا يمكن أن تُنفّذ إذا كان كل إقليم يعمل في اتجاه مختلف.
نعم، أبناء الشرق قدموا تضحيات جسام ضد النظام وضد داعش، وهذه التضحيات ملكٌ لكل السوريين، ولكن يجب أن تُستثمر في مشروع وطني جامع. ما نخشى منه هو أن تتحول هذه التضحيات إلى مبرر لفرض "سلطة موازية" لا تخضع لرقابة الدولة، وهذا يُضعف لا يقوي وحدة سوريا. لا فرق بين من قاتل في كوباني أو من صمد في حلب أو من ضحى في الغوطة، فالدم السوري واحد.
مستقبل سوريا سيكون فقط بدولة موحدة، عادلة، تضم كل مكوناتها تحت راية واحدة. لا مكان لدويلات صغيرة ولا لمؤسسات موازية تتعامل مع الخارج وكأنها "دول" قائمة. وواجبنا أن نحذر من هذه المخاطر قبل أن تتحول إلى واقع يصعب التراجع عنه. فدمشق ستبقى العاصمة لكل السوريين، وحلب والرقة ودير الزور والحسكة وحماة وحمص واللاذقية ودرعا ستبقى مدناً سورية متحدة تحت علم واحد.
-----------------------------------------------------------------------
*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]