عندما خرجت ماري انطوانيت الى الجموع الثائرة خلال الثورة الفرنسية وقالت " إذا لم يكن هناك خبزاً للفقراء, دعهم يأكلون كعك" اعتقدت بان الشعب متجانس يشبه مجتمعها المحيط بها في القصر.
هل اصبح الشعب السوري متجانس .. ؟ لنرى ..؟
واذا نظرنا اليوم الى الخريطة ) الاخضر للمعارضة ، الاحمر للنظام ، الاصفر للاكراد ، الاسود لداعش ) نرى بان سوريا اصبحت مقسمة الى مناطق غير متجانسة ( على الاغلب متعادية ) يعيش اهلها حبيسين في مناطقهم ، بمعنى انه لا يمكن لاهل منطقة ما الانتقال الى منطقة اخرى والا عرضوا انفسهم الى الخطر اقلها الاعتقال او الخطف او حتى القتل ..
مناطق الاكراد في الشمال ( اميركا ) ، منطقة درع الفرات ( تركيا ) ، "دولة" ادلب ( معارضة ) ، درعا ، اجزاء من ريف حماة ، القنيطرة .. .. مناطق النظام ( روسيا ، ايران )
وحتى في المنطقة الواحدة الكبيرة المحسوبة كمنطقة تحت سيطرة واحدة من الدول الضامنة عادة ما تكون الاوضاع مضطربة فيها ..
لا يستطيع اهالي معظم الشمال مثلا الذي يقع تحت حكم "الادارة الذاتية" الممثل المدني في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية ( المناطق الكردية )العبور الى مناطق جنوب مجرى نهر الفرات ، الى مناطق النظام او داعش ، ولا يمكنهم ايضا ان يتجهوا غربا الى منطقة "درع الفرات" التي تقع تحت فصائل المعارضة المدعومة من تركيا ..
قبائل دير الزور نفسها ، اصبح هناك ثأر كبير بينهم ، فالقبائل التي انحازت الى الجيش السوري اول ما دخل الى دير الزور في 2011 خرجت من المحافظة مع دخول الجيش الحر ، والقبائل التي ايدت الجيش الحر خرجت مع دخول داعش ، ومع عودة الجيش خرجت القبائل التي اعلنت الولاء لداعش ..
وخلال تغير فترات السيطرة على المنطقة كانت القبائل الموالية للقوى المسيطرة تعمل كـ "شرطي" للقوى العسكرية ضد كل ما هو مختلف عنهم ومنهم باقي القبائل .. فبرزت هناك "تارات" بين هذه المكونات اضافية لما كان موجد قبلا لاسباب اخرى ..
اذا اردنا ان نبقى في الجزيرة السورية ذاتها في مدن مثل القامشلي والحسكة ، اليوم يعيش الاهالي صراعا وجوديا يهدد قوميتهم ودينهم ولغتهم ، فالعرب اليوم يحاولون مقاومة "التكريد" والسريان يقاومون سلطة الاكراد ويحاولون انتهاز الفرصة ليأخذوا ما لم يستطيعوا اخذه من العرب قبلا بتدعيم "الهوية السريانية" والمطالبة بحقوقها التاريخية واولها اللغة .. وتستفيق قوميات اخرى مثل " الاشوريين " وتبدأ حراكا لتحافظ على تمايزها وحقوقها في مجتمع بدأ يتشظى الى قطع صغيرة ..
حتى في مناطق الاكراد ذاتها ، تدب فيها الخلافات بين جماعة البارزاني ( الوطني الكردي ) وبين جماعة اوجلان ( الاتحاد الديمقراطي ) وبين كيانات سياسية اخرى هذا اذا تجاوزنا التباينات المناطقية ..
في دمشق ، وصل الشقاق بين اهل الشام الى حد غير مسبوق من الكراهية والثائر ليشمل مناطق بأسرها ، مناطق نجح النظام في ترحيل اهلها بالكامل الى ادلب ومناطق اخرى متسعة لا احد يعرف كيف سيكون الحل فيها ، مثل دوما وحرستا وجوبر وعين ترما ، وفي الجنوب الحجر الاسود واليرموك يلدا وببيلا وبيت سحم ..
هذه المناطق يعيش فيها اهلها معزولين منذ سنوات، فالخروج من المنطقة الى منطقة مجاورة هو رحلة خطرة قد تؤدي الى الموت ..
وفي المقابل اهل باقي المناطق في الشام هم عرضة لهجوم مسلح بالقذائف او الاسلحة او حتى محاولات الاقتحام من قبل الفصائل.
وحتى الاهالي في تلك المناطق ( المعارضة ) الذين عاشوا كل انواع الظلم والحرمان ولم يتبقى في قلوبهم الا الحقد والكراهية .. ماذا لو سنحت لهم الفرصة ودخلوا الى احياء دمشق الاخرى ؟
في قلب دمشق ذاتها ، هناك جمر تحت الرماد بين سكانها الاصليين والوافدين الشيعة الذين يحاولون توسيع ملكهم وسيطرتهم في المدينة القديمة، وبات لهم اليد الطولى والكلمة الاولى على كل سكان المنطقة هناك.
في دمشق ايضا "السنة" حتى هؤلاء الموالون للنظام يبدون عدم الرضى ، والامتعاض من المظاهر المتزايدة لـ "طقوس" الشيعة التي اكتسحت اكثر من مرة شوارعهم ومضت تذكرهم بانهم في وقت قريب يمكن ان يصبحوا غرباء في بلدهم هذا البلد الذي كان عاصمة للأمويين وقبلة للمسلمين ومركزا هاما لعلمائهم على مر التاريخ .. مظاهر بانت وتمددت حتى وصلت الى قلب الجامع الاموي ..
في الجنوب كبر الخلاف والشقاق بين ابناء المحافظتين الجارتين السويداء ودرعا ، وايضا اصبحت العلاقة ثأرية وجودية بينهم ويحاول الحكماء من كلا الجانبين ان يحافظوا على الحد الادنى مما بينهم من علاقات تاريخية تجنبهم الدخول في قتال طويل دامي ..
ماذا عن البلدات والقرى التي اصبحت حبيسة محيطها مثل نبل والزهراء في ريف حلب والفوعة في ريف ادلب ، محردة والسلمية القرى التي تعيش خطرا دائما داهما من المحيط المتربص باهلها ..
اين التجانس في حلب .. ؟ عزاز وعفرين البلدتين التوأمتين اللتان تتوزعان اليوم بين الاكراد ( عفرين ) و الجيش الحر ( اعزاز ) .. دارة عزة ( معارضة ) التي بات قصفها امر روتيني كل يوم من قبل الاكراد ..
ام احدثكم عن التركمان في ريف اللاذقية ، والذين يهددون في كل لحظة اهل المدن الساحلية ..
هل يمكن ان نصدق بان اهل "الصليبة والطابيات ,والرمل الجنوبي.. " واهالي القرى المهجرة المدمرة مثل سلمى وغيرها في الريف القريب باتو ينظرون الى "اخوتهم" في المناطق الاخرى بعين المحبة والقبول ؟ .. هل بالفعل نسوا ما حصل .. هل فعلا يقبلون بالامر الواقع عن رضى ويشعرون بالعدالة والمساواة ..
هذا اذا تناسينا اعمال الشبيحة والعصابات التابعة للمتنفذين ودوائرهم وعلاقة هؤلاء بباقي الدوائر ، للذي يعرف كيف تسير الامور في مدن الساحل فهي عملية ابتزاز طويلة تمتد عشرات السنين بين قاطعي الطريق اصحاب السلطة وبين سكان المدينة من كل الاديان والطوائف .. واليوم ساء هذا الوضع كثيرا عما هو معروف ..
وفي ادلب امر اخر ، امر لا اعتقد ان مثله مر في التاريخ تلك الفصائل المتناحرة والسكان الذي اتوا اليها مرحلين من كل حدب وصوب ، لتصبح كل بلدة فيها تحت حكم منفصل وربما اكثر من فصيل في البلدة الواحدة التي تلون سكانها وتشكلوا من كل انحاء سوريا.
فيما يحيط بالمحافظة الاعداء .. اعداء حلب واعداء حمص واعداء حماة واعداء اللاذقية ..
ماري انطوانيت القت جملتها الشهيرة ( الكعك بدل الخبز ) ومارست قبلها وبعدها افعالا تنسجم مع جهلها بواقع ما يحيط بها .. وتسببت بشكل مباشر في قيام اعظم ثورة في التاريخ اطاحت بها وقادتها الى حبل المشنقة على مسافة غير بعيدة من المكان الذي القت الخطاب فيه.
نضال معلوف