عندما تخفي أدوات الذكاء الاصطناعي الفساد والفراغ...بقلم : د.مجدي سكر

في المشهد  الحالي و المعقد  لسوريا،  و بعد اكثر من عقد من الحرب والنزوح والاضطرابات ، ظهرت ظاهرة غريبة حالياً لأفراد يسعون إلى تقديم أنفسهم كمثقفين، مستخدمين أدوات حديثة مثل الذكاء الاصطناعي (AI) لصياغة مقالات ودراسات عامة. هؤلاء الأفراد، الذين يفتقرون في كثير من الأحيان إلى العمق الفكري الحقيقي أو النزاهة الأخلاقية، يستخدمون التكنولوجيا لخلق وهم من الثقافة والمعرفة للمحيطين بهم ليظهروا بصورة المثقفين امام عامة الناس. لكن عند التمحيص لوهلة في تاريخهم وخلفياتهم، غالباً ما يتم الكشف عن الفساد وشهادات علمية مشكوك فيها وفراغ فكري تحت السطح.

حيث أنه في السنوات الأخيرة، سهلت أدوات الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT وغيرها من النماذج اللغوية إنتاج محتوى مكتوب بسلاسة وبلاغة. ومن المعروف أنه يمكن لهذه الأدوات أن تولد مقالات ودراسات وحتى أوراق بحثية تبدو مدروسة ومتطورة. بالنسبة للبعض، و بالتأكيد كان هذا تطوراً إيجابياً، حيث ساهم في نشر المعرفة وتمكين أصوات فاعلة من مفكرين حقيقيين، لكن للأسف فالأمر معكوس في أيدي من لديهم نوايا مشبوهة ، فقد أصبحت هذه الأدوات وسيلة للخداع.

قد تكون الحرب دمرت وهجرت جزءا من الطبقة المثقفة، وهناك فراغ يحاول البعض ملؤه في مجتمع سعى النظام الى تجهيله وترسيخ ثقاقة الوصولية فيه. فظهرأفراد غالباً ما يفتقرون إلى التعليم الحقيقي أو الخبرة الحقيقية، يستخدمون الذكاء الاصطناعي لإنتاج محتوى يقلد أسلوب ونبرة المثقفين المعروفين. يقدمون أنفسهم كقادة فكر أو محللين أو خبراء في السياسة والثقافة في المجتمع السوري. ومع ذلك، فإن أعمالهم غالباً ما تكون سطحية ومشتقة وخالية من التفكير الأصيل، مجرد صدى فارغ للمثقف الحقيقي.

ومما يجعل هذه الظاهرة مثيرة للقلق بشكل خاص هو تاريخ الفساد الذي غالباً ما يرافق هؤلاء " مدعي الثقافة". كثيرون منهم ينتمون إلى عائلات أو خلفيات مرتبطة بالنظام الفاسد أو مسؤولين نهبوا ما نهبوه. بعضهم اشترى شهادات عليا من مؤسسات مشكوك فيها، مستخدماً الثروة أو العلاقات لتجاوز متطلبات البحث العلمي الحقيقي، ومع ذلك يستمرون في تقديم أنفسهم كرموز للنزاهة والحكمة.

وعندما يتم البحث بشكل أعمق، لأي باحث علمي متخصص في مقالاتهم، من حيث ادوات كشف الانتحال نجد كتابة كاملة بالادوات و احيانا تصل الى 80 % ، رغم أن المنشور او المقالة تبدو سليمة لغوياً، نجدها تفتقر إلى العمق أو الفهم الحقيقي للقضايا،  فهم يعتمدون على الكلمات الرنانة والعبارات الجاهزة والأفكار المكررة، مما يخفي فراغهم الفكري المختبئ وراء قشرة من البلاغة يولدها الذكاء الاصطناعي. و يكمن خطر هذه الظاهرة ليس فقط في الخداع نفسه، بل أيضاً في تأثيرها على المجتمع السوري. في بلد يعاني من آثار الحرب وعدم الاستقرار السياسي، أصبحت الحاجة إلى قيادة فكرية حقيقية أكبر من أي وقت مضى. ومع ذلك، فإن هؤلاء "مدعو الثقافة" يحرفون الانتباه والموارد بعيداً عن أولئك الذين يستحقونها حقاً. يلوثون جو النقاش الحر والبناء بنشر المعلومات المضللة والتحليلات السطحية تحت غطاء المعرفة  الكاذبة.

علاوة على ذلك، فإن اعتمادهم على أدوات الذكاء الاصطناعي يطرح تساؤلات أخلاقية حول دور التكنولوجيا في الحياة الفكرية. في حين يمكن أن تكون الذكاء الاصطناعي أداة قوية للبحث والتواصل، إلا أنها لا يمكن أن تحل محل الصفات الإنسانية التي تحدد المثقف الحقيقي في التفكير النقدي، والتعاطف، والالتزام بالحقيقة ، من خلال استعارة جهودهم الفكرية من الآلة.

و في مواجهة هذا الاتجاه المقلق، من الجيد إعادة التأكيد على قيمة الأصالة والجهد الفكري الحقيقي. فالمثقفون الحقيقيون بالنأكيد لا يُعرفون بعدد المقالات التي ينشرونها أو بلاغة لغتهم، بل بنوعية ما يقدمونه وبالتزامهم بالحقيقة واستعدادهم لمواجهة القضايا المعقدة و تحليلها وقدرتهم الفعلية على المساهمة في نهضة المجتمع السوري.

ولذلك يتوجب علينا كقارئين أن نكون يقظين ونتساءل عن مصادر المحتوى الذي نقرأه، ونتحقق من هدف الكاتب، ونطالب بالشفافية والمساءلة، فبهذه الطريقة يمكننا على الاقل ضمان أن تكون الأصوات التي تبرز هي أصوات لمفكرين حقيقيين، وليست تقليد فارغ . 

وفي النهاية، فإن الاضاءة على هذه القضية ليست مجرد محاولة لكشف الاحتيال؛ بل هي حماية لسلامة الحياة الفكرية في مجتمعنا، في عالم يسيطر عليه التكنولوجيا بشكل متزايد و العالم يدخل الثورة الصناعية الخامسة التي يقودها الذكاء الصنعي، و نتذكردائماً أن الحكمة الحقيقية لا يمكن أن تولدها الخوارزميات بل يجب أن تُكتسب من خلال العمل الجاد والتواضع والرغبة الصادقة في فهم العالم الذي نعيش فيه.

 

مجدي سكر

 

*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة على سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]

 


المواضيع الأكثر قراءة

SHARE

close