حوارات حول الحرية ... بقلم : وائل أبو سلمى

يسألني صديقي الطيب : ما هي الحرية ؟ و أنا بدوري أتساءل : لماذا هذا السؤال الآن ، و ما هي خلفيته؟ يجيبني : لقد صُدعتْ رؤوسُنا بذلك المفهوم ، فكل شخص لديه توصيف و معنى يختلف عن آخر ،

النخب تقول إن الحرية أن تفعل ما يحلو لك ، على ألا تؤذي غيرك ، و كل أديان الأرض تقول إن الحرية المطلقة هناك في النعيم الأبدي بعد الموت ، و ليست في هذه الحياة ، أو إنها في نهاية المطاف ، و عليك أن تسعى و تؤمن نفسك بالعبادة و الطقوس كي تستحقها ، إنها الجنة .

و تأتيك الفلسفة بالإرادة الحرة و ما إلى ذلك ، حتى فقدنا البوصلة ، و ضقنا ذرعاً بهذا التشتت و الضياع ، فماذا علينا أن نفعل !

لقد عشنا - كسوريين - أكثر من خمسين عاماً كالعبيد مسلوبي الحقوق ، تحت حكم ديكتاتورية عز نظيرها في تاريخ البشرية قاطبة ، تمثلت بالبعث و الطواغيت من عائلة الأسد ، و ما فعلت بنا تلك العائلة المجرمة ، من انقسامات و اصطفافات سياسية و دينية و مذهبية ، حتى بات هذا التشظي في الأسرة الواحدة ، و ها أنت ترى كم استمر نضالنا و كفاحنا في ثورتنا لاسترداد حريتنا و كرامتنا المسلوبة ، زادت على عقد من الزمن عذاباتنا ، و مآسينا و آلامنا ، و تشردنا تائهين في أصقاع الأرض ، مطرودين من بلادنا ، و من أية أرض تطؤها أقدامنا ، صحيح أننا لقينا من منحنا مأوى  هنا و آخر هناك ، تحت ضغوطات المصالح الدولية و الإقليمية ، إلا أننا مهددون دائماً بالترحيل ، و غير مرحب بنا تقريباً أينما ولينا وجهنا ،

و كم كان الموت مجانياً يا صديقي ، بحار تبتلعنا و تلفظنا موتى على رمال الشطآن ، و براميل تمطرها السماء على رؤوسنا تنثرنا أشلاء ، أو تدفننا تحت أنقاض أعمارنا أفنيناها نبني سقفاً يأوينا و نسنده بأرواحنا المتعبة ، يحمينا من برد و حر الدنيا . هل يكفي هذا أم أزيدك ؟ نعم أسألك و أسأل نفسي : ما هي الحرية ؟

و أقول له : لا يا صديقي ، أنا من سيزيدك من الشعر معلقات  و ملاحم ، لكن انتظر قليلاً ، تناول قهوتك و انت تنظر من تلك النافذة ، إلى كل هذا المدى السماوي ، اهدأ قليلاً يا صديقي الطيب .

بادىء ذي بدء ، أتساءل إن كنت جاداً في طرح هذا السؤال ، و إن كنت تدرك عمقه ، لأن مبحثاً كالحرية هو بمثابة الدخول إلى أدغال الحيوانات المفترسة بكل ما ينتظرنا من أخطار ، إن لم نكن جادين و حذرين أيما حذر ، بكامل انتباهنا ، و بكل ما أوتينا من طاقة للحياة ، هذا المبحث يا صديقي ليس مفهوماً كما أسلفت ، و لا لعبة نتسلى بها لملء الوقت ، بل هو أهم ضرورة في حياتنا ، بعد أن عشنا كل تلك المعاناة التي ذكرتها ، و مازلنا نعيشها ، كل هذا الضياع و التيه و المآسي ، و لكي نرى حقيقة الحرية ، هل تمانع أن نذهب معاً برحلة نستكشف فيها بأنفسنا ما هي ؟ لأنها طاقة غير ملوثة ، و المرء يحتاجها ليرى الحياة على حقيقتها ، كما هي عليه بجمالها و روعتها و عمق ثرائها و طزاجتها ، و يعيش سعيدا  هانئاً ، بسلام و طمأنينة .

 

في رحلتنا هذه يا صديقي الطيب ، سنخترق حدود المألوف ، سنغرد خارج السرب ، سنحطم الصندوق ليس فقط نفكر خارجه ، لا نريد أن نكرر ما قالته الفلسفة ، أو الآداب الإنسانية ، و لا الأديان ، و لا العلم حولها ، لأننا إن فعلنا ذلك ، و كأننا دخلنا أدغالاً فيها من المفترسات ما يرعب ، فمن الضروري جداً أن نبدأ أحراراً ، بعد أن نرمي عن كاهلنا كل تلك الأحمال مما أنتجه الفكر البشري ، يجب أن تكون الحرية ذاتها ، الخطوة الأولى و هي الأخيرة على أية حال ، فهل هذا ممكن ؟ هل نستطيع نحن الناس العاديين ، غير الحاصلين على شهادات عليا في هذا و ذاك ، و بالكاد قرأنا كتبنا المدرسية ، و لا نذكر غير نشيد ماما ماما يا أنغاما ، و باسم و رباب ، هل نستطيع الغوص في أعماق الحرية لنفهم ما هي و ننعم بها ؟ من المؤكد أن النخب لا تستطيع ، لأنها هناك في أبراجها العاجية ، تعيد تدوير نفسها عبر التاريخ ، بأشكال مختلفة ، و بأدوات كل عصر و مفاهيمه ، و هي مرتهنة لفكرها و نظرياتها ، التي لم تسمن و لم تغنِ عن جوع على مر العصور ، فهل نستطيع ذلك نحن البسطاء ؟ إذا كان جوابك بلا ، و هذا غير ممكن ، دعنا ننهي الحديث و نستمع لأم كلثوم أو عبد الوهاب ، لأنك أقفلت الطريق ، و إن كان جوابك بنعم ، نستطيع أن نرمي عن كاهلنا كل تلك الأعباء و الأثقال مما أنتجه الفكر البشري حول الحرية و غيرها من أشياء الحياة ، ستكون النتيجة نفسها ، فدعنا إذاً نشاهد مسلسل باب الحارة ، أو أي شيء تقترحه لنملأ الوقت ، و أقول ذلك بهدف البحث و الاستكشاف .

- حسنا  ، ماذا تقترح إذا  ؟ لأنك جعلت الأمر معقداً للغاية ، فأنت لا تريدنا أن نسترشد بشيء ، لا الفلسفة و فلاسفتها ، و لا الآداب و أدبائها و لا العلوم و علمائها و لا الفكر و المفكرين ، و لا الدين و رجاله ، لقد وضعتنا في صحراء قاحلة طاحنة ، تحت شمسها الحارقة ، و بقلب صمتها المرعب ،

كيف نبدأ رحلتنا إذاً ؟ اسمع يا صديقي ، لماذا نسترشد بهذا و ذاك ؟ الكل سيجيبك من زاويته الضيقة المحدودة ، التي أفنى عمره يدرسها و يحاضر بها ، و نظرياته و آرائه الشخصية ، و ربما يكون كل ذلك بعيداً كل البعد عن حقيقة الأمر و واقع الحال ، مهما كان عميقاً و بليغاً في طرح نظرياته المضللة ، أقول ربما ، فالنظريات و الفرضيات لا علاقة لها بالواقع فهي قديمة و بالية لا تصلح لطزاجة " الآن " لأن الآن و ما يحصل هو الواقع و هو الحقيقة ، و هو متغير دائماً على مدار اللحظات ، أما النظريات فهي من الماضي ، حتى لو كانت قبل ساعة واحدة ، و استرشادك بالماضي يجعلك تنكر الحاضر ، و إن واجهت ذلك النخبوي بشيء حقيقي ، سيقول لك : " من أنت ؟ و ما هي مؤهلاتك العلمية لكي تناقشني في هذا ؟ " أي أنه يمارس عليك سلطة المثقف النخبوي ، و عليك أنت السمع و الطاعة ، و هذا أيضاً ينطبق على رجال الدين و رجال السياسة و رجال العلم و كل ما يخطر على بالك من النخب . لذلك لا بد من أن نبدأ أحراراً من كل ما أنتجه الفكر البشري بكل أشكاله ، فقد عفا عليه الزمن . هل بدأت تستشف شيئاً عن ذلك الشيء المسمى حرية ؟ فيا صديقي الطيب ، أقترح أن نبدأ بأننا لا نعرف شيئاً عنها ، و هذا لعمري هو التواضع الحقيقي ، بعيداً عن عنجهيات النخب الثقافية و رجالاتها ، و بهذا نكون قد بدأنا بنزاهة غير ملوثين . الآن ، ما هي الحرية ؟ يتبع ....

 

---------------------------------------------------------------

*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع

*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]


المواضيع الأكثر قراءة

SHARE

close