يوم نجحت المؤامرة وخسر الجميع
لم يترك بشار الأسد مناسبة إلّا وأثار من خلالها فكرة تعرّض نظامه لمؤامرة كونيّة، وكذلك فعل الإعلاميون والسياسيون المناصرون له، إذ لم يفوّتوا فرصة إلّا وأكّدوا من خلالها نجاح نظامهم في التصدّي للمؤامرة، وأشادوا في كل مرّة بإمكانات الجيش "الوطني" وقدرته على إفشال المخطّط المرسوم، من خلال سحق أدواته في الداخل...
كما هو معلوم، لم تكن الثورة بادئ الأمر أكثر من مظاهرات احتجاجية سلميّة، لا تشوبها شائبة عنف أو سلاح، وقد اعترف رئيس النظام في خطاب له، أمام ما يسمى تجاوزاً "مجلس الشعب" بأنها كانت سلمية حتّى رمضان من العام 2011، وهذا ما أكّده أيضاً نائبه فاروق الشرع في حديث له مع جريدة الأخبار في أواخر العام 2012.
إذن لم يكن ثمّة مبرّر واضح للتعامل مع أحداث محدودة، ومطالب مشروعة، كانت بسيطة في بدايات الثورة، بهذا القدر من التهويل والتضخيم، لدرجة اعتبارها حرباً كونيّة على النظام والدولة.
نظام الأسد: واحد من أعتى أنظمة الاستبداد في المنطقة، وأكثرها دمويّة، وهذا ما لا يشك به أي مؤمن ومدافع عن الحريات والتعددية السياسية. لكنّه، بالمقابل، واحد من أعرف الأنظمة بطبيعة وحساسيّة المنطقة، وتعقيدات المصالح وتداخلها فيها... فالنظام الذي تعامل مع الداخل بقبضة من حديد، كان على المستوى الإقليمي والعالمي نظام تسويات، بكل معنى الكلمة.
وضعت سياسة التسويات نظام الأسد على تماس مباشر مع مصالح الجميع، وكان رجاله يعلمون جيداً أنّ أيّ إخلال في توازنات المنطقة، سيؤدّي بالضرورة إلى إعادة ترتيب التسويات بحسب الظرف الجديد. ولا شكّ بأنّ أي حراك شعبي، حقيقي، سيفرض على اللاعبين الإقليميين والدوليين إعادة ترتيب تحالفاتهم، وفق مقتضيات الواقع الجديد، وهذا ما سيتحول مع الوقت إلى تدخّل في مجريات هذا الواقع، حيث سيحاول كل طرف من الأطراف فرض كلمته على الأرض، ولن يكتفي بمجرّد المراقبة وترتيب الأوراق وفق متغيرات يفرضها آخرون...
المصالح المتشابكة ستفرض، دوماً، ما يشبه التآمر بين الاطراف أصحاب المصالح المتقاطعة، ضد الطرف أو الأطراف أصحاب المصالح المضادة. كان النظام يعلم ذلك تمام المعرفة، وهو ما دفعه للتعامل مع الأمر بشكل استباقي كمؤامرة محتملة، علماً أنّه في الوقت الذي استخدم فيه النظام مصطلح "المؤامرة الكونية" لم تكن تلك الأطراف (الخارجية) قد رتّبت بعد تحالفاتها النهائيّة، ولم تكن كثير من القرارات (التي اتخذت لاحقاً) قد اتخذت بعد، لسبب بسيط: وهو أنّ الحراك الثوري لم تكن معالمه محدّدة من البداية، لا على مستوى التوسّع والامتداد، ولا على مستوى المطالب والشعارات.
كان انتشار حالة الغضب في البداية بطيئاً نسبياً، بينما كانت المطالب بسيطة ومحدودة، وهذا ما جعل الاطراف الإقليمية والدولية في حيرة وتخبّط خلال الأشهر الأولى، ولم يكن واضحاً للمراقب: هل سيستمر الشعب في ثورته، أم أنّه سيعقد تسوية مع نظامه كما فعل في أزمات سابقة؟
تقصّد النظام إطلاق وصف "المؤامرة" على الثورة، بشكل استباقي، وبذلك يكون قد أوجد لمؤيّديه المبرر "الوطني" لسحق مخالفيه، من خلال جعل فعل التصدّي للمحتجّين يرقى إلى مرتبة المقاومة ضدّ خطر خارجي. ليس هذا فحسب، بل كانت التسمية موجّهة لتنبيه حلفائه في الخارج أيضاً إلى ضرورة التنبّه، والبدء بترتيب الأوضاع للتصدّي للهجمة القادمة...
كان الأسد يعلم أنّ إسرائيل غير منزعجة من وضع الدولة السورية طالما يحكمها نظامه، لكنّه يعلم أيضاً أنّ إسرائيل قد يكون لها مصلحة أكبر في إحداث الفوضى، أو في تسعيرها في سوريا. وكان يعلم أيضاً بأنّه أقام علاقات جيّدة مع الولايات المتحدة، ومع الدولة التركية أيضاً، لكنّه أدرك أنّ مصلحة أمريكا وحلفائها قد تتغيّر إن كان الثمن إضعاف المحور الروسي ــ الصيني، على اعتبار أنّ سوريا تشكل مصلحة حيوية وحليف استراتيجي مهم لروسيا في المنطقة...
ينطبق الأمر على العلاقة ما بين نظام الأسد ودول الخليج أيضاً، فعلى الرغم من أنّها كانت علاقة مستقرّة على مدى سنوات طويلة، إلّا أنّ الأسد كان يدرك أنّ إغراء إضعاف إيران، وهي أكبر حليف له، سيكون أكبر بكثير من دوافع المحافظة على علاقات مع نظام لا يدين لعمقه العربي بكثير من الولاء.
من هذه الناحية، كان الأسد أكثر خبرة من معارضيه في كيفية التعاطي مع تعقيدات المصالح، وكان أسرع منهم، بحكم وضعه كنظام تسويات "ونظام تآمر أيضاً" في التعامل مع الأحداث بل وفي صنعها أيضاً.
تعامل نظام الأسد مع الأزمة الداخلية، منذ يومها الأول، على أنها مؤامرة خارجية، وتعامل خصومه مع موقفه هذا باستخفاف بوصفه موقفاً مثيراً للسخرية. ولكن، بتصوري، كان هذا أخبث ما فعله الأسد على الإطلاق، ليس فقط لأنّه أدرك كيف ستجري الأمور لاحقاً، وكيف ستعيد الأطراف المعنيّة تحالفاتها وفق المعطيات الجديدة، بل لأنّه ساهم في تشكيل الحدث نفسه، لقد أدرك أنّ المؤامرة قادمة، لأنّ ثورة الشعب، أي شعب، ستفرض تحالفات جديدة، أي تآمراً بشكل أو بآخر، طالما أنّ النظام غير مستعد لتقديم التنازلات أصلاً. لكنه، وكما كان مُتوقّعاً منه، لم يفعل أيّ شيء للحد من تداعيات المؤامرة، بل كان جزءاً من مؤامرة الخارج على شعبه...
في النهاية، ساهم النظام في إنجاح المؤامرة، لكنه لم ينجح... نجحت المؤامرة، وهُزم الشعب، والنظام أيضاً!
د. عماد العبار