لم تلبث سوريا أن تنتهي من التواجد العثماني على أرضها، وتأسيس مملكتها الأولى في العام 1920 تحت حكم الملك فيصل بن الحسين، حتى فوجئت بالقوات الفرنسية تنتشر على الحدود الشرقية والغربية لسوريا وابتدأت القوات الفرنسية باحتلال خط سكة الحديد (رياق- حلب) في العاشر من شهر تموز 1920.
في 13 تموز وعلى إثر هذا الحشد الفرنسي الكبير على الحدود السورية، دعى المؤتمر السوري أعضاء الحكومة لبيان موقفها، وأدلى وزير الحربية في الحكومة كلمة مفادها أن الجيش السوري قادر على صد الاعتداء عن مدينة دمشق في حال حدوث أية تجاوزات داخل الحدود السورية من قبل القوات الفرنسية.
في 14 تموز والذي يصادف يوم عيد النصر لدى الفرنسيين، أرسل الجنرال (غورو) إنذاراً سمي باسمه فيما بعد، إلى الملك فيصل، مرفق بكتاب حدد فيه مطالب الفرنسيين في سوريا، وتتجلى هذه المطالب في قبول الحكومة السورية انتداب فرنسا على سوريا، تسريح الجيش وإعادته إلى الحالة التي كان عليها قبل قيام المملكة السورية، إعادة العمل بالعملة الصادرة عن البنك السوري اللبناني، عدم معارضة الفرنسيين باستخدام خط حديد (رياق-حلب) وإنزال أشد العقوبات بالمعارضيين للوجود الفرنسي في سوريا.
كانت مدة الإنذار أربعة أيام تنتهي في منتصف ليل 18 – 19 تموز.
وبناءاً عليه دعى الملك الحكومة إلى الاجتماع في القصر الملكي في يوم 16 تموز، لأخذ رأيها بهذا الإنذار، وفي لالقصر الملكي سأل الوزراء وزير الحربية يوسف العظمة، عن إمكانية وقدرة الجيش للتصدي للفرنسيين، فأجاب وزير الحربية: ( لدى الجيش من العتاد مايكفي لمقاومة الفرنسيين مدة من الزمن، وربما لدحرهم على أعقابهم إذا أداروا ظهورهم في أول ملحمة).
ولما طلب الوزراء من زميلهم وزير الحربية تقديم بيان خطي بموجود العتاد موقع بتواقيع أركان الجيش أجابهم غاضباً: ( ألا تثقون بكلامي وأنا زميلكم المسؤول عن أمور الجيش؟)
فقالوا له: ( ولكننا لانرتبط بمصير الأمة وقبول الحرب أو رفضها إلا بعد الوقوف على إمكانيات الجيش للدفاع ولو لبرهة من الزمن، يحول دون تقدم العدو إلى العاصمة قبل وصول الخبر للحلفاء).
بقي هذا الاجتماع في أخذ ورد، ولم يتمكن الوزراء بأخذ قرارهم الحاسم من موضوع الذهاب للحرب أو القبول بالهدنة، ورافق هذا التشتت بالقرار غضب وثورة عارمة لدى الشعب، مطالبين بتسليحهم وذهابهم لمقاومة الفرنسيين، إلا أن الملك فيصل كان يميل إلى القبول بالإنذار وتهدئة ثائرة الشعب الغاضب ولو عن طريق استخدام القوة أحياناً.
وفي 17 تموز دعى الملك فيصل المؤتمر السوري إلى اجتماع في القصر الملكي، وأيضاً لم يتم حسم موضوع قبول الإنذار من عدمه في هذا الاجتماع.
وفي يوم 18 تموز آخر يوم للإنذار، ترأس الملك اجتماعاً للوزراء، عجز من خلاله وزير الحربية أن يقدم برهان أو دليل على إمكانية الدفاع عن دمشق في وجه الجيش الفرنسي، ونتيجة لذلك أجمع مجلس الوزراء وعلى رأسهم الملك باستثناء وزير الحربية على قبول شروط الإنذار والبدء بتنفيذها، ونتيجة لذلك اضطر وزير الحربية على الرضوخ إلى هذا القرار وأعلن انسحاب القوات السورية المعسكرة على الحدود في مجدل عنجر وسائر المواقع المجاورة لها على طريق بيروت – دمشق.
تم إرسال برقية الموافقة هذه موقعة من الملك إلى الجنرال غورو، وكان حاضراً على توقيع الملك عليها صديقه الخاص الكولونيل (تولا) معاون المعتمد الفرنسي في دمشق.
وفي صباح اليوم التالي 19 تموز تلقى الملك فيصل كتاباً من الجنرال غورو يتضمن الشكر على قبول الإنذار، والتذكير بأن المقصود من المذكرة التي حوت الإنذار لاينحصر في إعلان قبولها بل يشمل تنفيذ أحكامها على الوجه المشار إليه فيها، وأضاف أنه مدد مهلة الإنذار أربع وعشرين ساعة تنتهي في منتصف ليل 20-21 تموز ولاتتحرك قبلها جيوش فرنسا.
في العشرين من تموز اجتمعت الوزراة في القصر الملكي ووافقت على قبول الانتداب بكامله، وفقاً لطلبات الجنرال غورو، ونظمت البرقية الجوابية التي وقعها جلالة الملك واشترك في ترجمتها الجنرال تولا، وأرسلت إلى دائرة البرق والبريد قبل الغروب، أي قبل ست ساعات من الموعد المحدد لها، وسلمت في الوقت نفسه المذكرة التفصيلية إلى المعتمد الكولونيل توس.
نتيجة لذلك، تعرضت الحكومة لانتقادات وهجمات لاذعة من الرأي العام وأحزابه وجمعياته الوطنية التي رفضت الإنذار وشروطه، واعتبرته وصمة عار على جبين السوريين، من ملك غير سوري، وما زاد الطين بلى أن الجنرال غورو فاجأ الجميع بتحريك قواته في صباح 21 تموز باتجاه العاصمة السورية بقصد احتلالها، وبدأ بدخول مجدل عنجر الذي انسحبت منه القوات السورية، فثار الشعب لهذا النبأ وطالب بسقوط الملك والحكومة لانخداعهما بوعود بلفور وسحب القوات السورية من المناطق الحدودية.
نتيجة لذلك أمر وزير الحربية القوات السورية بوقف الانسحاب، وأرسلت الحكومة وزير المعارف ساطع الحصري إلى عاليه من أجل مقابلة الجنرال غورو، ولدى ذهاب الوزير الحصري إلى هناك قابل الجنرال غورو، فسأله متفاجئاً عن زحفهم إلى دمشق على الرغم من قبول الملك والحكومة بالإنذار وشروعهم بتنفيذه، فأجابه الجنرال غورو:
"لقد انتظرت جوابكم طيلة منتصف الليل وبقيت انتظر مدة من الزمن، إلا أن جوابكم تأخر نصف ساعة على صدور أوامر الزحف، ولدى تحققي من الموضوع اكتشفت أن العصابات المسلحة بين الزبداني وسرغايا هي من اعترضت طريق البرقية وأخرت وصولها، ولما كانت السياسة التي سارت عليها حكومتكم قبل ذلك هي التي أفسحت مجالاً لتشكيل العصابات، فعلى عاتقها تقع مسؤولية هذا التأخر".
وبعد أخذ ورد بين وزير المعارف وبين الجنرال غورو، تناول الجنرال ورقة من مكتبه تتضمن شروطاً جديدة أكثر صرامة وطلب من وزير المعارف قبولها والتوقيع عليها، إلا أن الوزير الحصري رفض قبولها قبل العودة لرأي الحكومة، وبعد نصف ساعة أعطى الجنرال كتاباً لوزير المعارف وقال له: " أرجو أن توصل هذه الرسالة إلى الأمير، وأناشد فيها وطنيته وحكمته".
وقال أنه سيمدد الهدنة يوماً إضافياً حتى منتصف ليلة 24 تموز.
كان لتحرك الفرنسيين باتجاه دمشق، وعدم التزامهم بالهدنة بالغ الأثر لدى السوريين وجيشهم، الذين طالبوا باسترداد الأسلحة التي أخذت منهم، وقاموا بمهاجمة قلعة دمشق وإخراج السجناء منها وتسليحهم، إلا أن الملك فيصل قام بإرسال أخيه الأمير زيد برفقة ياسين الهاشمي وبعض الضباط والجنود لإخماد ثائرة الشعب، وتم تبادل إطلاق النار لمدة تقارب النصف ساعة، وقد كلفت هذه الحادثة أكثر من مئتي ضحية بين قتيل وجريح.
وابتدأت دائرة المعارك تتوسع، في منطقة تلكلخ بحمص وتم اعتقال عدد من الجنود السوريين بينهم ضباط جراء هذه الحادثة.
ونتيجة لهذه الأحداث، ابتدأ الشيخ كامل القصاب زعيم حركة التطوع بإيقاد عزائم الشباب من خلال خطبه الحماسية، وقد بلغ عدد المتطوعين لديه مايقارب العشرة آلاف متطوع، وقد ساعده بذلك صديقه المقرب وزير الحربية يوسف العظمة.
اقتربت الحشود الفرنسية من سوريا، وتأهبت أمام منطقة ميسلون لدخول دمشق، كان الشعب السوري هائجاً بشدة وناقماً على الملك، ونسبوا إليه التآمر مع الفرنسيين توصلاً لتحقيق اتفاقية فيصل – كليمنصو، وطالبو بإسقاطه والمناداة بأخيه زيد بدلاً عنه، ونتيجة لذلك قامت اللجنة الوطنية مع بعض أعضاء المؤتمر السوري بانتخاب ستة أشخاص عنهم لمقابلة الملك، ولدى لقائهم به، قال أحدهم بصوت مرتفع: " ياصاحب الجلالة إن الأمة لن ترضى بالتفاهم مع الفرنسيين، وسنحاسب المسؤولين عنه حساباص عسيراً"
فغضب الملك وقال بنبرة مرتفعة :" انا لا أهدد، أنا أقدر منكم على خدمة بلادي التي هي بلادكم، أتريدون الحرب مع دولة قوية وليس لديكم قوة تقف في وجهها؟ "....
على إثر ذلك خرج الأعضاء الستة من مقابلة الملك، وبدأت الجموع تزحف باتجاه القصر الملكي منددة بالملك وحكمه حتى أرسل الملك على الفور أحد حجابه حجازي أسود اللون مع فرقة من الخيالة لتفريقهم .....
هكذا كانت أحوال دمشق، قبل دخول الفرنسيين إليها وموقعة ميسلون التي استشهد على إثرها وزير الحربية يوسف العظمة وعدد من رجالات الجيش والوطنيين السوريين، هكذا ابتدأت قصة الاحتلال الفرنسي لسوريا، من عدد من الوثائق والإنذارات أرسلها الجنرال الفرنسي غورو، وقبلها الملك فيصل الذي تناسى أنه لا أمان للاستعمار ....
وينشر متحف سيريانيوز نسخة اصلية من نص "انذار غورو" الشهير تم توزيعها على الشعب السوري، وفيها ما فيها من تحريض على الطائفية والعنف والخنوع.