في الآونة الأخيرة اتسعت دائرة النقاش لدى أوساط المعارضة السورية والمتابعين للشأن السوري، حول إزاحة رئيس النظام بشار الأسد من قبل روسيا واستبداله بنائبه للشؤون الأمنية والرجل الثاني في البلاد -كما يصفه البعض- اللواء علي مملوك، وهي شائعة متكررة بين الحين والآخر.
الشائعات السورية، جاءت بسيناريو طويل عريض حول الموافقة الروسية على إزاحة الأسد، ونقاش مطول جرى في موسكو بحضور تركي حول كيفية التخلص منه وإنهاء الحرب وعقد صفقات منها التخلص من النفوذ الإيراني، وزاد هذا الحديث حول إزاحة الأسد ما أعلنه الإعلامي الإسرائيلي والناشط على السوشيال ميديا «إيدي كوهين» من مفاجأة ثقيلة بأن بديل الأسد سيكون «فهد المصري» وهو شخصية سورية غير معروفة إلا في حدود ضيقة.. فما حقيقة سيناريوهات إزاحة الأسد، وما مدى إمكانية هذا السيناريو سياسياً في الحالة السورية؟
بإسقاط «تغريدات كوهين» من الحسابات باعتبارها لا تتجاوز "الشو الإعلامي" وبالون اختبار لعلاقات الطبقة الحاكمة في دمشق، لكن يبقى لها مدلول ذو أهمية من زاوية التزامن مع الحديث عن استبدال الأسد بمملوك، فضلاً عن زاوية نظر أخرى وهي خروجها من إسرائيل! إلاّ أن الحديث الأكثر جدية والقابل للنقاش والتساؤل يبقى حول إمكانية استبدال اللواء علي مملوك بالأسد بعد 9 سنوات على حرب غيرت سورية جيوسياسياً وعسكرياً، ونشأت حولها كتلة معقدة من التحالفات الدولية والإقليمية، إذ أصبحت دمشق من نصيب جميع القوى اللاعبة، وفي الوقت ذاته ليست من نصيب أحد !
هذه ليست المرة الأولى التي يُشاع فيها سيناريو استبدال الأسد بمملوك، ففي 11 مايو/ايار من عام 2015 نشرت صحيفة «التلغراف» البريطانية، خبر انقلاب مملوك على الأسد، لكن سرعان ما تبين زيفه، وبين كل مرحلة يجري فيها تحرك إقليمي حول سورية، يتجدد الحديث عن مملوك، إذ ثمة من يريد إثارة الضجيج حول علاقة مملوك ببشار وجس نبض العلاقة بينهما، التي توصف بالقوية والمتينة جداً، حتى أن التغييرات في الأجهزة الأمنية السورية التي حدثت في يوليو/تموز الماضي، أشرف عليها مملوك شخصياً، وكان له دوراً في هندسة الأجهزة الأمنية السورية الجديدة، في مرحلة ما بعد نهاية العمليات العسكرية الكبرى.
أصل المشكلة السورية
لنتذكر بدايات الثورة السورية وخروج المظاهرات، كان شخص بشار الأسد خارج الحسابات، وخارج حناجر السوريين، كانت المطالبة بتغيير المنظومة، بل إن المعارضين السوريين كانوا يتأملون التغييرات على يد بشار نفسه، وطي صفحة سورية البوليسية الأمنية إلى سورية الديموقراطية من دون دماء وعنف، وظلت هذه الرغبة حتى عهد المبعوث الأممي إلى سورية الأخضر الإبراهيمي، ففي أحد لقاءاته مع الأسد دعا الإبراهيمي الأخير إلى أن يكون الملك الذي يشرف على انتقال سورية السياسي السلس، حينها رد بشار على الإبراهيمي ماذا تعني بذلك، فأجاب: بدلاً أن تكون أنت الرئيس لتكن المشرف على الرئيس الجديد في سورية وتتجه لعملية سياسية بقيادتك على أن تكون خارج الحكم، لكن مساعي الإبراهيمي انتهت بالفشل.
إذن جوهر المشكلة من الناحية السياسية ليس في شخص الأسد حتى يتم استبداله، وعلى الرغم من أن مطالب المعارضة كانت تتمحور حول إزاحته، لكن القرار الدولي 2254 وتشكيل اللجنة الدستورية وأوراقها التأسيسية لا تركز على الأسد بشخصه، بل على المنظومة المحيطة به والبدء بعملية انتقال سياسي وانتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة، ما يعني أن إزاحة الأسد ستكون نتيجة في العملية السياسية وليس غاية.
ثمة تعقيد كبير في الحالة السورية تسعى الدول الكبرى لفكه، فالأسد هو المشكلة وفي الوقت ذاته هو الحل.. كيف؟!
تتجلى المشكلة بالأسد باعتباره وجه السلطة السياسية والعسكرية والمسؤول عن كل ما جرى، رغم أن خلف وجه بشار ثمة شبكة علاقات مافيوية أمنية أججت هذا الصراع بقيادته، أما وجه الحل في شخص الأسد فهو رضوخه للضغوط الروسية ومن خلفها الدولية، إذ إن رضوخه يضمن عدم تمرد الطائفة التي أصبحت تسيطر على كل مفاصل الدولة، وهذا من أكبر نجاحات الأسد الذي أحسن ربط الطائفة به، وبالتالي أية عملية انتقال سياسي يجب أن تمر عبر مصالح الطائفة، وبالتالي عبر بشار.. وهنا كانت تكمن عبقرية الأخضر الإبراهيمي الذي يفهم تعقيدات الوضع السوري منذ التسعينات حين كان وزيراً لخارجية الجزائر ويعرف بنية نظام الأسد جيداً، إذ كان يسعى إلى تفتيت الصخرة بدلاً من تحطيمها.
مملوك ومنظومة الولاء الغائبة
كل ما سبق، لا يؤهل مملوك ليكون في قيادة سورية الجديدة، على المستوى التاريخي والطائفي وحتى على مستوى دعم مراكز القوى المالية (الدمشقية) المتحالفة مع النظام منذ الأسد الأب، إن شخصية مثل مملوك لا يمكنها من دون منظومة محيطة به تبدي الولاء أن تطرد إيران من سورية التي بات تحت سيطرتها ما يقارب 6 آلاف مقاتل من الدفاع الوطني وتدفع لهم رواتب شهرية حتى الآن، فضلاً عن مليشيات الحرس الثوري والحشد العراقي وغيرها من المليشيات اللبنانية والأفغانية، كما لا يمكنه تفكيك كتائب رجال الأعمال المحيطين بالأسد مثل حسام القاطرجي الذي يمتلك مليشيا تضم نحو 15 ألف مقاتل، وأخيراً أنه لا يمتلك لعبة المال التي يديرها الأسد عبر رجال أعمال مرتبطين عضوياً ببقائه.
وللأسف حتى روسيا التي بدأت بإعادة هيكلة الجيش السوري لم تتمكن من تغيير البيئة الطافية في الجيش والأمن والحكم، فالتغيير في الحالة السورية يرتبط بالحالة الطائفية التي أسسها حافظ الأسد الأب لضمان السلطة التي تعززت بعد الحرب، ذلك أن البعد الطائفي في المسألة السورية من أقوى مكونات الدولة السورية.
هيمنة "العصبة" على الدولة
في دراسة صدرت أخيراً عن مركز عمران للدراسات الإستراتيجية، لفتت إلى نهج «علونة الجيش» لدى النظام السوري، وكشفت وجود 40 ضابطاً علوياً يتسلمون أبرز مراكز القوى في الجيش، وهذه الكتلة الضخمة من القيادات العلوية ارتبطت بعد الخسائر التي تعرضت لها الطائفة ببشار الأسد من حيث لا تدري، إذ بات بقاؤه بشكل أو بآخر هو الضامن لهذه الطائفة، وعليه لا يمكن لشخصية من خارج الدائرة العلوية أن تضمن مصالح هؤلاء ومصيرهم مهما كانت الضمانات الدولية في بيئة سورية لا تخلو من الطائفية؛ بسبب مفرزات الحرب.
لم تعد المشكلة السورية مرتبطة بشخص الأسد فقط، ولعل مثل هذا الحل كان ممكناً في البدايات الأولى للأزمة السورية، لكنه اليوم بعدل تدويل وأقلمة الصراع وتمزيق البلاد لم يعد إزاحة الأسد الحل الأمثل.
كما أن الأزمة السورية اليوم دخلت في مسارات سياسية من نوع جديد، وبقرارات أممية تحظى بدعم أمريكي - روسي - تركي وحتى إيراني مع اختلاف التفسيرات والفهم للقرارات الدولية.
حتى روسيا من الصعب أن تفكر باستبدال الأسد باللواء علي مملوك، إذ إن مثل هذا النوع من الحلول السياسية ليس في قاموس العقيدة الروسية، وفي الوقت ذاته، فإن ذلك يُفقد موسكو مصداقيتها مع الحلفاء في الشرق الأوسط والعالم، إذ سيسجل على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه باع حليفه الأسد في سورية بعد أن نجح عسكرياً في استعادة مساحات واسعة للدولة السورية.
تكريس الدولة العميقة
مملوك بلا شك، رجل الأمن الأول في سورية، وصاحب المهمات الإقليمية الصعبة، فهو زار دولاً عربية، إضافة إلى تركيا وروسيا وإيطاليا في إطار محاولات لمقاربة الوضع السوري، ويحظى بقبول دولي أيضاً، إلاّ أنه ليس الشخص الذي ينهي الصراع في سورية، إذ إن تحول الدولة السورية إلى إدارة رجل أمني يعمق المشكلة السورية التي كانت تتركز حول إدارة الدولة أمنياً على مدار ثلاثة عقود، ويفسح المجال للدولة الأمنية العميقة الذي يعيق أية مشاركة سياسية للمعارضة السورية وبقية أطياف القوى السياسية.
مثل هذا السيناريو ممكن في السنوات الأولى من الأزمة، لكن بعد أن تجاوز الأسد خطر السقوط عسكرياً وتوسعت سيطرته على مناطق كثيرة في سورية، وبدأ الأكراد القوة الأكبر في شمال شرق سورية يطرقون أبواب دمشق، فإنه من الصعب فكرة الإزاحة أو البديل، ما لم يكن هناك مسار سياسي واضح المعالم يضع سورية على سكة معروفة النهاية، وعلى الأرجح لن تكون هذه السكة من عالم المفاجآت السياسية، بل ثمة مسار سياسي ترسمه موسكو بتوافق دولي عبر اللجنة الدستورية وإن تعثرت قليلاً لكنها السكة الأكثر متانة في رحلة الحل السياسي السوري. وأخيراً، لن يكون سهلاً تمرير أية عملية على الشعب السوري بعد كل ما جرى، ومن ضمن ذلك إعادة إنتاج وجوه النظام بهذه الصورة، هذا الشعب الذي خسر كل شيء ولم يعد لديه ما يخسره مجدداً، سيكون له دور في أي سيناريو، إذ صنع الشعب السوري كل التحولات السياسية والعسكرية على مدار 9 سنوات؛ لذا لا بد أن يكون رقماً فاعلاً في أية معادلة جديدة للبلاد.
عبدالله الغضوي
صحيفة عكاظ السعودية