بالنسبة لكثير من الباحثين في شؤون الجماعات الإسلامية يمثل كتاب "إدارة التوحش" دستوراً يسير وفقه تنظيم القاعدة ومعه تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، في إدارة مناطق الفوضى عقب سقوط الأنظمة أو الدول المستعمرة، أي في الفترة التي تسبق إقامة الخلافة الإسلامية المنتظرة...
ولا ريب في أنّ تنظيم الدولة أظهر من الوحشية ما يمكن أن نفرد له صفحات عديدة، على سبيل التحليل الفكري والنفسي لظاهرة القتل الوحشي الذي يقوم به عناصر داعش على الطريقة الهوليوديّة: الذبح بدم بارد إلى إحراق الخصوم وهم على قيد الحياة، تقطيع أوصال الأسرى وتركهم في مواجهة الموت البطيء، تجنيد الأطفال لقتل الرهائن والمختطفين، الصلب، الرمي من أماكن مرتفعة، الخنق بالسلاسل، إغراق الضحايا...
كل ذلك كان يتم أمام كاميرات خبيرة، وتقنيات عالية، كان الهدف منها نقل الوحشيّة بأدقّ تفاصيلها إلى المشاهد، و الذي بات عاجزاً عن تمييز الفواصل الحقيقية بين الحقيقة والخيال...
لكن، ومن جانب آخر، نظلم هذا التنظيم كثيراً إن برّأنا أنفسنا من الوحشيّة بالمطلق، وألقينا عليه حمولتها بالكامل، فقد أظهرت الوقائع على مدى السنوات الخمس الماضية أنّ المجتمع السوري يحمل حمولة زائدة من العنف والدمويّة. ظهرت أوضح تجليّاتها مؤخراً في انتشار ظاهرة السيلفي عند القوات التابعة للنظام السوري، وعند بعض الأطراف المحسوبة على المعارضة، وكذلك عند أطراف محسوبة على القوات الكرديّة في مناطق الإدارة الذاتيّة. أطلق كثير من الناشطين على تلك الظاهرة، على سبيل التندّر : " صور سيلفي و الجثث خلفي"...
اعتقد بأنّ قوات النظام السوري كانت وما تزال صاحبة السبق والريادة في الاستخدام الوحشي للتقنيّة. كان الأمر بادئ الأمر عبارة عن صور مسرّبة، تهدف إلى إيصال رسالة إلى معارضي النظام مكتوبة على جثث أبنائهم الذين قضوا تحت التعذيب...
في مرحلة تالية، نقلت مقاطع فيديو مسرّبة من موبايلات عناصر تابعين لقوات نظامية حالات من القتل، والدعس، والإهانة والإذلال، والحال أنّ هذه المقاطع ظهرت مع تصاعد الاحتقان الطائفي. وثمّة رأي وجيه أيضاً يرى أنّ تسريب هذه المقاطع كان ضمن خطّة لتأجيج الاحتراب الطائفي، ضمن واقع متأهّب لذلك، ولا ينتظر سوى الشرارة الأولى...
لاحقاً، ظهرت آلاف الصور القاسية التي تمّ تسريبها عن معتقلين قضوا تحت التعذيب، أو موتاً بالأمراض نتيجة الإهمال المقصود... أمّا التجليات الأخيرة لوحشيّة الصورة، فكانت ظاهرة "السيلفي"، فقد ظهرت مؤخراً كنانة علوش، إحدى مراسلات إعلام النظام، وهي تبتسم في صورة سيلفي، بينما يظهر خلفها جثامين قتلى المعارضة بعد مواجهات مع النظام في حلب...
تذكرنا صورة كنانة علّوش بمقطع فيديو أقدم لزميلتها في نفس القناة، ميشلين عازار، عقب مجزرة داريا. قامت عازار وقتئذ بالتنقّل بين جثث مدنيين من أهل داريا، وأجرت لقاءً مع طفلة كانت تنزف بشدّة، إلى جانب والدتها التي كانت قد فارقت الحياة !
وفي الأيام الأخيرة، ظهرت صور سيلفي جديدة، يظهر فيها الضابط عصام زهر الدين وخلفه أشلاء جثث معلّقة، قيل إنّها لأفراد من داعش في دير الزور، بدا فيها الضابط ككبير للجزّارين، لا كضابط عسكري في جيش نظامي...
من جانب آخر، لم يكن عناصر النظام وحدهم عشاق سيلفي الدم، فقد ظهرت مؤخراً صور لمقاتلين من المعارضة مع جثامين قتلى عقب اقتحام قرية الزارة. قبلها ظهر ظاهر العمر، وهو إعلامي في جيش الفتح، مبتسماً في صورة تتكدّس الجثث في خلفيّـها...
وقبل ذلك، ظهرت عدّة صور لعناصر من الجيش الحر في حلب مع جثث لعناصر داعش، لم تحظَ تلك الصور بالاهتمام الكافي، لكون الجثث تعود لعناصر داعش، فقد باتت قيمتهم الإنسانية في نظر الجميع، و يا للأسف ! أقل من قيمة بقيّة البشر العاديين !
وبعد المواجهات الأخيرة بين قوات المعارضة و وحدات الحماية الكردية، جاب مسلحو تنظيم "ب ي د" شوارع عفرين، وهم يعرضون عشرات الجثامين لعناصر من المعارضة في شاحنة مكشوفة، قبل أن يقوم بعض الإعلاميين التابعين لتلك الوحدات بالتقاط صور سيلفي تذكارية مع الجثث... بالابتسامة الوحشيّة ذاتها !
يعيدني هذا العرض لظاهرة السيلفي الدمويّة "السوريّة"، إلى بعض الدراسات الغربية التي انتشرت مؤخراً حول ظاهرة السيلفي "الطبيعيّة !"، والتي خلصت إلى الربط ما بين الإدمان على هذه الظاهرة وبعض الاضطرابات النفسيّة: كالاكتئاب، أو وجود درجة منخفضة من تقدير الذات، بينما ربطتها دراسات أخرى باضطراب الغرور والنرجسيّة...
فإذا كانت صورة سيلفي عادية، بحسب تلك الدراسات، ظاهرة تدعو للقلق، وتحتاج للبحث في أبعادها النفسية، فكيف بصورة سيلفي وحشيّة بحسب آخر تجلّيات الحالة السورية ؟!
ثمة عمل شاق ينتظر الأجيال التي ستأتي من بعدنا، فيتوجّب عليهم إجراء الحفريّات والدراسات الجينيّة اللازمة، لمعرفة طبيعة تلك الكائنات التي أقامت على أرض ذلك المسلخ الكبير، والمرعب، الذي كان اسمه "سوريا" ..
د. عماد العبار