لم تكن السويداء يومًا محافظة هامشية في المشهد السوري. فالمكان الذي اشتهر بمقاومة الاستعمار الفرنسي، ورفع راية الاستقلال والكرامة، بات اليوم مسرحًا لمعادلات إقليمية معقّدة، تصطدم فيها سرديات الدولة، والطائفة، والمصالح الدولية. ما بدأ كحادثة خطف تاجر خضار على الطريق بين دمشق والجبل، تحوّل خلال أيام إلى صدام أهلي، وتدخّل عسكري داخلي، وضربات إسرائيلية موجهة، وتصعيد إقليمي يخفي خلفه أكثر بكثير مما يُعلَن على السطح.
حادثة الخطف لم تكن مجرد حادثة أمنية. التاجر المخطوف درزي من وجهاء المنطقة، اختُطف على يد مسلحين من عشائر بدوية – وفق لما أُشيع – الأمر الذي فجّر غضبًا عامًا في السويداء، حيث لا تزال الأعراف الطائفية والعشائرية تلعب دورًا في تشكل الهوية والانتماء. رد الفعل الدرزي لم يتأخر، وبدأت مجموعات محلية مسلحة بالردّ، ما فتح الباب على دائرة عنف متصاعدة، سرعان ما شملت أحياء
غير أن اللافت، وربما الأخطر، هو أن رد فعل الدولة السورية – بقيادة أحمد الشرع – بدا مترددًا في البداية، ثم مفرطًا في القوة لاحقًا. فبعد ساعات من اندلاع الاشتباكات، أُرسلت تعزيزات أمنية من الشرطة العسكرية وأجهزة المخابرات، وهو ما اعتُبر استفزازًا مباشرًا من قبل أهالي الجبل. فاندلعت اشتباكات عنيفة، قُتل فيها عشرات العناصر الأمنية، وانهارت هيبة الدولة الجديدة في أول اختبار لها داخل السويداء.
في موازاة ذلك، دخلت إسرائيل على خط الأزمة بقوة. خلال 48 ساعة فقط، شنت الطائرات الإسرائيلية غارات على مواقع عسكرية تابعة للحكومة السورية، شملت دبابات ومدرعات في أطراف السويداء وحتى مشارف دمشق. بررت تل أبيب هذه الهجمات بأنها لحماية الدروز من “بطش الحكومة الجديدة”، بينما أشار محللون إسرائيليون إلى أن الهدف الحقيقي هو منع أي تموضع استراتيجي جديد للجيش السوري قد يهدد حدود الجولان.
السؤال الأساسي هنا: لماذا تتدخل إسرائيل، وهي التي طالما فضّلت حالة "اللاحرب–اللاسلم" في الجنوب السوري، بهذه الصراحة؟ يبدو أن تغيرين رئيسيين يفسران هذا التحول:
في المقابل، كان خطاب أحمد الشرع ضعيفًا على مستوى التعبئة الشعبية، وإن بدا متزنًا سياسيًا. دعا إلى التهدئة، وأعلن الاستعداد لانسحاب الجيش من السويداء، في حال التزمت المجموعات المحلية بضبط الأمن. لكن هذا الطرح وُوجه ببرود من الزعامات المحلية، التي ترى في الخطاب استمرارًا لنهج التهميش، لا تفاهمًا سياسيًا حقيقيًا. وهنا، يكمن جوهر الأزمة: هل يُمكن لحكومة مركزية أن تفرض الأمن على محافظة طائفية دون شراكة فعلية؟
السويداء تعيش اليوم حالة من التمزق الداخلي. فهي من جهة، لا تثق تمامًا بالحكومة المركزية، بسبب إرث من التهميش الأمني والتنموي، ومن جهة أخرى لا ترغب أن تتحول إلى “جيب” يخضع للوصاية الإسرائيلية. في عمق الخطاب الشعبي الديني هناك رغبة في الحفاظ على هوية مستقلة، لكنها تصطدم بالواقع الجغرافي والسياسي، حيث لا مجال للاستقلال في بلد يتقاسم حدوده الروس، والإيرانيون، والأميركيون، والإسرائيليون.
ومن جهة ثالثة، تبدو الحكومة في دمشق عاجزة عن فرض رؤيتها دون أن تُتهم بالتدخل الطائفي، خاصة أن غالبية القوات التي أُرسلت إلى السويداء لا تنتمي إلى نفس الطائفة. وقد لعبت هذه الحساسية الطائفية دورًا مهمًا في تأجيج الغضب المحلي، وفتحت الباب أمام خطابات شعبوية تصف ما يحدث بأنه “غزو من طائفة على طائفة”، وهو ما يعيد إنتاج منطق الحرب الأهلية بطريقة زاحفة.
الأرقام تتحدث عن نفسها: أكثر من 600 قتيل، بينهم 60 مدنيًا، وعشرات الجرحى، وتدمير جزئي لمراكز شرطية، وفقدان السيطرة على قرى كاملة لصالح فصائل محلية. أما إسرائيل، فتقول إنها “حذرت” ولم تُستمع إليها، والولايات المتحدة تراقب من بعيد، وترسل إشاراتها عبر بيانات دبلوماسية غامضة تطالب “بضبط النفس”، في حين يعاني الشرع من فجوة متزايدة بين خطابه السياسي وأداء مؤسساته على الأرض.
وفي هذه الفوضى، تبدو الطائفية مثل شبح يُستدعى وقت الحاجة: لا أحد يعترف بأنه يخوض حربًا طائفية، لكن الجميع يتصرف وكأن الطائفة هي معيار الولاء والخطر. هل المطلوب أن تستقر السويداء أم أن تُعاد هندستها ديموغرافيًا وأمنيًا كما حصل في القصير والزبداني ودرعا سابقًا؟ الإجابة ليست واضحة بعد، لكنها ترتبط بسؤال أعمق: هل تملك الحكومة السورية الجديدة مشروعًا وطنيًا جامعًا يتجاوز الطوائف؟ أم أنها تكرّر أخطاء النظام السابق في تغليف السياسة بأمن الدولة، وإسكات المجتمع بصوت الدبابة؟
قد تكون السويداء ساحة اختبار مبكر لسوريا ما بعد الأسد. فإما أن تُبنى فيها شراكة مدنية عادلة، تعترف بحقوق الهوية دون أن تنزلق نحو الانفصال، وإما أن تتحول إلى نموذج لبداية انقسام جديد داخل "سوريا ما بعد الثورة"، حيث يتغلب منطق القوة على منطق السياسة، وتتحول الطوائف إلى دويلات، وتبقى دمشق عاصمة بلا نفوذ، وحكومة بلا سلطة.
الأمر المؤكد أن السويداء لن تهدأ ببيان، ولا بتفاهم مؤقت. المطلوب رؤية حقيقية، شاملة، تنطلق من سؤال: ما معنى أن تكون دولة؟ وما معنى أن تكون جزءًا منها دون أن تُبتلع في مركزيتها؟ هذا هو الرهان، وهذه هي لحظة الحقيقة.
-----------------------------------------------------------------------
*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]