يُعد فيلم “العراب” (The Godfather) من أبرز التحف السينمائية في التاريخ، وهو مقتبس من رواية ماريو بوزو التي تحمل الاسم نفسه. وعلى الرغم من مرور أكثر من خمسين عامًا على إطلاقه، ما زال يُصنّف ضمن أكثر الأعمال تأثيرًا في تاريخ السينما العالمية، وذلك بفضل تميّز عناصره، من السيناريو المستقى من رواية الجريمة والمافيا، إلى إخراج فرانسيس فورد كوبولا الثوري، مرورًا بالموسيقى الأيقونية من تأليف نينو روتا.
أثر الفيلم في الدراما:
ترك “العراب” بصمة واضحة في الدراما العالمية، ولا سيما السورية. فقد استُوحي من روحه في أعمال مثل “العراب – نادي الشرق” (للمخرج الراحل حاتم علي)، و”الندم” (للكاتب حسن سامي يوسف والمخرج الليث حجو)، حيث برع هؤلاء الفنانون في تجسيد العلاقات العائلية المتشابكة والطموحات المتداخلة مع المصالح، بأسلوب قريب من معالجة كوبولا.
تشابه عائلة كورليوني وعائلة الأسد:
تلفت أحداث “العراب” النظر إلى أوجه شبه لافتة بين عائلة كورليوني التي تدور حولها الرواية، وعائلة الأسد في سوريا. ففي نفس العام الذي صدر فيه الفيلم، كانت سوريا تشهد تحوّلًا سياسيًا كبيرًا بوصول حافظ الأسد إلى السلطة، وتأسيسه لنظام الحكم الفردي، بطريقة توازي نظام المافيا الذي تسيّر به عائلة كورليوني شؤونها.
الشخصيات والديناميكيات:
تبرز أوجه التشابه بين شخصية دون فيتو كورليوني (مارلون براندو) وحافظ الأسد في الكاريزما، والبرودة، والذكاء، والحرص على الأسرة، والولاء المطلق، وتكريس السلطة للعائلة والمقرّبين. كلاهما جاء من بيئة مهمشة، وشق طريقه عبر المكر والعنف لبناء سلطة مطلقة.
وينسحب التشابه على الأبناء: سوني كورليوني بطباعه الانفعالية يشبه ماهر الأسد، وفريدو الضعيف المهمّش يشبه مجد. كلاهما استُبعد عن “شؤون العائلة” بقرار الأب.
تحوّلات في السلطة:
نظر حافظ الأسد إلى الحكم كإرث شخصي، وسخّر مؤسسات الدولة لترسيخ سلطته، تمامًا كما فعل دون كورليوني. في الفيلم، كان سانتينو هو الوريث المفترض، لكن مقتله فجأة أدّى إلى انتقال الزعامة لمايكل. هذا يشبه انتقال الحكم من باسل الأسد إلى بشار، إثر موت الأول المفاجئ.
لحظات الضعف وسقوط الجبروت:
في أحد أقوى مشاهد “العراب”، ينهار دون كورليوني باكيًا أمام جثة ابنه، في لحظة إنسانية تُسقط الجبروت. مشهد شبيه حدث حين اختلى حافظ الأسد بجثة باسل، كما روت بثينة شعبان، وهي لحظة كشفت أثر الفقد على صحة الأب وقراراته اللاحقة.
الحنكة السياسية:
نجح فيتو كورليوني، كما حافظ الأسد، في تثبيت سلطته وسط تحالفات مضطربة، مثل توقيع حافظ لاتفاقية “أضنة” مع تركيا عام 1998. التنازلات الإستراتيجية كانت في الحالتين وسيلة للبقاء في الحكم وتهيئة الأرض للتوريث.
أزمات ما بعد التوريث:
خيانة سال تيسيو لمايكل كورليوني بعد التوريث تُشبه انشقاق عبد الحليم خدام بعد سنوات من حكم بشار. وكذلك انتحار فرانكي دراكسون لمنع إفشاء الأسرار يقابل انتحار غازي كنعان الغامض، بعد استدعائه للشهادة في قضية الحريري. ومقتل الصهر كارلو يقابل مقتل آصف شوكت، زوج بشرى الأسد، في تفجير خلية الأزمة عام 2012.
النهاية:
تُختتم سلسلة “العراب” بمشهد جنازة مهيبة لفيتو، كما حصل مع حافظ الأسد. لكن الجزء الثالث من السلسلة يُظهر مايكل كورليوني معزولًا ومجردًا من السلطة. فهل تكون نهاية بشار مشابهة؟ على الرغم من نجاح حافظ في التوريث، فإن ضعف شخصية بشار السياسي جعله عاجزًا عن الحفاظ على إرث والده، وأدى ذلك إلى تفكك الدولة، وسقوطها في دوامة مأساوية.
خاتمة:
ربما لم يخطر ببال حافظ الأسد أن فيلمًا مثل “العراب”، بما فيه من شخصيات خيالية، سيكون مرآة لتفاصيل خفية في قصة عائلته وحكمه. السياسة تُحاك خلف أبواب مغلقة، والمواطن السوري لم يرَ سوى الواجهة الرسمية وسماع الروايات المتضاربة. أما بشار، فلم يكن مايكل، بل ظل عالقًا بين تهور سوني وضعف فريدو، وانتهت محاولته لتقليد والده بكارثة إنسانية وطنية.
وفي حين قدّمت مافيا كورليوني صورة لامعة عن السياسة العميقة للرأسمالية الغربية، فإن مافيا الأسد جعلت من الدولة نسخة قاتمة من المافيا، قائمة على المصالح والنفوذ مقابل استمرار الحكم.
*أحمد عبد الكريم عطفه
حلب، 5 كانون الثاني 2025