إنقاذ سوريا من خطر جدي بالتقسيم و الضياع
إنقاذ سوريا من حروب طائفية لا تنتهي في وقت قريب, و إنقاذها من التخلف على المدى البعيد
لا داعي للعودة هنا إلى التاريخ لتتبع المسار الذي أوصلنا إلى هنا, لكن يكفي الإعتراف بأن الهوية السورية هوية هشة
كل ذلك بعني عملياً إنقاذ سوريا من سلطة محاربي الشمال و (جَلَقهم) السياسي الذي جاء معهم
لا بد أولا من المرور بحقائق أثبتها الواقع و أكدتها و تؤكدها الأحداث
أولاً- لم يكن محاربو الشمال ( هيئة تحرير الشام و حلفاؤها ) هم من حرر سوريا من نظام الأسد بالسلاح و العمل العسكري كما يجري الترويج له من قبل إعلام هذه السلطة نفسها, بل هناك ما هو غير معروف حتى الآن (فجوة غموض) في فهم و تفسير ما حدث, و هناك أدلة من الواقع على وجود هذه الفجوة الغامضة: فهذه الفصائل لا تنتمي إلى الثورة السورية بل عملت بالتوازي مع نظام الأسد على إنهاء الثورة عسكرياً بدءاً من عام 2012 ثم تحولت إلى إقطاعيات عسكرية متحاربة تسيطر كل منها على منطقة تفرض فيها الضرائب و تجمع الثروة و قد تحولت معاركها العسكرية مع النظام السابق – على قلتها و تباعدها زمنياً - إلى مجرد دفاع عن مناطق النفوذ تلك و ليست أعمالاً عسكرية بهدف تحرير سوريا
و من جهة أخرى, و بعد سقوط النظام, لم تستطع هذه الفصائل مواجهة (فلول النظام) في الساحل فقد لجأت إلى إعلان النفير السني العام و تدخل عشرات و ربما مئات ألوف المدنيين المسلحين لإعادة السيطرة على الساحل, فكيف تستطيع هزيمة النظام كله و تعجز عن مواجهة بقاياه؟ كيف تخسر مئات العناصر في مواجهة هذه البقايا و تخسر أقل من ذلك بكثير في مواجهة النظام كله؟. كيف نستطيع بعد هذا أن نصدق أن هذه السلطة نفسها من محاربي الشمال قد انتصرت على النظام السابق و أسقطته خلال عشرة أيام؟؟
ثانياً- لقد فهم محاربو الشمال بشكل خاطئ موجة الفرح العارم التي اجتاحت سوريا بسقوط النظام السابق, لقد كان ذلك فرحاً بسقوط النظام و لم يكن فرحاً بوصولهم إلى دمشق, كان ذلك فرحاً بانتهاء نصف قرن من الظلم و القهر و لم يكن فرحاً بظهور الملثمين ذوي الللحى الطويلة و الشعر الطويل في شوارع دمشق. لقد قدّموا أنفسهم على أنهم محررين و قد تم قبول هذه المقولة على نطاق واسع خلال موجة الفرح و الأمل خصوصاً و أن ذلك ترافق مع خطاب إعلامي مقبول من هؤلاء المحاربين ليتضح أخيراً أنه مجرد خطاب يهدف إلى تسهيل طريقهم إلى السلطة لا أكثر
ثالثاً- أطنب إعلام سلطة محاربي الشمال بالإنجازات السياسية على المستوى الإقليمي و الدولي و ردّ ذلك إلى كفاءة و (ذكاء) هذه السلطة و بالتالي إعطاءها صفة الإنجازات, لكن الحقيقة خلاف ذلك تماماً: فكل تلك (النجاحات) السياسية, من لقاءات و تفاهمات و اعتراف و رفع للعقوبات أو الشروع برفعها, هي رغبة تلك الأطراف الخارجية في توجيه تطورات المنطقة عموماً و سوريا خصوصاً بالإتجاه الذي تريد و الذي يخدم رؤيتها لمستقبل المنطقة: فبعض نلك الأطراف يريد التخلص من أزمة اللجوء و التي تحولت إلى أزمة سياسية داخلية عندهم, و البعض الآخر يريد توسيع اتفاقات السلام مع اسرائيل و تقديم مكاسب لها أمنية و سياسية و اقتصادية, و هناك من تلك الأطراف الخارجية من يؤيد سلطة من هذا النوع لقطع الطريق على تحول سوريا إلى بلد ديمقراطي, لأن الديمقراطية في هذه المنطقة مُعدية و تشكل خطراً على المحيط. و الأمر الأكيد بالنسبة لكل هؤلاء هو أن انتقال سوريا إلى الديمقراطية ممنوع
رابعاً- بدا واضحاً أن هذه السلطة و بهدف اكتساب و الإحتفاظ بشرعية شعبية تعتمد كلياً على حقيقة أن أكثر السوريين هم من الطائفة السنيّة, و أن هذه الطائفة قد تعرضت لظلم تاريخي امتد لأكثر من نصف قرن و انتهى إلى ارتكاب المجازر بحقها في السنوات الأخيرة و تقدم السلطة الحالية نفسها على أنها انتصار لهؤلاء المظلومين و لذلك هي تعمل باستمرار لتغذية و تقوية الخطاب الطائفي السنّي الذي يضمن لها القاعدة الشعبية و الاستمرار بالإضافة إلى كونه مشتقاً من الأيديولوجيا السلفية الجهادية التي يحملها محاربو الشمال, و قد تعدى الأمر مسألة الخطاب إلى الإقصاء الطائفي ثم ممارسة القتل الطائفي و التشجيع عليه الأمر الذي أدى إلى ظهور خطابات طائفية مضادة عند الطوائف الأخرى. و رغم الخطاب الرسمي الزائف الذي يتعالى على الطائفية إلا أن الممارسات في الواقع تأخذ سوريا باتجاه التمزق و التفتت. و لا يبدو حتى الآن أن هؤلاء معنيون بالحفاظ على وحدة سوريا و يعملون لأجلها بقدر ما يعتبرون سوريا غنيمة حرب يتقاسمونها و يستبيحون المال العام و المناصب. هم لا يحملون مشروعاً وطنياً لكنهم يحملون جوعاً ألى السلطة والثروة يجعلهم يقدمون للأطراف الخارجية كل ما تريد بهدف البقاء و الاستمرار
كل ما سبق يضعنا أمام واقع يقول أن هؤلاء غزاة و ليسوا أصحاب مشروع بناء دولة عصرية ديمقراطية, بل ان هذا الواقع اليوم يقول أن هؤلاء ماضون في تدمير سوريا, فهل انقاذ سوريا اليوم ممكن؟
هو صعب لكنه ممكن
هو صعب لأنه من حيث المبدأ مهمة السوريين و السوريين فقط. مهمة النخبة السورية التي لا تعمل حتى الآن بكل طاقتها, بل إن بعض من يعتبرون من النخبة المثقفة قد سقطوا في الحرب الإعلامية الطائفية,و لأن الجهود حتى الآن فردية مبعثرة
هو صعب لأنه يقاوم إرادة دولية داعمة لسلطة الأمر الواقع و ليست معنية بسوريا كوطن لكل السوريين تحكمه الديمقراطية و عدالة القانون, إرادة دولية سخية بالدعم السياسي و الإعلامي لسلطة هي طوع بنانها
هو صعب لأن المجتمع السوري تنقصه الثقافة الوطنية الجامعة, ينقصه الوعي و لهذا هو هدف سهل للتحريض الطائفي و المناطقي, تسهل قيادته بالغريزة الطائفية و يسهل تقسيمه ووضعه في مواجهة نفسه حتى الشلل الكامل
و يزداد الأمر صعوبة مع تعالي أصوات الرغبة في الإنفصال عن سوريا في السويداء و بوادر رغبة مماثلة في الساحل, الأمر الذي يعني أن جبهة المعارضة الحالية لسلطة الأمر الواقع في دمشق قد انحدرت بموقفها السياسي إلى مستوى السلطة نفسها. السويداء تخلت عن تاريخها الوطني المشهود بعد الجرائم التي ارتكبتها السلطة هناك و التي – أي السلطة- تتحمل المسؤولية الأكبر عن هذا التدهور الخطير, إذ أنها قد دفعت بأهالي السويداء إلى قبول المقايضة الإسرائيلية المعروضة عليهم: الحماية مقابل السير باتجاه الإنفصال, دفعتهم إلى المفاضلة بين السيء و الأسوأ و بهذا نكون قد خسرنا رافعة هامة من روافع المشروع الوطني السوري و لو كانت سلطة الأمر الواقع, سلطة محاربي الشمال, سلطة الشرع-الجولاني تمتلك مشروعاً سورياً وطنياً لذهبت فوراً إلى حوار واسع يشمل الجميع و يشكل مساراً لبناء الثقة و بالتالي وحدة البلاد, بل لو كان لديها مشروع من هذا النوع لما انحرفت أصلاً بالمسار العام من اتجاه بناء الدولة إلى اتجاه بناء السلطة
لكن الإنقاذ ما زال ممكناً
هو ممكن إذا عمل السياسيين الوطنيين على تشكيل كتلة أو كتل سياسية معارضة ذات حضور و تتحدث باسم الشعب السوري كله و تطرح مشروعاً سياسياً وطنياً جامعاً يكون أساسه المواطنة و الديمقراطية و يشكل بديلاً عن المشروع الديني الإقصائي القائم اليوم
هو ممكن إذا عمل هؤلاء على اطلاق مبادرة حوار وطني حقيقي يشمل ممثلين عن كل المحافظات السورية و كل الأديان و الطوائف و الإثنيات لوضع ثوابت وطنية و لا يتم الإكتفاء بمؤتمر عابر كالذي حدث في الحسكة, بل يجب أن يكون حواراً مستمراً وتراكمياً
هو ممكن إذا ارتفعت سويّة التنسيق بين الجزيرة و الساحل و الجنوب كمّاً و نوعاً للوصول إلى جبهة حقيقية واسعة للمعارضة على أساس وطني و تأمين الدعم للمعارضين من محافظات الداخل و هم ليسوا قلة قليلة
وهو أيضاً ممكن بالعمل الإعلامي الجدّي المكثف لكشف زيف الخطاب الوطني الشكلي للسلطة و الذي يتناقض مع سلوكها الأيديولوجي الإقصائي المتطرف في الواقع و شرح مخاطر هذه المرحلة و خطورة المسار الذي تسير فيه السلطة الحالية. و قد بدأ هذا النشاط الإعلامي فعلاً بالتطور و يزداد تأثيراً يوماً بعد يوم في كشف الحقائق و وضعها أمام عموم الناس. كما يجب التوقف عن مجاملة السلطة و معارضتها بعبارات منمقة و مدوّرة أملاً بتغيير يحدث داخلها فمن جهة, الأمل بتغيير من هذا النوع معدوم. و من جهة أخرى, ليس أمامنا الكثير من الوقت لأن مسار الإنهيار يتسارع
هو ممكن أيضاً بالتنسيق و التكامل بين الحقوقيين في داخل سوريا و خارجها لتشكيل ملفات قضائية لملاحقة مجرمي هذه السلطة بكل مستوياتها و التعاون مع المنظمات الحقوقية العالمية فهناك منظمات غير واقعة تحت تأثير السياسة و يمكن أن تلعب دوراً داعماً بهذا الشأن.
*رائد الصفدي
----------------------------------------------------------------
*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]