السياسة الدولية تُدار تمامًا كالمطاعم الفاخرة: تُقدَّم لك "المقبلات" مجانًا — كلمات دافئة، مؤتمرات تلميع، ووعود رنانة عن الديمقراطية، المصالحة، وحقوق الإنسان — فتشعر وكأنك ضيف شرف في حفل عشاء أممي، حيث الشموع تلمع والنيّات طاهرة كإعلان نوايا على ورق زبدة. لكن ما إن تنتهي من التهام الخطاب الجميل، حتى تُفاجأ بالنادل — عفوًا، المبعوث الدولي — يضع أمامك الفاتورة، مكتوب في زاويتها السفلية بخط دبلوماسي رقيق: "الثوم، البقدونس، والسُكّر برسوم إضافية، وقد تم احتساب الضريبة على أحلامكم أيضًا".
في هذا العرض المسرحي، المقبلات هي الابتسامات المصطنعة، والثوم والبقدونس هم بنود مخفية: قواعد اشتباك جديدة، إعادة توزيع الولاءات، وتوقيعات على عقود لم تُترجم بعد. أما "الحلوى"، فهي مشروطة بموافقة لجنة الطهاة السياديين في باريس وواشنطن… وبإجابتك عن سؤال اختياري: هل تعترف بإسرائيل أم تكتفي بالتصفيق؟
والأدهى أن "البقشيش الإجباري" لا يُدفع نقدًا، بل يُخصم من السيادة، الكرامة، وخريطة الوطن.
الحنان الدولي الذي يُغدَق علينا هذه الأيام يصلح لفيلم درامي طويل من إنتاج هوليوود. فرنسا تدعو إلى "حوار سوري شامل" وكأنها ترعى جلسة مصالحة في إحدى قرى النورماندي، وأمريكا تُشيد بـ"التقدم" وكأن الكهرباء عادت إلى كل بيت، لا لأن المولّد اشتغل! أما منظمة أطباء بلا حدود، فتتوسع وكأنها تفتتح فروعًا جديدة في حي راقٍ، وليس في مناطق منكوبة بالكاد تجد ماءً ودواء. فجأة، أصبح الجميع مهتمًا بـ"وحدة سوريا واستقرارها"، كأن السويداء تحوّلت إلى عاصمة الكون، أو كأن النفط اكتُشف تحت قلعة صلخد!
لكن – وأرجوك انتبه هنا – لا يوجد شيء اسمه تعاطف مجاني في السياسة. فحين تُربّت واشنطن على كتفك، فاعلم أن يدًا أخرى تُقلّب الملفات، وحين تبتسم باريس، فربما تُحضّر فاتورة. كل هذا الدفء الغربي لا يأتي عبثًا، بل هو غالبًا تمهيد لمائدة مفاوضات يدفع ثمنها المواطن، بينما يتقاسم الآخرون الأرباح والنفوذ.
ثم أضحك، وأضحك كثيرًا، حين يصبح الحديث عن "دمج المؤسسات" أهم من دمج الأطفال في مدارسهم، وعن "آليات الحكم المحلي" بينما الحكم الحقيقي صار بيد المولّد، ذاك الجهاز الصغير الذي يدير الحيّ بمزاجه، ويمنح الكهرباء كأنها منحة سماوية، ويحظى باحترام أكثر من مجلس الشعب نفسه. صرنا نناقش السيادة في المؤتمرات، بينما المواطن يناقش: "كم ساعة بتجي الكهربا اليوم؟".
وفي خضم كل هذه الأحداث، ظهرت "مبادرة المئوية السورية"، لا هي حزب ولا تيار ولا حتى فرقة إنشاد وطني، بل مجموعة نوايا طيبة تطالب بـ"إعادة تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم" و"بناء دولة مدنية". كلام جميل. لكننا جربنا النوايا كثيرًا… بعضها ينتج دستورًا، وبعضها ينتج لاجئين.
وما زاد الطين كهرباء – أو انقطاعها – أن كل هذا الحراك الدبلوماسي "الحسّاس" يجري بينما تُعزف سيمفونية محادثات "تاريخية" بين الحكومة وقسد، برعاية باريس العاطفية، وابتسامة واشنطن العريضة، وتصفيق أنقرة المتردد من خلف الستار. المشكلة؟ أن قسد نفسها لا تتفق مع قسد! أحدهم يريد اندماجًا فوريًا، وآخر يشترط الكهرباء أولاً، وثالث مشغول بإعادة ترتيب المكاتب قبل تسليمها. وفجأة، أصبحت "وحدة الصف" مسؤولية الحكومة وحدها، وكأنها في سباق وحدها على مضمار من الألغام، بينما الآخرون يكتفون بالعزف على وتر "الحقوق" و"الخصوصية"، أو على الزناد إذا لزم الأمر.
لكن، رغم كل هذه الفوضى المنظمة، لدي يقين: هذه البلاد، التي قاومت الزلازل والبراميل والخذلان، لن تنكسر. لأن فيها من بقي، ومن بنى، ومن ما زال يؤمن أن سوريا لا تحتاج من "ينقذها"، بل من يتوقف عن العبث بها. نحتاج مسؤولين بحجم الجرح، ومؤسسات بحجم التحدي، ونقاشًا وطنيًا صادقًا لا "ترندًا" عمره 24 ساعة.
نعم، الدولة اليوم تنهض من بين الركام، وتعيد ترتيب بيتها من الداخل، والمرحلة صعبة، والمخاطر كثيرة، لكن الرهان الحقيقي هو على السوريين أنفسهم. على عقلهم الذي تعب، لكنه لم يُهزم. على قلوبهم التي نزفت، لكنها ما زالت تنبض باسم الوطن. وعلى جيش من الإداريين، والعسكريين، والمواطنين العاديين الذين ينهضون كل صباح ليحاولوا مجددًا.
سوريا ليست بحاجة إلى أعجوبة… بل إلى صدق. لا إلى مُخلص، بل إلى مؤسسات. لا إلى من يقول "أنا لها"، بل إلى من يقول: "دعونا نبنيها معًا". وإن كان لا بد من الحب… فليكن من أهلها، لا من نشرات الأخبار.
-----------------------------------------------------------------------
*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]