في دمشق، حيث ما زال غبار الحرب يلتصق بجدران الأبنية المهدّمة مثل غبار الصيف على نافذة قديمة، يجلس الرئيس الشرع على مكتبه، يوقّع القرارات وكأن الزمن لم يتوقف، يطلق مشاريع للكهرباء والمياه كأن المعجزات تحوّلت إلى إجراءات روتينية. الموظفون يعقدون اجتماعات حول "خطط التنمية" بينما من شباك القاعة تطلّ أبنية نصفها ركام. المفارقة مضحكة حدّ البكاء، لكن هذا هو المعنى الحقيقي لدولة تنهض من تحت الأنقاض.
في حلب، ما زالت رائحة البارود عالقة في هواء المدينة، لكن المحاكم فتحت أبوابها، والناس يتزاحمون لتسجيل معاملات الزواج والطلاق. في إدلب، القاعات الجامعية ما زالت تحمل ندوب الشظايا، لكن الأساتذة يشرحون والطلاب يكتبون، كأن الطباشير أقوى من الرصاص.
في حمص، تدور عدادات المياه من جديد لأول مرة منذ سنوات، والناس يضحكون لرؤية الأرقام تتقافز وكأنها تبشّر بعودة الحياة. في حماة، السوق الشعبي ينبض، الخضار تُرصّ بجانب جدران نصفها ساقط، والبهارات تفوح كأنها تغطي على رائحة الحرب.
أما في دير الزور، فالمشهد يختصر الحكاية: طفل يعبر جسراً مهدّماً نصفه، حقيبته على ظهره، وابتسامته تزن أكثر من صراخ سياسي في مقهى بباريس. وأمّ تخبز على نار الحطب بعدما وصلها الطحين لأول مرة منذ سنوات، فتضحك من قلبها كأنها انتصرت في معركة شخصية ضد الحصار. تلك الابتسامة وحدها تسكت ألف مقالة غاضبة يكتبها المرجفون من شققهم المكيّفة في عواصم أوروبا.
في درعا، أن تستلم رسالة بريدية مختومة من مكتب أعيد افتتاحه، فهذا حدث يوازي عيدًا وطنيًا. في سراقب، أن تفتح مدرسة أبوابها مجددًا وتدخل الأطفال صفوفها رغم الجدران المتصدعة، فهذا إعلان ولادة جديدة. في ريف اللاذقية، الحافلات القديمة تسير بخطوطها المتسارعة، والناس يجلسون على مقاعد ممزقة لكنهم يبتسمون كأنها مقاعد الدرجة الأولى.
المرجفون ما زالوا يثرثرون: "فقاعات إعلامية، لا نجاح هناك". لكن المواطن الذي يعيش التفاصيل يضحك ساخرًا منهم وهو يزرع شجرة زيتون جديدة في معرة النعمان، أو يوقّع عقد إيجار في بلدية أعيد فتحها في أريحا. هؤلاء المرجفون لا يرون أن المستشفى في جسر الشغور أعيد تشغيله، ولا أن جامعة حلب تحتضن طلابها من جديد، لأنهم لا يعيشون بين الناس بل في أوهام نشراتهم المعلّبة.
المعجزة ليست بناء حجر فوق حجر، بل إعادة الروح إلى النفوس: أن يشعر السوري بدفء بيته حتى لو تشقّقت جدرانه، أن يضحك وهو يدفع فاتورة كهرباء رسمية في دير الزور، أن يشرب ماء نظيفًا من محطة مياه في حمص، أن يسمع الأذان يعلو فوق رائحة البارود في قرى حماة، أو أن يسمع صفارة الحكم في ملعب عاد ليستقبل اللاعبين بدل صفارات الإنذار.
وهكذا، بينما المرجفون يواصلون البكاء على الأطلال من بعيد، يبني السوريون دولتهم وسط الغبار. دولة تعرف السخرية، وتحب الضحك، وتواجه المستحيل بابتسامة. ابتسامة واحدة في دير الزور تكفي لإسكات كل صرخات العجز في باريس.
------------------------------------------------------------------
*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]