القطبية الدولية وسوريا الوظيفية -الجزء الأول- بقلم: د.مصطفى حسين بطيخة

مقالات واراء

03.09.2025 | 09:21

القطبية الدولية تعني أن تستطيع دولة أو عصبية ما دينية أو قبلية أو ايديولوجية (راجع مقالي السابقين في جريدة زمان الوصل حول مفهوم العصبية) أن تملك القوة الكافية لأن تفرض سيطرتها على جزء كبير من العالم.

فعلى سبيل المثال لا الحصر -وفي أواخر الخمسينيات من القرن الماضي كما سنبين - تشكل قطبان أحدهما رأسمالي بزعامة أمريكية والثاني شيوعي يرأسه الاتحاد السوفيتي. إن أهم مايميز القطبية الدولية هو إنشاء دول وظيفية تخدم كل قطب.

العالم هنا يشبه شركة لها مدير عام يملك استراتيجة معينة وموظفون يختلفون بدرجاتهم ورواتبهم -فحتى الدول الوظيفية لها مراتب- ولكنهم جميعهم يأتمرون بأمر هذا المدير القطب لتحقيق استراتيجيته، وعند خلل الموظف بوظيفته أو تمرده يتم الاستغناء عن خدماته أو إحالته للتقاعد، وهكذا هي الدول. إن مفهوم القطبية الدولية والدول الوظيفية ليست حديثة بل قديمة،

ففي منطقتنا العربية وقبل الإسلام كان هنالك قطبان هما الفرس والروم وكانت لهما ممالك وظيفية كتدمر وبتراء الأنباط والمناذرة والغساسنة، وكانت لهذه الممالك وظائف أولها عسكري يتمثل بتشكيل درع ضد هجوم القطب الآخر أو حلفائه،

والثاني اقتصادي وهو ضمان طرق التجارة الخاصة بالقطب السيد، وعندما تحاول إحدى الممالك الخروج عن دورها الوظيفي كانت تُدَمَّر من قبل سيدها القطب نفسه، كالقضاء على مملكتي تدمر والبتراء من قبل الرومان وقتل النعمان بن المنذر آخر ملوك المناذرة من قبل الفرس.

كل هذا كان قبل ظهور العملاق الإسلامي الذي أعلن نفسه قطباً جديداً، لا بل سيداً. لقد كان لإرسال الرسول العربي الكريم برسله إلى أسياد المنطقة (النجاشي و المقوقس و هرقل و كسرى) إعلاناً منه بخروج المنطقة العربية من التبعية الوظيفية لجميع الأقطاب، بل زاد على ذلك بدعوتهم لاتباع الإسلام، أي أنهم هم من عليهم أن يخضعوا له ويعلنوه سيداً عليهم. وبالقضاء على القطبية الفارسية بعد معركة القادسية،

صار للعالم قطبان جديدان هما الامبراطورية الإسلامية التي امتدت في عهد الوليد بن عبد الملك من حدود الصين إلى جبال البيرنيه على حدود فرنسا والقطب الآخر هو الغربية المسيحية.

إذا عدنا إلى سوريا -وسأتناول في هذا المقال السياسات الخارجية حيث أنني أفردت في مقال سابق في جريدة زمان الوصل بعنوان (الاستبداد والعصبيات: قصة سورية) حديثاً عن السياسات الداخلية- فإننا نتحدث عن مابعد الحرب العالمية الأولى وتشكل مايعرف بسوريا الكبرى مع اتفاقيات سايكس بيكو ومن ثم سوريا بحدودها النهائية بعد سلخ لبنان في العام 1920 من قبل الجنرال الفرنسي غورو.

لقد كان الصراع الاقتصادي حينها بين الأقطاب الأوروبية، وكان هنالك قطبان عالميان هما فرنسا وبريطانيا والذين استمرت قطبيتهما لما يتجاوز قرناً ونصف وكانا متصارعين كأي قطبين عالميين ويكفي أن نعلم أن استقلال أمريكا الشمالية كان بدعم القطب الفرنسي ضد القطب البريطاني. وتعتبر الحرب العالمية الثانية استمراراً للصراع الأوروبي على القطبية العالمية، ولكن هذه الحرب أنتجت المارد الأمريكي كقطب نووي اقتصادي لم تطحنه الحرب كما أوروبا، أخذ في فرض شروطه على العالم وإعادة تشكيل الدول الوظيفية التي تخدمه وكانت المنطقة العربية و منها سوريا ضمن هذا التشكيل.

كانت بريطانيا تصارع أمريكا في القطبية على المنطقة آنذاك لذلك كانت الانقلابات العسكرية وتشكيل الأحزاب في المنطقة وصراعها انعكاساً للانحياز الوظيفي لأحد القطبين، وكذلك كانت اسرائيل منحازة بشكل كامل للقطبية البريطانية التي شكلتها وزرعتها في المنطقة كدولة وظيفية ذات عصبية دينية يهودية تهدف إلى ابتزاز البحر العصبوي السني.

لقد تمثل الصراع على أشده بتشكيل محوري حلف بغداد البريطاني ومحور السعودية-مصر الأمريكي. لقد كان انتصار مصر عبد الناصر السياسي في حرب العام 1956 بدعم أمريكي بمثابة إعلان لنهاية القطب البريطاني واستلام القطب الأمريكي المنطقة وبالتالي سوريا، حتى اسرائيل يومها أعلنت خروجها التام من عباءة القطب البريطاني إلى القطب الأمريكي بعد هذه الحرب.

بانهيار القطب البريطاني أخذ القطب السوفيتي يحل محله بمحاولة استقطاب دول وظيفية في المنطقة مستفيداً من الدعم الأمريكي المطلق لاسرائيل العدو، وهنا بدأت التغيرات السياسية للدول الوظيفية في المنطقة، فعبد الناصر وانجرار سوريا للوحدة معه في العام 1958 كان بمثابة انتقال هاتين الدولتين للقطب الشيوعي الذي ساهم بتمويل وبناء السد العالي في مصر وكذلك اتفاقيات سد الفرات في سوريا، وكذلك كان انقلاب عبد الكريم قاسم في العراق في نفس العام.

لقد كانت الانقلابات البعثية في العام 1963 في العراق و سوريا معاً هي عودة للقطب الأمريكي. مع هزيمة حزيران 1967 بدأت سوريا صلاح جديد وعراق أحمد حسن البكر تعود إلى القطب السوفيتي مع عبد الناصر ضد اسرائيل، ومع وفاة عبد الناصر ومجيء السادات و انقلاب حافظ الأسد في نفس العام (1970) تمت عودة مصر وسوريا للقطب الأمريكي، وسوف يتبعهم عراق صدام حسين متأخراً العام 1979 في نفس السنة الذي انتقلت ايران إلى القطب السوفيتي بانقلاب اليساريين والشيعية الخمينية على الشاه الأمريكي القطبية. ولاننسى أنه في العام نفسه تم توقيع اتفاقية كامب ديفيد وإعلان مصر نهائياً الولاء لأمريكا.

يبدو أن العام 1979 هو عام التحولات الكبرى على مستوى الانتماءات القطبية في المنطقة بهذه الأحداث الثلاث، و لاننسى أن حرب حافظ الأسد مع الأخوان المسلمين بدأت في نفس العام.  إن هذا التزامن في تواريخ انقلابات المنطقة الجذرية لدليل واضح على فواصل تاريخية لانتقال الدول الوظيفية في المنطقة من قطب إلى آخر، وكذلك الأمر في سقوط الأسد.

لقد كان انقلاب حافظ الأسد ضد صلاح جديد انتقالاً واضحاً بسوريا للقطب الأمريكي بمهام وظيفية ثلاث، الأولى تتمثل بالسلام المستدام مع اسرائيل من خلال معاهدة فض الاشتباك العام1974 وبالتالي التنازل عن الجولان السوري ولو بشكل غير رسمي، والثانية القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية بدخول القوات السورية للبنان العام 1976، والثالثة شق الصف العربي من خلال التحالف مع الشيعية الخمينية أثناء حربها مع العراق المدعوم عربياً.

إن هذه الوظائف نفسها نفذها السادات ولكن الأخير حصل على سيناء بعكس حافظ الأسد. مع بدء انهيار القطب السوفييتي العام 1988 -والذي أنهكته دوله الوظيفية دون جدوى اقتصادية أو سياسية منها بل بديون مالية تنازل عنها- و انهيار جدار برلين العام 1989 تم إعلان القطب الأمريكي قطباً أوحداً في العالم.

من هنا كان لابد من إعادة ترتيب الوظائف في الشركة العالمية الأمريكية والتخلص من بعض الموظفين منتهي الصلاحية والمزعجين. في العام 1990 قررت أمريكا تدمير دولة العراق الوظيفية المنتشية بالنصر على جارتها إيران. إن نشوء قوة محلية كالعراق عسكرية واقتصادية بنفطها، وذات الإرث التاريخي وفيها الحضارات الأولى في العالم، ناهيك عن الثقل الإسلامي كعاصمة للخلافة العباسية الأطول في الإسلام، جعل من القطب الأمريكي يسعى للتخلص منها بنفسه.

يبدو أن الغرور اللحظي للدولة الوظيفية -والعراق مثالاً- يجعلها عرضة للتدمير من القطب السيد مباشرة كما حدث مع تدمر. لقد أدى ذلك إلى ترقية حافظ الأسد في وظيفته فماكان يعطى للعراق تحول له وهو الذي أرسل جيشه للعراق لإثبات حسن النية وليس للحرب، فتم تسليمه ملف لبنان كاملاً، وفاضت عليه أموال الخليج، كانت وظيفته هذه المرة هي ضبط إيقاع المختلفين في المنطقة كوسيط دون الانتصار لأحدهم.

لقد استقبل جميع جدليات المنطقة، فرحب بإيران وأصبح يحمل الرسائل بينها وبين أمريكا والخليج واسرائيل، ورحب بحزب العمال الكردستاني فأصبح ضامناً له مع تركيا، واستقبل حماس والجهاد الإسلامي و أصبح وسطاً بينها وبين اسرائيل عبر أمريكا، وكذلك فعل مع حزب الله في لبنان، ومع كل رسالة أو وساطة كان حافظ الأسد يُكَافَأ عليها، وقد أعجب ذلك القطب الأمريكي.

كان حافظ الأسد حينها يلعب الدور القطري الحالي والذي نراه يدخل وسيطاً لكل مشكلة عالمية وعلى أرضه يجتمع جميع الفرقاء. لقد تخلى بشار الأسد عن الدور الوظيفي الهام لحافظ الأسد وقام بنقله لإيران بمنتهى التعجرف الصبياني والغباء الأحمق، فأصبحت هي المتحكمة بالشأن اللبناني والفلسطيني والسوري بعد أن كان حافظ الأسد لاجماً لها وبدأ الدور الوظيفي لسوريا بالتراجع.

مع قدوم العام 2000 وصقور البيت الأبيض (تشيني، رامسفيلد، رايس) في عهد بوش الابن بدأ تطبيق نظرية الفوضى الخلاقة والتي تقوم على مبدأ أن الفوضى في دول الشرق الأوسط الاستبدادية هي التي ستأتي بالديمقراطية.

في الحقيقة كانت أمريكا تهدف إلى زرع الفوضى الخلاقة ولكن ليس من أجل الديمقراطية وإنما زيادة في الاستبداد والابتزاز الاقتصادي للمنطقة.

هنا تغيرت أدوار الدول الوظيفية فأصبح دور ايران الوظيفي هو صناعة الفوضى وإشعال السعار العصبوي الشيعي السني بعد تدمير العراق الصدامية السنية العام 2003 واتهام ايران الشيعية بالمشاركة في ذلك.

نستطيع القول أن الموت السريري للنظام الأسدي قد بدأ منذ ذلك العام بتزعم ايران ذات العصبوية الشيعية مايسمى بمحور المقاومة بعد أن كانت الوظيفة في ذلك لحافظ الأسد، فخرجت سوريا من لبنان العام 2005 واستلمت ايران الملف اللبناني من خلال حزب الله وكذلك الملف الفلسطيني من خلال حركتي الجهاد الإسلامي و حماس وسوف تستلم ايران اليمن من خلال حركة الحوثي، وبحلول العام 2011 سيكون لإيران اليد الطولى في كل دول المحور.

تم إحلال الفوضى والفساد في كل الدول التي سيطرت عليها ايران وكان أهم مايطبعها حلول الحركات المليشياوية بدل الدولة وهذا هو عين الفوضى التي أرادتها أمريكا، واستمر الوضع حتى العام 2024 مع إخراج إيران من سوريا بعد تجاوزها دورها الوظيفي بأحداث 7 اكتوبر العام 2023.

بعد هذا السرد لوظائف دول المنطقة والقطبية الدولية التي توالت عليها يجب السؤال: ماالعبر التي يجب على سوريا أن تأخذها بالحسبان؟

هذا ماسيتم مناقشته في الجزء الثاني من المقال.

Mustafa_Batikha

د.مصطفى حسين بطيخة

 

---------------------------------------------------------------------

*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع

*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]



Contact
| إرسال مساهمتك | نموذج الاتصال
[email protected] | © 2025 syria.news All Rights Reserved