صحافة الخيام..

03.05.2025 | 01:34

عندما زرت الـ"بي بي سي" في أول دورة تدريبية لي في العام 2004 تشكل لدي حلم أن اؤسس مؤسسة مشابهة في سوريا..

وعملت المستحيل حتى افتتحت مقرا كنموذج مصغر (جدا) عن غرفة اخبار ال"بي بي سي" التي شاهدتها في تلك الزيارة.. واسميتها سيريانيوز.

حققنا نجاحاً لا بأس به بين العام 2005 و2011 رغم كل الصعوبات والعمل في بيئة أمنية قمعية تعرضت خلالها للاعتقال مرتين..
كنت أول "المنشقين" في الجسم الإعلامي خرجت من سوريا في 29 نيسان عام 2011 لأني رفضت أن أخرج على تلفزيون النظام وأظهر موقفاً لا إنسانياً مؤيداً للقمع والقتل..

وأصبحت منذ ذاك الحين صحفيا لاجئا انتقلت من العمل في مكتب مساحته 350 متر يعمل به 60 صحفي إلى، صحفي في الغربة يعمل في البيت..

أنا مثلي مثل كل السوريين الذين هجروا.. حملت حياتي من وطني إلى "الخيمة"..

عانيت مثلهم طوال السنوات الـ14 الماضية وأنا أعمل من "خيمتي".. 

وتحقق الحلم وسقط الأسد.. 

بطبيعة الحال لن يكون الوضع مثالياً.. أعلم بأني لن استعيد مكتبي وفريقي في شهر أو شهرين أو ربما في عشر سنين لاحقة..

إلى اليوم أنا أعمل من "خيمتي"، جهد فردي، إمكانيات مادية محدودة للغاية، فريق صغير يقوم بمهام شاقة.. في ظرف صعب غير مسبوق، نموذج لم يتكرر في العمل الصحفي ربما في العصر الحديث..

في حالة الفوضى واللادولة والتخبط الحكومي واللايقين السياسي وانعدام كل مقومات الحياة.. يطالبك الجمهور بأن تكون "مهنياً" وتتقيد بمعايير العمل الصحفي المحترف وتصنع محتوى يضاهي ما تصنعه الـ"بي بي سي"!!؟

وذلك دون أن تمتلك الامكانيات دون أن تتوفر الظروف، دون وجود دولة، دون وجود ملامح سلطة واضحة، ودون وجود أي شيء..

تحاول جهدك قدر المستطاع متمسكاً بمهنيتك متحملاً مسؤوليتك مؤدياً واجبك ولا يكون أمامك إلا استنباط طرائق غير مسبوقة لتبقي الصحافة على قيد الحياة.. لأن موت الصحافة اليوم يعني موت السلطة الوحيدة التي ما زالت حية في حياة السوريين.. 

نتعرض يومياً إلى مئات نداءات الاستغاثة، مع عدم وجود الدولة وعدم وجود الامكانيات، مع تعمد السلطة تغييب المعلومات وتمييع الحقائق، ماذا تفعل؟؟

تستنبط، توجد طرائق خارج الإطار الأنيق الذي تدربت عليه في الـ"بي بي سي"!! الناس تصرخ الناس تتألم، تئن.. والسلطة وجمهور السلطة يعلي الصوت من أبواقه ويحاول أن يشوش على صوت الأنين والألم..

في هذا الوسط المجنون غير العقلاني والفوضوي.. تجد نفسك مضطراً لأن توجد طرائق أخرى..

جربنا أن نأخذ الاستغاثة ونركض بها إلى السلطات!

لا يوجد جهات اتصال لا يوجد ردود، لا يوجد ناطق مكتب صحفي، لا يوجد حكومة، ولا يوجد دولة.. يوجد سلطة خفية لا تعلم كيف تعمل وإلى ماذا تهدف..

لا يبقى أمامك إلا أن تأخذ دور مكبر الصوت.. بأن تجعل الأنين الخافت قدر الإمكان صوتاً مدوياً ليهز السلطات الخفية كي تتجاوب مع الصراخ وتتحرك لتخفف الألم.. خوفاً من الرأي العام.

إذا أردتم صحافة مهنية اعطونا وطناً وأعلنوا عن قيام الدولة.. فنحن اليوم لا نعمل في غرفة أخبار فارهة وبناء أنيق.. 

نحن صحافيي الخيام شادر خيمتنا ممزق ننهي عملنا في كل يوم ولا نعلم إذا كنا سنقوى على الاستمرار في اليوم التالي..

وإذا توقفنا لا تفرحوا كثيراً.. ستخسرون آخر سلطة تدافع عنكم وسيفترسكم ذاك الذي "التهم" باقي السلطات، ولن تجدوا وقتها احداً حتى ليستمع إلى أنينكم..!!

 

نضال معلوف

 



Contact
| إرسال مساهمتك | نموذج الاتصال
[email protected] | © 2025 syria.news All Rights Reserved