التائهون .. صفة يطلقها امين معلوف على سكان المنطقة  لقرن قادم من الزمن ..

على ما يبدو ان كل الحروب الاهلية تفرز نتائج متشابهة من حيث تفكك المجتمع وزرع الشقاق بين المجموعات المكونة له وتغذية الكراهية واستثارة الغرائز واختلاط المفاهيم وتغيير الولاءات ..

على ما يبدو ان كل الحروب الاهلية تفرز نتائج متشابهة من حيث تفكك المجتمع وزرع الشقاق بين المجموعات المكونة له وتغذية الكراهية واستثارة الغرائز واختلاط المفاهيم وتغيير الولاءات ..

في التائهون لامين معلوف، الرواية التي كتبها في العام 2001 بعد ان وضعت الحرب الاهلية اللبنانية وزرها بسنوات، يحاول الكاتب ان يفند الاثار التي خلفتها الحرب والبحث فيما اذا كان بالامكان تجاوزها واعادة بناء ما تهدم في العلاقات بين اطياف المجتمع الواحد.

من خلال شخصية "آدم" التي تعود في ظرف اضطراري للبنان بعد هجرة دامت ربع قرن يحاول الكاتب ان يسلط الضوء على كل التشوهات والاثار والجروح والندوب التي تركتها الحرب ويبحث فيما اذا كان بالامكان ان يجد اي نقطة يمكن لاصدقاء الماضي فرقاء اليوم الاجتماع حولها واعادة لم شمل ما تفرق ولو على مائدة عشاء..

ومن خلال محاولات الجمع في الحاضر واستذكار تفاصيل ما جرى في الماضي ، سيدهش القارئ "السوري" خاصة لاوجه التشابه بين الحالة اللبنانية والسورية في الاثار التي تركتها الحرب على كلا البلدين..

سيجد بان الدولة اللبنانية ايضا فقدت خلال الحرب سلطتها المركزية وحكمها الامراء ، امراء الحرب .. الامر الوحيد المختلف هو الاسماء هؤلاء الذين اختاروا لانفسهم اسماءا غربية فيما اختار امراء الحرب عندنا اسماءا اسلامية ..

( في تلك الفترة ، لم يعد في البلد سلطة مركزية ، فظهر في احياء العاصمة واحياء الجبل زعماء محليون، غالبا ما يحملون القابا غريبة، فإلى جانب المدعو "جاغوار" اذكر اني سمعت "رامبو" وعن "زورو" وعن "كيلر" وهن " ترميناتور" وكذلك عن "كلاشن". )

ستقرأ كيف تفسد الحروب الناس وتجعل الاقتتال في النهاية تجارة يسعى اصحابها للربح وجمع السلطة والمال..

(في لغتنا الام، الا يشار الى "محدثي النعمة" باسم "اغنياء الحرب" وتعميما يجدر بنا الحديث عن " وجهاء الحرب" و"سياسي الحرب" و"مشاهير الحرب". ولا تكتفي الحروب بالكشف عن اسوأ غرائزنا، بل تصنعها، وتقولبها، كم من الاشخاص تحولو الى مهربين، وسارقين، وخاطفين، وقتلة، وجزارين، وكان بوسعهم ان يكونو افضل الاشخاص على وجه البسيطة لو لم يتقوض مجتمعهم ..)

ستقرأ عن الارتهان للخارج والارتباط بالقوى الخارجية للتغلب على الخصم الداخلي ولو كان هذا على حساب المصالح الوطنية ولو كانت الافعال والمهام في هذا السياق تؤدي على تنفيذ اجندات اجنبية لا تضمر الخير لشعوب المنطقة

( لا يخفى عليك انه كلما تعرضت اراضينا للاجتياح ، وجد اشخاص من بين ابناء بلدنا يهرعون لملاقاة الغازي ، وتمهيد طريقه ، والالتحاق بخدمته ، والسعي لاستخدامه ضد خصومهم المحليين.)

الرواية مزيج من الدراما والتحليل السياسي والفلسفة العميقة التي تحاول ان تجد اجوبة على اسئلة لا يبدو انه من الممكن الاجابة عليها ، فتطول الحوارات والرسائل لتمتد على طول 500 صفحة يحاول ان يعرض الرواي المتمكن من التاريخ حكاية هذا البلد كمنوذج لبلدان المنطقة من كل الزوايا ويطرح كل الاراء حول ما جرى ..

لا استطيع ان اقول على الرواية بانها شيقة ، وربما لو اني قرأتها قبل العام 2011 لكان تقيمي لها اختلف كثيرا ، ولكنها اليوم تصبح قراءتها ضرورة للافادة من جهد وفكر كاتبها المتميز صاحب الرؤية المستندة الى فهم عميق للتاريخ.

ليست افضل اعمال امين معلوف من النحاية "الفنية"، كقصة تمر في سياق حبكة وتتضمن احداثا غريبة مشوقة مثل صخرة طانيوس وليون الافريقي .. .. ولكني يجب ان اقول بان عرض مضمونها السياسي الجامد الشائك في شكل رواية، هو عمل عبقري يحتاج الى كثير من الاحتراف واتقان لصنعة الكتابة.

يطرح امين معلوف في الرواية افكار مهمة ولو لم نتفق مع بعضها ولكنها تبقى جديرة بالتأمل، لفتني فكرة توزيع مسؤولية الخراب الذي نعيشه وان نلوم انفسنا ايضا لاننا المهزوم ايضا يتحمل المسؤولية  ..

( المهزومون ينزعون دوما لاظهار انفسهم بمظهر الضحايا الابرياء، ولكن ذلك لا يطابق الحقيقة، فهم ليس ابرياء على الاطلاق، انهم مذنبون لانهم هزموا )

 

استطعت ان استنتج بان الكاتب لا يؤيد "الثورة" كمبدأ مسلم به ، وفي اكثر من مكان يمكن ان تشعر بانه - ولو بشكل غير مباشر -  لا يميل الى تأييد الثورات كعامل لاحداث التغيير .. وقبل ان نحكم على موقف كاتب بوزن امين معلوف من هذا المفهوم يجب ان نسأل انفسنا .. عن سبب هذا الموقف من رجل مثله .. .. نسأل انفسنا هل فعلا الثورة هي افضل طريقة للتغيير .. ؟

( في بلداننا، تقوم الثورات باسم الشعب، ويجد الشعب نفسه مطرودا ، ومرميا على الطرقات .. فمنذ ثورتنا المجيدة لم ارجع الى بلدي الام. باسم التقدم والعدالة والحرية والامة او الدين، لا يكفون عن إقحامنا في مغامرات تتحول الى كوارث في نهاية المطاف. وعلى دعاة الثورة الاثبات سلفا بان المجتمع الذي سيعملون على انشائه سيكون اكثر تحررا وانصافا واقل فسادا من المجتمع القائم حاليا .. )

لم يكن الكاتب راض عن احداث القرن العشرين وما حصل فيها ويصفه بانه من اسوء الفترات .. ولم يكن متفائلا باحداث القرن الحالي .. الذي يراه اكثر سواءا من سابقه فيقول ..

 

(الأهم ان قرنا مشؤوما قد انتهى، وان قرنا جديدا بدأ، يلوح بانه اكثر شؤما، وانني ارغب ان أعرف بأي صلصة سنؤكل.)

 

مراجعة نضال معلوف


المواضيع الأكثر قراءة

SHARE

close