الفصل بين الجنسين: خطوة للخلف أم قفزة للأمام؟..بقلم:محمد الهلال

في سورية اليوم، وتحت قيادة الرئيس الشرع، بدأ يظهر توجه جديد نحو الفصل بين الذكور والإناث في مدارس التعليم الأساسي. قد يظنه البعض مجرد استمرار لعادات اجتماعية قديمة، لكنه في الحقيقة حل عملي يناسب ظروف ما بعد الحرب. كثير من الطلاب عادوا إلى الدراسة بعد سنوات من الانقطاع، وبعضهم تأخر بسبب الرسوب، فأصبح لدينا صفوف يجلس فيها أطفال في أعمار متباينة، منهم من هو في العاشرة ومنهم من تجاوز الثالثة عشرة. بل أحياناً يجد المعلم نفسه أمام تلاميذ أكبر سناً من المعتاد، حتى أن بعض الصفوف الابتدائية تضم من يمكن اعتبارهم "بالغين" مقارنةً بزملائهم الصغار. أحد المعلمين يروي مثلاً أنه في الصف الرابع كان لديه تلميذ بدأ يظهر على وجهه شارب خفيف يجلس إلى جانب أطفال ما زالوا بملامح الطفولة البريئة.

وتزداد الصورة وضوحاً مع أمثلة أخرى من المدارس. ففي بعض الصفوف، يكون طول بعض الأولاد أكبر بكثير من زملائهم، حتى أن أحد المعلمين قال مازحاً: "عندي في الصف الخامس تلميذ أطول مني بقليل"، وهذا يجعل التعامل بينه وبين الأطفال الصغار صعباً من حيث اللعب أو المشاركة. وأحياناً تظهر عند بعض الفتيات ملامح المراهقة المبكرة، مثل تغير الصوت أو الاهتمام الزائد بالمظهر، بينما زميلاتهن ما زلن بملامح الطفولة، ما يخلق فجوة نفسية واجتماعية بينهن. أحد المدراء  ذكر أيضاً أن بعض الطلاب الأكبر سناً يبدأون بالتصرف كما لو أنهم "شباب"، فيميلون إلى الاستعراض أو فرض أنفسهم على الصف، ما يربك المعلم ويضعف الانضباط. وفي حالات أخرى، يمتلك بعض الطلاب الأكبر سناً قوة جسدية أو صوتاً مرتفعاً يجعلهم يسيطرون على الأنشطة، بينما يشعر الطلاب الأصغر بالخوف أو التهميش. حتى أولياء الأمور يلاحظون هذه الفوارق؛ بعضهم يقول: "لا أرتاح أن تكون ابنتي الصغيرة في الصف مع أولاد أكبر منها سناً أو حجماً"، وهذا يدفع بعض الأسر إلى منع بناتهم من مواصلة الدراسة في المدارس المختلطة. كل هذه التفاوتات العمرية والجسدية والنفسية تجعل الجو الدراسي مضطرباً أحياناً. وهنا يصبح الفصل بين الجنسين وسيلة فعالة لضبط الصف، وتوفير بيئة تعليمية أكثر هدوءاً وأماناً، تساعد المعلم على التدريس وتمنح الطلاب تركيزاً وثقة أكبر.

التجارب العالمية تثبت أن القضية ليست جديدة. ففي الولايات المتحدة مثلاً، شجع قانون التعليم على تجريب الصفوف الأحادية الجنس، وسط جدل كبير بين مؤيد يرى أنها تقلل من التشتيت وتزيد التركيز، ومعارض يحذر من تكريس القوالب النمطية. بعض الدراسات ربطت بين اختلافات في نمو الدماغ وسلوك التعلم لدى الأولاد والبنات، مؤكدة أن بيئة الفصل الواحد تساعد الفتيات على الإقبال على العلوم والرياضيات، وتمنح الأولاد فرصاً أكبر في الفنون والقراءة. لكن هناك من حذر من أن أساليب التدريس المختلفة قد تزرع شعوراً بالتمييز بدل المساواة إذا لم تُدار بوعي.

في السياق السوري، تبدو الصورة أكثر وضوحاً. الفصل بين الجنسين لا يتعلق فقط بتحسين التحصيل العلمي، بل بطمأنة الأسر وتشجيعها على إرسال بناتها إلى المدرسة. حيث لا يزال كثير من الأهالي يترددون تجاه التعليم المختلط في المراحل الأولى. هنا يصبح الفصل بين الجنسين سياسة لحماية حق الفتيات في التعليم ومنع التسرب، بدل أن يكون مجرد خيار تنظيمي.

التجارب في دول كثيرة بيّنت أن وجود قدوات من نفس الجنس يساعد الطلاب على النجاح أكثر. مثلاً، عندما تُدرّس فتاة مادة الرياضيات أو الفيزياء على يد معلمة، تشعر أن "هذا المجال مناسب لي أيضاً" وتصبح أكثر ثقة بنفسها. تخيّل طالبة في حلب ترى معلمتها تشرح مسائل معقدة في الفيزياء، ستقول في نفسها: "إذا هي قادرة، فأنا أيضاً أستطيع". هذا يشجعها أن تدخل مجالات مثل الهندسة أو الطبوبالمقابل، الفصل بين الجنسين يعطي الأولاد فرصة ليتفوقوا في مواد غالباً ما يُقال إنها للبنات فقط، مثل القراءة أو الفنون. فمثلاً، تلميذ يحب كتابة القصص أو العزف على العود، قد يشعر براحة أكبر إذا مارس هوايته في صف كله أولاد، دون خوف من سخرية زميلة أو تعليق محرجهذه الفوائد الصغيرة في الصفوف تتحول مع الوقت إلى مكاسب كبيرة للمجتمع. فالفتيات يدخلن مجالات العلوم والهندسة بثقة، والأولاد يبدعون في الأدب والموسيقى بلا عقد. والنتيجة مجتمع أكثر توازناً، حيث كل فرد يجد مكانه الطبيعي دون أن تقيّده الصور النمطية.

عندما يكون الصف مختلطاً، قد ينشغل الطلاب بالحديث والنظرات والاهتمام بالجنس الآخر أكثر من انشغالهم بالدرس. مثلاً، قد تقضي طالبة وقتها تفكر: "كيف يبدو شكلي ومظهري ولباسي؟ كيف أتصرف؟" بدل أن تركز على حل مسألة في الرياضيات. وقد يقارن تلميذ نفسه بزميلة متفوقة في اللغة الإنجليزية فيشعر بالضغط أو يفقد ثقته بنفسه. وفي بعض المناطق، قد ترفض بعض العائلات أصلاً إرسال بناتها إلى مدرسة مختلطة خوفاً من هذه الأجواءلكن مع الفصل بين الجنسين، يصبح الجو أهدأ. المعلم يستطيع أن يشرح وهو مطمئن أن الطلاب منصتون، والطلاب يشاركون دون خجل أو خوف من تعليقات زملاء من الجنس الآخر. مثلاً، في صف أحادي، تلميذة يمكن أن ترفع يدها وتشارك بجواب دون أن تفكر في "ماذا سيقول الصبيان؟"، تلميذ يستطيع أن يقرأ قصيدته بصوت عالٍ دون خوف من سخرية البنات. والنتيجة: صفوف أكثر هدوءً، معلمين أكثر قدرة على التدريس، وطلاب أكثر ثقة واستعداداً لمستقبلهم. 

ولكي نفهم الصورة بوضوح، يمكن القول إن هناك عدة أسباب تجعل الفصل بين الذكور والإناث في المدارس خطوة منطقية ونافعة. فمن الناحية الأكاديمية، عندما يكون الصف أحادي الجنس يقل التشتيت، فيركز الطلاب أكثر على الدرس بدل الانشغال بالنظرات أو الأحاديث الجانبية. الدراسات بيّنت أن الفتيات في هذه الحالة يحققن نتائج أفضل في الرياضيات والعلوم، بينما يتطور أداء الأولاد في القراءة والكتابة. كما أن الفصل يساعد المعلم على تكييف أسلوب الشرح؛ فالفتيات يمِلن إلى التعلم الجماعي والتعاون، بينما يفضل الأولاد الأساليب التنافسية والحركية، مثل المسابقات أو الألعاب التعليمية.

أما من الناحية النفسية والسلوكية، فإن الفصل يعزز ثقة الفتيات بأنفسهن ويشجعهن على المشاركة دون خوف من السخرية. مثلاً، طالبة في صف احادي الجنس يمكن أن ترفع يدها لحل مسألة صعبة وهي مطمئنة، لأنها لا تخشى تعليقاً محرجاً. كما يقل الضغط الاجتماعي عموماً، وتنخفض نسبة المشكلات السلوكية أو الشغب في الصف.

ومن الناحية الاجتماعية والثقافية، فإن الفصل بين الجنسين ينسجم مع القيم السائدة في المجتمع السوري، ويزيد من تقبل الأسر لفكرة إرسال بناتهم إلى المدرسة. في بعض القرى أو المناطق المحافظة، قد تتردد الأسر في تعليم بناتها في صفوف مختلطة، لكن الفصل يزيل هذا العائق ويضمن استمرارهن في التعليم.

وعلى المستوى العملي والتنظيمي، يسهل الفصل مهمة المعلمين في إدارة الصفوف، ويجعل الأجواء أكثر هدوءً. كما يقلل من الإحراج في الأنشطة مثل الرياضة أو الموسيقى، حيث يشعر الطالب براحة أكبر بين أقرانه من الجنس نفسه. والأهم أنه يتيح فرصاً متساوية لكسر الصور النمطية: فالبنات يدخلن عالم العلوم والهندسة، والأولاد يجدون مساحة للإبداع في الأدب والفنون دون خجل.

وعلى المدى الطويل، هذه الفوائد الصغيرة تتحول إلى نتائج كبيرة: مشاركة أوسع للفتيات في مجالات العلوم والتكنولوجيا، فرص أكبر للأولاد في الفنون والآداب، وتخريج جيل أكثر انضباطاً وتوازناً نفسياً، قادر على مواجهة المستقبل بثقة. 

الخلاصة أن الفصل بين الجنسين في المدارس السورية ليس مجرد تقليد اجتماعي، بل استراتيجية تعليمية تتناسب مع الخصوصية المحلية وتستند إلى شواهد وتجارب دولية. إذا طُبِّق بوعي وبمناهج عادلة، فهو قادر على رفع مستوى التحصيل، حماية حق التعليم، وتربية جيل أكثر ثقة وتوازناً. في النهاية، لا يتعلق الأمر بفرض قيود، بل بفتح أبواب لمستقبل أفضل بعيداً عن التشتت و"الهمسات الصفية" التي طالما أضاعت وقت الطلاب والمعلمين على حد سواء.

 الفصل بين الجنسين ليس قراراً شكلياً بقدر ما هو رهان على جيل جديد. التجربة السورية بحاجة إلى حلول واقعية تعزز فرص التعليم وتحمي أبناءنا من الهدر والتسرب. في مجتمع خرج لتوّه من حرب طويلة، قد يكون هذا التوجه خطوة ضرورية نحو مدرسة أكثر هدوءاً وفاعلية، على أن يُستكمل ببرامج مدروسة تضمن العدالة وتكافؤ الفرص للجميع.

 

*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع

*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]


المواضيع الأكثر قراءة

SHARE

close