"كلن يعني كلن" .. هل يقبل لبنان ان يصل الى سدة الحكم رئيس مسلم ؟

بفعل الدستور رئيس الجمهورية مسيحي في بلد الاكثرية فيه مسلمون ! ، هناك قضايا نتعامل معها على اساس انها مسلمات رغم غرابتها ، رغم خروجها عن المألوف، دون ان نبحث في اصلها ومسبباتها.

بفعل الدستور رئيس الجمهورية مسيحي في بلد الاكثرية فيه مسلمون ! ، هناك قضايا نتعامل معها على أساس انها مسلمات رغم غرابتها ، رغم خروجها عن المألوف، دون ان نبحث في اصلها ومسبباتها.

والغريب في لبنان ليس انه يعتمد نموذج "دولة الطوائف"، النموذج الذي يسعى الى المساواة بين الطوائف في الحقوق والواجبات ، بل هو مصمم للاعتراف بأفضلية طائفة على اخرى ! ومع ذلك يقبل به الجميع؟

هذا الوضع الشاذ كرسته فرنسا في بداية عهد انتدابها على سوريا ولبنان ، ففي العهد العثماني كان جبل لبنان ذو الغالبية المسيحية المارونية متصرفية تتمتع بحكم ذاتي مستقل منذ العام 1861 ، يعين على رأسها "باشا" مسيحي ماروني من اهل المنطقة يتبع له مجلس تمثيلي طائفي يمثل الطوائف في منطقة الجبل ..

عندما وضعت فرنسا يدها على لبنان وسوريا بعد الحرب العالمية الاولى ، قامت في العام 1920 بتقسيم المنطقة الى دول ، كان من ضمنها "لبنان الكبير" الذي شكلته بأن ضمت الى متصرفية جبل لبنان مناطق ، طرابلس وصيدا وصور ، بالإضافة الى أقضية اربعة من سوريا هي ، راشيا وحاصبيا وبعلبك والبقاع.

عملية الضم هذه اخلت بالتوازن الطائفي في الكيان الجديد واصبح المسلمون يشكلون فيه الاغلبية ، ومع هذا اصرت فرنسا ان يتمتع شريكها العضوي وحليفها التاريخي "الموارنة" بالتفوق والسيطرة في البلد الوليد.

فرسخت من خلال العرف والتشريعات احقية الموارنة بمنصب رئيس الجمهورية،  وشكلت مجلساً تمثيلياً مكوناً من 15 عضو ،  المسيحيون فيه 9 اعضاء (من ضمنهم الموارنة 5 اعضاء) ، ويتقاسم الستة مقاعد المتبقية السّنة والشيعة والدروز.

هذا الوضع الشاذ دفع المسلمون للاعتراض على الواقع الجديد الذي فرضته فرنسا وازدادت الشكوى مع تقدم سنوات الانتداب ودعم فرنسا للمسيحيين، وفي العام 1932 تم ارسال برقيات بإسم المسلمين في لبنان الى رئيس الجمهورية الفرنسية والى عصبة الامم المتحدة يطالبون من خلالها، بممارسة حقهم السياسي "في ابسط أشكاله"،حيث اوضحوا بانهم يشكلون الاغلبية الساحقة ومن حقهم الترشح لمنصب رئيس الجمهورية.

استمرت شكوى المسلمين من هذا الوضع حتى العام 1937 ، حيث عمد الرئيس اللبناني "اميل اده" وقتها الى اسناد منصب رئاسة الوزراء الى لبناني سني هو "خير الدين الاحدب" وكان هذا بداية توزع السلطات الثلاث في لبنان بين الطوائف الرئيسية.

أما الشيعة وحتى منتصف عشرينيات القرن العشرين وعلى طول فترة حكم الدولة العثمانية والى بدايات سنوات الانتداب الفرنسي ، كانوا في المحاصصة "الطائفية" محسوبين على المسلمين ، الى ان قامت فرنسا بالاعتراف بهم كطائفة مستقلة في بداية العام 1926 ، طائفة لها قانون احوال شخصية خاص وكذلك محاكم شرعية خاصة واصبحوا بذلك "كتلة طائفية" مستقلة بذاتها عن باقي الطوائف.

ومع واقع تقاسم السلطة بين الموارنة والسنة وظهور طائفة جديدة تشكل ثلث عدد سكان لبنان ، بدأ نواب هذه الطائفة بدورهم العمل  للاستحواذ على حصتهم من السلطة تتناسب مع حجم تواجدهم على الارض اللبنانية.

وبدأت المطالب منذ العام 1939 بأحقية الشيعة في تمثيل الجنوب والاستحواذ على الحصة الاكبر من الوظائف في تلك المنطقة ومطالبة الحكومة بإجراء ما يلزم من اجل تحقيق هذا الهدف ، المطالبات التي ادت في النهاية الى ان يتوج على رأس السلطة التشريعية زعيم شيعي، ويتشكل مثلث السلطة بين الموارنة والسّنة والشيعة الذي نعرفه اليوم.

وأُقر هذا الواقع بوثيقة تعرف بإسم "الوثيقة الدستورية" اعلنت في عهد الرئيس سليمان فرنجية في العام 1976.

بالطبع دور فرنسا في تكريس الطائفية في لبنان يعود الى ما قبل عهد الانتداب الفرنسي ، الى فترة ما يعرف باسم "الامتيازات الاجنبية" وهي فترة تتسع لتشمل قروناً طويلة من علاقة فرنسا مع الدولة العثمانية لا مجال للتفصيل بها هنا ، واستمر هذا الدور الى يومنا هذا ( بالطبع انضمت قوى اخرى الى المعادلة بفعل التغيرات في موازين القوى ابتداءاً من النصف الاخير من القرن العشرين).

ما يمكن قوله بهذا الصدد بان النظام الطائفي في لبنان هو نظام متجذر متشابك ومعقد ، وهو نظام ديكتاتوري استبدادي برؤوس متعددة يلتف حول كل رأس من هذه الرؤوس جماعة ارتبط وجودها وتحقيق مصالحها بمدى قوة هذا الرأس وقدرته على حمايتها وانتزاع المنافع لصالحها.

والمشكلة بان هذا الواقع شكل ارضية مثالية لكي تدس الدول العظمى اصابعها في المنطقة وتسيطر عليها وتفرض ارادتها من خلال تكريس هذا الوضع ، وتتقاسم فيما بينها ( الدول )  دور "الحامي" لكل طرف من الاطراف، وتلعب في كثير من الاحيان دور الشرطي صاحب العصا الغليظة الذي يعني غيابه الفوضى والاقتتال والحرب والدم بين الاطراف المتناحرة.

القارئ في التاريخ يعلم بانها ليست المرة الاولى التي ينتفض اهل لبنان للخلاص من هذا النظام الشاذ الفاسد.

فكانت الفرصة الاولى للتخلص من هذا النظام في سياق حركة الاستقلال من الحكم الفرنسي، والتي بدأت خلال الحرب العالمية الثانية في عهد الرئيس بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح ( 1943 ) وقد برز موضوع الغاء الطائفية والاصلاح– كما اليوم - كمطلب شعبي في ذاك الوقت ايضا ، وعطلت فرنسا في ذاك التاريخ كعادتها المساعي الرامية لتغيير النظام الطائفي وأفشلت الجهود التي تهدف الى تقليص دور التدخل الاجنبي في لبنان.

ورغم حصول لبنان على استقلاله ( 1946 ) واستمرار التيار الشعبي بالمطالبة بإلغاء المحاصصة الطائفية ، صدرت القوانين بغير هذا الاتجاه ، بل في الاتجاه المعاكس ، وعززت(هذه القوانين) "التقاليد الثابتة" في تاريخ البلد السياسي ، من خلال الاستمرار بإعطاء الصلاحيات للمراجع المذهبية في لبنان ، وانتظم اللبنانيون مرة اخرى في طوائف تتمتع بإدارة ذاتية في نطاق محدد.

واستمر لبنان ليكون عبارة عن طوائف تؤلف كل منها كيانا عضويا من الدولة مستقلا في حد ذاته ، ولكنه من ناحية اخرى يشارك في تكوين الارادة الكلية للدولة من خلال المؤسسات الدستورية التي يشارك بها.

الفرصة الثانية التي حظي فيها لبنان للتخلص من النظام الطائفي كانت ما بعد الحرب الاهلية اللبنانية ( 1975– 1990 ) ، والتي بدأت لأسباب تتشابه كثيرا مع الاسباب التي دفعت للتحركات الشعبية التي يشهدها لبنان اليوم في نهاية العام 2019.

حيث لم يعد في استطاعة البنية السياسة في ذاك الوقت ( كما اليوم ) استيعاب التحركات الشعبية على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسة ، التحركات التي تجاوزت قدرة الحكم اللبناني على التحكم بها والسيطرة عليها.

مضى لبنان بشكل دراماتيكي الى اتون الحرب الاهلية.. بفعل الاقتصاد المدمر ، وتبعية القطاعات الاساسية لأصحاب رؤوس المال الفاسدين ، انتقال الحراك من المستوى المطلبي الى المستوى السياسي العام .. ..

وحصل ماحصل في الحرب الكارثية التي امتدت 15 عاما ، وكان من المفترض بعد ان دفع اللبنانيون اثمانا باهظة ان يمضوا باتجاه دستور يلغي الطائفية السياسية ويؤسس لدولة ديمقراطية مدنية تركز على حقوق المواطنة ، وجاء تعديل الدستور بناءاً على اتفاق الطائف الشهير ( 1990 ) في هذا السياق، ليدعو  لتأسيس هيئة وطنية تعمل على الغاء الطائفية بشكل نهائي ..

الامر الذي لم يحدث حتى اليوم ..

بعد 30 عام تقريبا عادت الامور للتفاعل والاوضاع للتفاقم ، وبدأ مرة اخرى الشارع بتحركات مطلبية تحولت الى مطالبات بتغيرات جذرية في السياسة العامة ..

ربما هي المرة الاولى التي تأتي المطالب الشعبية بهذا الوضوح في ابراز رغبة حقيقية في تغيير هذا النظام الطائفي الاقطاعي المتجذر في تاريخ لبنان والممتد ليمسك بكل تلابيب مكونات المجتمع فيه..

وهي ليست المرة الاولى التي يتحرك الشعب اللبناني للتخلص من هذا الاخطبوط كما ذكرنا.. ولكنها ربما تكون الفرصة الاخيرة للتخلص من هذا الوحش العتيق الذي تلتف اذرعه حول رقبة كل لبناني لتسرق اليوم أخر قطرة دم في جسده .. فلم تترك له الخيار الا ان ينتفض للتخلص منه ..

 

نضال معلوف

 

 


المواضيع الأكثر قراءة

SHARE

close