سيُفاجأ اي قارئ لكتاب "الامير" لنيكولو ماكيافيللي والذي تم تأليفه منذ اكثر من 500 عام بان معظم حكام المنطقة ما زالوا يعتمدون على النصائح والارشادات التي وردت فيه الى يومنا هذا..
ماكيافيللي صاحب "المنهج الواقعي" (البراغماتي) والمنسوب اليه عبارة "الغاية تبرر الوسيلة"، قام بتأليف كتابه "الامير" بعد ان كان له الحظ بان يكون في منصب حكومي فترة ازدهار "فلورنسا" تحت حكم أل "دي ميديتشي" لفترة تقارب 15 عاما (1498 – 1512) كان خلالها "رجل المهمات الصعبة".
وبعد ان تمت اقالته، لاسباب لا مجال لذكرها هنا، واعتزاله العمل السياسي ليعيش معتزلا في قرية صغيرة مجاورة لفلورنسا، شرع بتأليف كتابه المشهور "الامير"، الذي ينسب اليه المنهج "اللا اخلاقي" ليستطيع "الامير" قادرا على الحفاظ على ملكه.
ربما في وصف كتاب الامير بـ (اللا اخلاقي) مغالطة كبيرة طالما يقع فيها القارئ المعاصر، وتتمثل هذه المغالطة في قراءتنا للتاريخ باخراج السياسات التي اتبعت في حقبة ما من سياقها التاريخي، وعقد مقارنات مع السياسات المتبعة اليوم في الدول التي تجاوزت النظم القديمة باتجاه الديمقراطية والحكم المدني الحداثي.
لا يعيب ماكيافيللي في رأيي الخاص تقديم النصائح التي وردت في كتابه للحاكم، لانها كانت سياسات لازمة في عالم له خصوصيته في سياق التطور التاريخي للدول، لازمة لضمان استمرار "الدول الملكية" حيث لم تقم في ذاك الوقت اي جمهوريات بعد.
ولكن العيب (ايضا برأيي الخاص) بأن سياسات قائمة اليوم ما زالت حتى بعد 500 عاما من اصدار كتاب "الامير" تعتمد على "الوصايا" المذكورة فيه، لا بل مع الاسف بعض السياسات المتبعة في يومنا هذا، زادت على ما ذكر في "الامير" مزيدا من القسوة والتجاوز على حقوق الانسان.
سيوفر لكم قراءة هذا الكتاب الاجابة على كثير من الاسئلة المحيرة التي تعصف باذهاننا تجاه تصرفات الانظمة الحاكمة في منطقتنا تجاه شعوبها، وتجدون باننا في منظومة الحكم القائمة شعوبا لم تتجاوز العصور الوسطى التي مرت بها اوربا بعد.
لا يمكن عرض الاقتباسات من الكتاب التي تنطبق على واقعنا اليوم كلها، لانها تقريبا تمثل كامل محتوى الكتاب، ولكني اخترت بعضا منها، ما قاله الكاتب مثلا حول استخدام القوة، وحيرتنا من استخدام القوة المفرطة من قبل الحاكم لقمع شعوبهم.. يقول ماكيافيللي..
"ان الناس يعاملوا اما بلطف او عكس ذلك، بان تقع تصفيتهم بقوة، لانهم عادة ينتقمون للاساءات الصغيرة، بينما لا يستطيعون الرد على الاساءات الكبيرة"..
واكثر ما لفتني في الكتاب امر لا زلت احاول اثباته منذ سنين طويلة، يتعلق بنظرية ان الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الاولى (1914 -1918)، ما زالت تحكم منطقتنا حتى اليوم وفق قاعدة ماكيافيللية خالصة..
يشير ماكيافيللي الى ان حكم الدول (التي خسرت الحرب) يكون "اما بتدميرها كليا" او "باقامة الامير المحتل بها شخصيا"..
او ..يتابع ميكافللي "بالمحافظة على قوانينها القديمة في مقابل الحصول على جزية".. ويمكن استبدال كلمة الجزية هنا في زماننا (بالحفاظ على المصالح)، يتابع بالتوصية بـ "ارساء حكومة اقلية موالية تحافظ على صداقتها (صداقة الدولة المحتلة)، وما دام استمرار هذه الحكومة، التي وضعها الامير (الدول المحتلة)، رهينا بصداقته وحمايته لها، فانها (الدول) ستبذل قصارى جهدها لصيانة سلطته (الامير) على هذه البلدان".
ويختم ميكافيللي هذه التوصية.. "فان افضل وسيلة للحفاظ على دولة (تحت سيطرة المحتل) بسهولة هي حكمها بواسطة مواطنيها.."، ويقصد باختصار بان افضل طريقة لابقاء حكم المحتل على بلد ما هي "تأسيس حكم مواطنين من الاقليات، ليستمد هذا الحكم شرعيته واستمراره من الدولة المحتلة ذاتها..".
واذا انتقلنا الى موضوع "محيّر" آخر.. يفسر ماكيافيللي تردد الحكام باجراء التغيير ويوصي بالحذر من القيام باي تغيير (مثلا محاربة الفساد) او التغيير في بنية الحكم.. ويعلل هذا بما يلي..
"علينا ان نضع بعين الاعتبار بانه ما من شيء اصعب واخطر واكثر عرضة للفشل من الاقدام على احداث تغييرات في مؤسسات الدولة، سيواجه الامير الذي يبادر الى ذلك العداء ممن كانوا يستفيدون من النظم القديمة، بينما لن يلق الا دعما مترددا من الذين قد ينتفعون من القوانين الجديدة".
والسبب في هذا التردد يرجع الى خوفهم من خصومهم، الذين تسندهم القوانين القديمة، والى نزعة الشك التي تساور الناس عادة في كل ما هو جديد الى ان تثبت صحته ونجاعته على ارض الواقع.
ويتنج عن هذا الوضع ان اعداء التجديد لا يفوتون اي فرصة للنيل من الامير بكل ما اوتوا من قوة، تحت ذريعة الدفاع عن مصالح البلد، فيما لا يدافع عنه انصاره المترددون الا بفتور واضح يجعله في موقف صعب، يعرضه لخطر جسيم".
انتهت التوصية..
وقد عشنا اكثر من مرة هذه التجارب، ونسأل انفسنا الى اليوم لماذا لا ينجح الحاكم (الامير) عندنا في انجاز التغيير واظن ان شرح ماكيافيللي فيه جواب شاف..
يوجه نيكولو ماكيافللي حديثه "للامير" في هذا الكتاب، لان المنطقة التي كان يعيش فيها محكومة من قبل اسرٍ على رأسها امير وهو شخصيا كان سكرتيرا للحاكم "العظيم" لورنزو دي ميديتشي، الذي بلغت فلورنسا اوج ازدهارها خلال حكمه.
باعتقادي بانه اذا اردنا ان نفهم كيف تسير امور الحكم في منطقتنا يجب على كل واحد منا ان يقرأ هذا الكتاب بتمعن، ويمكن ان يجد فيه كل الاجابات عن الاسئلة المحيرة في ذهنه، وسيكون ايضا قادرا على تحديد الانحرافات التي قام بها حكامنا عن "وصايا" الكاتب باتجاه القسوة والوحشية.. انحرافات تجاوزت كل واقعية "ماكيافيلي".. اللا اخلاقية.
نضال معلوف