العدالة الانتقالية بين الخاني وحمشو

13.01.2025 | 01:07

قد تجد اليوم في الشارع حملة استهجان في مواجهة تصريحات فنان مثل "مصطفى الخاني" المعروف بالنمس نسبة لدوره في المسلسل الشهير باب الحارة ، وبين احتجاجات  منثورة على صفحات السوشيال  ميديا حول خبر ( غير مؤكد بعد ) للصفح عن رجل الاعمال المشهور محمد حمشو.

 

وقد يلقى الخاني في سياق عدم وجود اليات محددة للمحاسبة من "القصاص" بسبب صورة له مع بشار الأسد ، اكثر مما يلقاه رجل اعمال كان يد ماهر الأسد في تمويل وتنظيم عمليات القتل الممنهج في سوريا طوال 14 عام ماضية.

 

القصاص .. هل نحن على الطريق الصحيح ؟

اخذت مشاهد السجون وتحرير السجناء ، سجن صيدنايا والفظائع التي ارتكبها نظام الأسد فيه،  الحيز الأكبر من فصل نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة في تاريخ سوريا.

 

معظم السوريين لديهم فكرة وافية عن أدوات القمع التي كان يستخدمها الأسد، ربما الفرق الوحيد مع انهاء  حكمه هو ان التصور المرعب الذي بقي كابوسا يرافقهم خلال 50 عام من حكم العائلة تجسد امامهم على شاشات التلفزيون.

 

والسؤال هل انتهى السوريون من هذه القضية الشائكة ، هل سينعم المجتمع السوري بالسلام بعد فتح باب السجون وتحرير المساجين؟

 

العدالة الانتقالية

الحقيقة ليس المطلوب منا ان نجد جوابا لهذا السؤال بأنفسنا ، فالقمع الذي مارسه الأسد في سوريا هو نموذجا تكرر في اكثر من مكان في العالم خلال القرن الماضي.

 

وتم من حسن حظنا عبر التاريخ تطوير اليات للتعامل مع مثل هذه القضايا ( بحيث لا نعيد اختراع الدولاب ) بما سمي بتطبيق "العدالة الانتقالية" التي تركز على ضحايا الانتهاكات في الماضي وكيفية استعادة حقوق هؤلاء الضحايا.

 

والعدالة الانتقالية عبارة لها تفسير محدد ودقيق، وهي تمثل الية اممية معروفة ، لها قواعد محددة وهدف واضح تسعى للوصول اليه.

 

باختصار هدف تطبيق العدالة الانتقالية  ليس الانتقام وانما "كسر دوامة العنف والجرائم الوحشية ، واستعادة القانون والثقة في المؤسسات وبناء مجتمعات قوية وقادرة على القضاء على انتهاكات حقوق الانسان قبل وقوعها".

 

والفكرة بسيطة .. وهي ان هذه الانتهاكات لم تكن لتحدث لو تم تطبيق القانون في إطار الدولة القادرة القوية ، وانهاء مثل هذه الانتهاكات لا يكون الا باستعادة القانون واستعادة دور المؤسسات.

 

فالاقتصاص من القاتل للانتقام مهما كانت الوسيلة خارج سياق عملية منظمة ، لا يأتي ضمن مفهوم العدالة الانتقالية ، بل ان عملية الانتقام العشوائية في خارج إطار منظم ومدروس قد يأتي بنتائج عكسية ويؤجج الصراع ويزيد الانقسامات في المجتمع.

 

العدالة الانتقالية في هدفها النهائي تسعى "لربط المجتمعات مع بعضها البعض وفي تمكينها لتحقيق سلام دائم"، وليس الانتقام لمجرد الانتقام؟

 

 

الضحايا هم أساس عملية العدالة الانتقالية ..

 

في المقابل لا يمكن تحقيق العدالة الانتقالية والتي هي شرط أساسي لإرساء السلام  في المجتمع كما ذكرنا ، "بدون ان يكون الضحايا والمجتمعات المتضررة هي أساس العملية ، عند تصميم آليات العدالة الانتقالية وتنفيذها".

 

والضحايا هم من يجب ان يقوموا بتوصيف الانتهاكات وتوثيقها وتحديد الضرر وحجم الضرر الذي نجم عنها، وتصنيفها في درجات تساعد في النهاية من انجاز عملية التقاضي وتحقيق العدالة لتعزيز السلام.

 

فهذه المشاركة تضمن الا يفلت مرتكبي الجرائم والانتهاكات من العقاب، وان يكون العقاب متناسبا مع حجم الجريمة او الممارسات.

 

ما هي إنجازات الإدارة الجديدة في هذا المجال ؟

وضمن هذا المنظور وبمراقبة الاليات التي تعاملت بها الإدارة الجديدة التي وصلت الى الحكم في سوريا مع هذا الملف، نجد انها ما زالت بعيدة كل البعد عن تطبيق هذه الالية ، لا بل انها ساهمت في جعل تطبيقها امرا صعبا للغاية.

 

وهذا من خلال فوضى عارمة ترافقت مع فتح السجون وإطلاق سراح المساجين ، واقتحام مقرات الامن وترك الوثائق والملفات عرضة للنهب والاتلاف وهروب معظم المسؤولين عن هذه الانتهاكات الى الخارج.

 

كما لم نشهد خلال الأسابيع الماضية أي اشراك للضحايا في تنظيم أنفسهم ووضع الأسس الصحيحة لتطبيق العدالة في سياق محدد ومنظم بضحايا تجاوزات الماضي على أنّهم أصحاب حقوق، وتحديد ماهية هذه التجاوزات والانتهاكات وتصنيفها.

 

حيث من المفترض ان تشمل عمليات العدالة الانتقالية "تقصي الحقائق ومبادرات الملاحقات القضائية للوصول الى أنواع مختلفة من التعويضات ومجموعة واسعة من التدابير لمنع تكرار الانتهاكات من جديد".

 

فليس من المعقول ان يتساوى مثلا من صمت عن ادانة اعمال القتل مع من حرض بالقول او شارك بالفعل  على مثل هذه الاعمال ، مع من كان طرفا وجزءا أساسيا من الة القتل وشريكا في سفك دماء السوريين، مع فرد من افراد المجتمع المقهور اختار الصمت ليحمي نفسه وليحمي عائلته.

 

إذا تركنا الامر بدون تأطير، وبدون مشاركة الضحايا وترك الامر للسلطات القائمة ، سنجد انه من الممكن ان تتحول الرغبة في الانتقام والاقتصاص على الانتهاكات الى مجرد شتم او ضرب فنان هنا او صحفي هناك او عملية قتل لشخصية ثانوية في تركيبة نظام الأسد، فيما من خلال عملية مقايضة وتبادل مصالح  قد يفلت رجال اعمال كبار كانوا شركاء للأسد في عمليات تمويل وتنظيم اعمال القتل الممنهجة من العقاب.

 

على رأس التدابير التي بجب ان تتخذ لمنع تكرار الانتهاكات في المستقبل "هو الإصلاح الدستوري والقانوني والمؤسسي، وتقوية المجتمع المدني، والجهود الرامية إلى تخليد الذكرى، والمبادرات الثقافية، وصون المحفوظات، وإصلاح تعليم التاريخ، بحسب اقتضاء واحتياجات كلّ سياق".

 

فأفكار من قبيل تحويل سجن صيدنايا الى متحف وتعديل المناهج لتخليد ذكرى الضحايا وشجب الانتهاكات ، ودعم عملية التأليف والنشر والإنتاج الدرامي في الإبقاء على احياء هذه التجربة خطوات ضرورية وهامة لكي نحقق العدالة الانتقالية ونصل الى السلام.

 

لم يحدث أيا من هذا حتى الان ، وانما تم اقصاء الضحايا وذويهم بعد وصول الإدارة الجديدة الى السلطة ، وتغاضت الإدارة عن بعض العمليات الانتقامية التي ما زالت تحدث في اكثر من منطقة ( اعدام مختار منطقة دمر في دمشق مثالا ) والتي وان كانت توحي بانها نوع من الـ "القصاص" من بعض مرتكبي الجرائم، الا ان عملية "تطبيق العدالة"  بهذه الطريقة لا تصل بنا الى تحقيق السلم الأهلي،  بل على العكس ستزيد من عملية التفرقة وتأجيج الصراع.

 

يجب الا ننسى بان جوهر العملية هو "الثقة بين الأفراد في المجتمع الواحد، وثقة الأفراد في مؤسسات الدولة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون".

 

أي عملية انتقام او "قصاص" خارج إطار القانون سيكون لها مفعول عكسي ، سيفقد الناس ثقتهم بالمؤسسات وبالدولة وبالقانون وبالتالي سيتم التوجه الى حلول بديلة عنفية لتأمين الحماية وقواعد خارجة عن منطق الدولة في التعامل مع الاخر.

 

فالهدف تطبيق العدالة الانتقالية كما ذكرنا هو "تحقيق تحول مجتمعي جذري من خلال استعادة حقوق الضحايا ومعالجة أسباب الانتهاكات، وعلى رأسها بناء صحيح لهياكل السلطة ومعالجة الاقصاء واوجه القصور في المؤسسات والافلات من العقاب ، هذه الظواهر التي تهدد السلم الأهلي والامن".

 

ويقع على عاتق السلطة التي وصلت الى الحكم مسؤولية "توفير سبل الانتصاف الفعالة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، وتلبية حقوقهم في الحقيقة والعدالة والجبر".

وكي تكون العدالة الانتقالية قادرة على المساهمة بفعالية في السلام والمصالحة المستدامين.

 

نضال معلوف

 

( مفاهيم العدالة الانتقالية الواردة في المقال تعتمد على تعريفها من قبل المفوضية السامية لحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية التابعة للأمم المتحدة



Contact
| إرسال مساهمتك | نموذج الاتصال
[email protected] | © 2025 syria.news All Rights Reserved