العدالة الانتقالية في سوريا... حلم يتلاشى بين قاضي وجلاد... بقلم : فراس الفريح

28.01.2025 | 21:46


إذا كنت تعتقد أن العدالة الانتقالية ستتحقق في سوريا، توقف، اغسل وجهك، وصح النوم. 


لم أكتب هذه الجملة لكي أستفز أحداً، لكنها خلاصة منطقية لكل ما نعيشه. العدالة الانتقالية ليست مجرد آلية لتحقيق المحاسبة، بل هي طوق النجاة لأي مجتمع مزقته الحروب. لكن دعونا نكون صريحين: كيف يمكن الحديث عن عدالة انتقالية في بلد أصبحت فيه خطوط الحق والباطل مشوشة تماماً؟ حيث الضحية والجاني يتبادلان الأدوار أحياناً، والجلاد يتحول بين ليلة وضحاها إلى "راعٍ للعدالة".

جرائم النظام البائد ... إرث من القمع المؤسسي

عندما نتحدث عن النظام السوري، نتحدث عن تاريخ طويل من القمع المنهجي. مجازر حماة التي قُتل فيها عشرات الآلاف، والسجون التي تحولت إلى معامل موت مثل صيدنايا، ليست إلا أمثلة بسيطة. هذه الجرائم لم تكن عشوائية، بل سياسة متعمدة لترويض الشعب وتكميم الأفواه تحت شعار "حماية الدولة" والحقيقة هي "بقاء النظام".
كن السؤال الذي لا يزال يطاردنا هو: كيف يمكن لعائلات فقدت أحبابها في تلك الجرائم، أو شُرّدت في خيام، أو تعرضت لأقسى أنواع الذل بعد أن فقدت كل ما تملك، ناهيك عن أولئك الذين ماتوا أو كادوا يموتون للوصول إلى بلاد اللجوء، أن تتقبل فكرة التسامح دون محاسبة؟

حكومة الأمر الواقع... قناع جديد بأدوات قديمة

مع تغير موازين القوى، ظهرت حكومة الأمر الواقع لتفرض خطاباً مختلفاً لكنها استخدمت الأدوات ذاتها. اليوم، وزير العدل مثلا في حكومة الأمر الواقع قد يُعتبر، وفق معايير العدالة الانتقالية، شخصاً مطلوباً للتحقيق.
وفي محاولة لتجنب مطالب العدالة، قد تلجأ حكومة الأمر الواقع إلى تطبيق الشريعة أو تقديم نموذج ديني صارم كبديل لما تسميه "العدالة الانتقالية الغربية". بهذا، يمكنها إعادة توجيه أنظار المجتمع إلى قضايا جديدة، وخلق انقسامات داخلية تستنزف طاقة الناس، مما يجعل مطلب المحاسبة يبدو وكأنه ترف لا يمكن تحقيقه في هذا الواقع.

الضحايا... الصوت الغائب وسط ضجيج النزاعات

بين النظام السابق وحكومة الأمر الواقع، يبقى الضحايا هم الحلقة الأضعف. من فقدوا حياتهم وأحبائهم، ومن نجا من التعذيب، والأطفال الذين يكبرون في مخيمات النزوح... جميعهم يبحثون عن إجابات وعدالة قد لا تأتي أبداً. العدالة الانتقالية ليست فقط عن محاسبة الجناة، بل هي عن رد الاعتبار لهؤلاء الضحايا وإعادة بناء ثقتهم في المستقبل.

مقارنة عالمية... ماذا يمكن أن نتعلم؟

تجارب العدالة الانتقالية في دول مثل جنوب أفريقيا ورواندا تعلمنا أن المصالحة ممكنة، لكنها ليست سهلة. في جنوب أفريقيا، كانت "لجنة الحقيقة والمصالحة" أداة للسماح للجناة والضحايا بمواجهة الحقيقة. ومع ذلك، لم تكن التجربة كاملة. الفرق هو أن تلك الدول امتلكت قيادة شجاعة ومجتمعاً آمناً نسبياً لتطبيق العدالة، بينما سوريا تفتقر ربما إلى هذا حاليا.

العدالة الانتقالية بين القاضي والجلاد

إذا كان الهدف من العدالة الانتقالية هو المصالحة، فإن التحدي الأكبر في سوريا يكمن في السؤال: من يملك الحق في محاكمة من؟
لنتخيل محكمة افتراضية للعدالة الانتقالية: القاضي، وهو مسؤول حالي، يقرأ قائمة التهم ضد مجموعة من المتهمين. فيرد أحدهم: "وماذا عن الغارة الجوية التي كنت مسؤولاً عنها؟" هذا المشهد الساخر يعكس الحقيقة المرة: لا يمكن للجلاد أن يصبح قاضياً، ومع ذلك هذا هو الواقع في سوريا، أو ما نرى ان الواقع يتجه ليكونه.

المصالحة المجتمعية... معضلة الثقة

حتى لو تجاوزنا مسألة المحاسبة، المصالحة المجتمعية في سوريا تحتاج إلى بناء جسور ثقة جديدة بين مكونات المجتمع أو سمها ما شئت، هذه الجسور لا تُبنى بالخطابات السياسية فقط، بل تتطلب إصلاحات حقيقية على مستوى التعليم، الثقافة، والهوية الوطنية المشتركة.

المجتمع الدولي... بين الشعارات والمسؤولية

دور المجتمع الدولي في سوريا لم يكن دائماً إيجابياً. دعم الأطراف المختلفة ساهم في استمرار الصراع وخصوصا بقاء الرئيس الهارب، بينما بقيت دعوات المحاسبة مجرد شعارات تُردد في المؤتمرات. إذا أراد العالم أن يساعد سوريا حقاً، فعليه دعم توثيق الجرائم وبناء آليات محاسبة تتجاوز المصالح السياسية الضيقة.

خاتمة... أحلام مؤجلة ومخرج ممكن

العدالة الانتقالية ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إلى شجاعة استثنائية وبيئة سياسية مستقرة. في الحالة السورية، ربما يكون الطريق إلى العدالة محفوفًا بالعوائق، لكن ذلك لا يعني غياب الحلول. أحد المخارج الممكنة لحكومة الأمر الواقع، ولكل الأطراف التي لم تلطخ أيديها بدماء المدنيين، هو الاعتراف بالأخطاء الماضية وتقديم اعتذار رسمي للشعب السوري، كخطوة أولى نحو المصالحة.

لكن كيف يمكن أن أطالب الآخرين بالاعتذار دون أن أبدأ بنفسي؟ لم أرتكب جريمة حرب، ولم أكن طرفًا في نزاع عسكري مباشر، لكنني قد أتحمل جزءًا من المسؤولية، ربما كان بوسعي أن أفعل المزيد، أن أتحرك أسرع، أن أخفف من المعاناة ولو على نطاقي الشخصي وتأثيري المحدود جدًا. لذلك، أجد نفسي ملزمًا بأن أكون أول المعتذرين، ليس عن جرم ارتكبته، بل عن التقصير الذي كان يمكن أن يحدث فرقًا، مهما كان صغيرًا.

الاعتذار، إذا كان صادقًا ومصحوبًا بإجراءات فعلية مثل التعويض الرمزي أو إنشاء لجان مستقلة لتوثيق الانتهاكات، قد يفتح بابًا جديدًا للحوار الوطني، هذه الخطوة لا تقتصر على جهة واحدة فقط، بل يجب أن تكون جزءًا من جهد وطني مشترك. الأطراف التي حافظت على نظافة أيديها تتحمل مسؤولية مضاعفة لقيادة الطريق نحو العدالة والمصالحة.

السوريون يستحقون عدالة تُعيد لهم كرامتهم، وعدالة تبدأ بالاعتراف بالأخطاء والمضي قدمًا نحو المستقبل. الاعتذار وحده لن يكون كافيًا، لكنه قد يكون المفتاح الذي يكسر دائرة الصمت ويمنح الجميع فرصة للمضي قدمًا.

العدالة الانتقالية؟ ربما تكون أقرب مما نعتقد، إذا امتلكنا الشجاعة لنبدأ بخطوة صغيرة، لكن حقيقية.

 

 

---------------------------------------------------------------

*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع

*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]

 

 

 

 

 



Contact
| إرسال مساهمتك | نموذج الاتصال
[email protected] | © 2025 syria.news All Rights Reserved