سوريا .. ما بين العدالة الانتقالية والعدالة الانتقامية...بقلم: فراس عبد العزيز الحوراني

06.01.2025 | 21:04

عندما يسقط نظام استبدادي أمعن في القتل والتعذيب لعقود، يصبح الحديث عن العدالة أكثر من مجرد مطلب؛ إنه ضرورة أخلاقية وسياسية لاستعادة إنسانية المجتمعات وإعادة بناء الدول. لكن العدالة ليست مفهوماً أحادي الأبعاد، بل تتعدد وجوهها بين العدالة الانتقالية والعدالة الانتقامية.

وبينما تكون العدالة الجنائية وهدفها الأصيل في الاقتصاص من المجرمين، تسعى العدالة الانتقالية إلى معالجة الجروح الاجتماعية وتحقيق المصالحة دون الانزلاق في فوضى الانتقام.

بعد انقضاء سنوات من ظلمات الطغيان والخراب، يولد البحث عن العدالة كصيحة شعب متعطش للإنصاف ورافض للتشفي. في سوريا، بلد التنوع والثراء الثقافي، تجسد المشهد السياسي لعقود في استبداد وقمع منهجي تجذر في نسيج المجتمع، لينخر كيانه ويغرقه في دوامة الظلم. سُجن الآلاف وعُذِّبوا حتى الموت في أقبية النظام، وأُلقيت جثثهم في مقابر جماعية تروي قصصاً من الرعب والقهر.

اليوم، في سوريا، يقف الشعب على مفترق طرق تاريخي: هل يمكن تحقيق العدالة من دون أن يتحول القصاص إلى وقود لدائرة عنف جديدة؟ وكيف يمكن أن تستفيد سوريا من تجارب العالم في العدالة الانتقالية لتجنب أخطاء الماضي والانطلاق نحو مستقبل يليق بتضحيات أبنائها؟

 

الفرق بين العدالة الانتقالية والعدالة الانتقامية:

العدالة الانتقالية ليست مجرد مفهوم قانوني أو إجراء تقني؛ إنها عملية شاملة تسعى لتحقيق الإنصاف في المجتمعات التي خرجت من نزاعات مدمرة أو أنظمة استبدادية. هي العدالة التي تهدف إلى تحقيق المصالحة الوطنية عبر مساءلة مرتكبي الجرائم، وتعويض الضحايا، ورد حقوقهم المسلوبة، مع ضمان بناء مؤسسات قادرة على منع تكرار الماضي المؤلم.

 

كما تختلف العدالة الانتقالية عن العدالة الجنائية التقليدية في الغايات والأدوات. العدالة الجنائية تسعى لمحاسبة الأفراد الذين ارتكبوا جرائم، سواء عبر محاكم وطنية أو دولية، بناءً على قواعد قانونية صارمة ومبادئ المحاكمات العادلة. أما العدالة الانتقالية، فهي إطار أوسع يُطبق في سياقات المجتمعات الخارجة من صراعات أو أنظمة قمعية. لا تقتصر على المحاكمات فقط، بل تشمل آليات أخرى مثل لجان الحقيقة

والمصالحة، تعويض الضحايا، والإصلاح المؤسسي.

لا يُعدّ تطبيق العدالة الانتقالية تناقضاً مع العدالة الجنائية، بل تكاملاً معها. فالعدالة الانتقالية تسد فجوات قد تعجز العدالة التقليدية عن معالجتها، مثل كشف الحقيقة وتحقيق المصالحة الوطنية. من هنا، يمكن القول إن العدالة الانتقالية ليست بديلاً عن العدالة الجنائية، بل طريقاً لتعزيزها وتوسيع نطاقها بما يضمن ألا يتحول القصاص إلى فوضى تُجهض أحلام التغيير.

في المقابل، تقف العدالة الانتقامية كنقيض للعدالة الانتقالية، حيث تسعى للثأر بلا ضوابط قانونية أو أخلاقية، مما يؤدي إلى استمرار دائرة العنف والكراهية. التاريخ يزخر بأمثلة على دول انزلقت في هذا الفخ، فتحولت نزاعاتها إلى حروب أهلية مستدامة. في بعض الحالات، أدى السعي الأعمى للانتقام إلى إضعاف فرص المصالحة، وتدمير النسيج الاجتماعي بشكل لا يمكن إصلاحه.

 

تجارب العالم مع العدالة الانتقالية:

منذ السبعينيات، شهد العالم نحو 40 تجربة للعدالة الانتقالية، كل منها يحمل دروساً عميقة. في تشيلي والأرجنتين، سعت لجان الحقيقة إلى توثيق جرائم الأنظمة العسكرية وإعادة الاعتبار للضحايا دون الانجرار إلى دوامة العنف. أما في رواندا، التي عانت من إبادة جماعية راح ضحيتها أكثر من 800 ألف شخص، فقد لجأت إلى محاكم”غاتشاشاالتقليدية، التي ركزت على تعزيز المصالحة الاجتماعية بعد نزاع دموي.

تجربة جنوب إفريقيا، بقيادة نيلسون مانديلا والأسقف ديزموند توتو، تُعتبر من أبرز الأمثلة. اختارت جنوب إفريقيا مواجهة إرث الفصل العنصري عبر لجان الحقيقة والمصالحة التي جمعت الجناة والضحايا في لقاءات مؤثرة كشفت حجم الانتهاكات، ومنحت بعض الجناة عفواً مشروطاً مقابل الاعتراف الكامل بجرائمهم. هذه التجربة نجحت في تجنب الحرب الأهلية وتحقيق مصالحة وطنية تُعدّ نموذجاً

يحتذى به.

في أوروبا، اختارت ألمانيا الشرقية، بعد اتحادها مع ألمانيا الغربية، تطبيق ما يسمى بـفقه القطيعة، حيث تم تفكيك المؤسسات المرتبطة بالنظام السابق وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة تماماً. أما في إسبانيا والبرتغال، فقد فضّل المجتمع ما يُعرف بـفقه التواصل، الذي ركز على إصلاح تدريجي مع المحافظة على استمرارية المؤسسات.

 

العدالة الانتقالية في السياق السوري:

سوريا، بما تحمله من تنوع مذهبي وعرقي يتسم بتعدد مكوناته العرقية والدينية؛ العرب، الأكراد، السريان، الدروز، العلويون، السنة، والمسيحيون، يشكلون لوحة فسيفساء غنية بالتنوع، تحتاج إلى نموذج خاص بها للعدالة الانتقالية. فالنظام السوري السابق ارتكب جرائم مروعة طالت جميع مكونات المجتمع، بدءاً من سجن صدنايا الذي تحول إلى مسلخ بشري، حيث عُذِّب الآلاف حتى الموت، مروراً

باستخدام الأسلحة الكيميائية في الغوطة وخان شيخون، وصولاً إلى المقابر الجماعية التي اكتُشفت في مناطق مثل داريا ودوما.

هذا الإرث المظلم يتطلب مواجهة شجاعة تكشف الحقائق وتعالج الجراح، فكما قال نيلسون مانديلا:”المصالحة لا تُصنع بالنسيان، بل بالمواجهة.” نعم هذه المواجهة الشجاعة التي ترتكز إلى العدالة لا إلى الانتقام الجماعي. فوضى القصاص لن تداوي آلام الضحايا، بل ستغرق البلاد في دوامة جديدة من العنف. العدالة الانتقالية يمكن أن تحقق الإنصاف للضحايا عبر لجان تحقيق تكشف الجرائم وتوثقها، مع محاكمات عادلة للجناة، وتعويض مادي ومعنوي للضحايا وعائلاتهم.

 

التحديات التي تواجه العدالة الانتقالية في سوريا:

تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا يواجه جملة من التحديات المعقدة، التي يمكن تلخيصها في ثلاث محاور رئيسية: سياسية، اجتماعية، ومؤسسية. ورغم تغير موازين القوى السياسية، لا تزال هذه التحديات قائمة وتعرقل مسار العدالة.

 

1. التحديات السياسية: على الرغم من أن النظام السابق لم يعد يسيطر بشكل كامل، فإن المشهد السياسي السوري لا يزال يتسم بالتعقيد. هناك أطراف متعددة على الساحة السياسية، بعضها يحمل أجندات متعارضة، مما يجعل الوصول إلى توافق حول آليات العدالة الانتقالية أمراً بالغ

الصعوبة. بالإضافة إلى ذلك، فإن التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن السوري تضع قيوداً على استقلالية القرار الوطني، حيث تُهيمن المصالح الجيوسياسية على الأولويات المحلية.

كما أن وجود قوى عسكرية وسياسية متعددة على الأرض يساهم في خلق حالة من الفوضى التشريعية، حيث تفتقر العديد من المناطق إلى سلطة مركزية قادرة على تنفيذ قرارات عدالة شاملة تشمل جميع السوريين.

 

2. التحديات الاجتماعية: الحرب السورية عمّقت الانقسامات الطائفية والعرقية بشكل كبير، مما أدى إلى فقدان الثقة بين مكونات المجتمع. التوترات بين هذه المكونات لا تزال تغذي المشاعر العدائية، مما يجعل تحقيق مصالحة وطنية شاملة أمراً صعب المنال. إضافةً إلى ذلك،

يعيش ملايين السوريين في المنفى أو في مخيمات اللجوء، مما يجعل إشراكهم في عملية العدالة الانتقالية تحدياً لوجستياً وإنسانياً.

 

3. التحديات المؤسسية: تعاني سوريا من انهيار شبه كامل في المؤسسات القضائية والقانونية.

المؤسسات القائمة تفتقر إلى الاستقلالية، وغالباً ما تكون منحازة أو فاقدة للشرعية في نظر المواطنين. بناء نظام قضائي جديد، قادر على محاسبة الجناة وضمان الإنصاف للضحايا، يتطلب وقتاً وموارد، وهو تحدٍّ كبير في بلد يعاني من أزمات اقتصادية وإنسانية خانقة.

رغم سقوط قبضة النظام الاستبدادي، فإن غياب رؤية موحدة وتعدد اللاعبين السياسيين والإقليميين، بالإضافة إلى التوترات الاجتماعية والضعف المؤسسي، يجعل من تحقيق العدالة الانتقالية

 

في سوريا مهمة شاقة. لكن هذه التحديات، مهما كانت معقدة، ليست مستحيلة الحل إذا ما توفرت الإرادة السياسية والتعاون الدولي لدعم عملية بناء سوريا جديدة على أسس العدالة والمساواة.

 

خارطة طريق لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا:

رؤية شاملة للمصالحة الوطنية لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا، لا بد من تبني رؤية شاملة تراعي تعقيدات الواقع السوري وتستفيد من التجارب العالمية. خارطة الطريق نحو العدالة الانتقالية يجب أن تكون متعددة الأبعاد، مع التركيز على معالجة الإرث الثقيل للجرائم والانتهاكات، وتحقيق المصالحة الوطنية، وبناء مستقبل قائم على احترام القانون وحقوق الإنسان. هذه الخارطة تتطلب دوراً فعالاً

للمجتمع السوري الواعي، ودعماً حقيقياً من المجتمع الدولي لضمان النجاح ومنع الانزلاق نحو العدالة الانتقامية.

دور المجتمع السوري الواعي في تحقيق العدالة الانتقالية:

رغم المعاناة الهائلة التي مر بها السوريون، أظهرت فئات واسعة من المجتمع وعياً متقدماً بأهمية تجاوز الماضي دون السقوط في فخ الانتقام. المبادرات المحلية في مناطق مثل درعا والغوطة، حيث قاد قادة المجتمع جهوداً للتصالح وحل النزاعات، تؤكد قدرة المجتمع على قيادة جزء كبير من عملية العدالة الانتقالية.

هذا الوعي المجتمعي الذي أبداه السوريون يساعد في تخفيف التوترات الطائفية والعرقية التي عمقتها الحرب. السوريون يدركون أن المصالحة الوطنية ضرورة لتحقيق الاستقرار وبناء مستقبل مشترك، بعيداً عن الثأر والكراهية.

تُمثّل لجان الحقيقة والمصالحة نافذةً تُطل منها الشعوب على ماضيها المثقل بالجرائم، حيث تكشف خفايا الانتهاكات الكبرى كفصول سجن صدنايا والهجمات الكيميائية، فتُرسّخ الشفافية وتفتح الباب أمام مساءلة عادلة. أما إصلاح المؤسسات، فهو حجر الزاوية، حيث يُفكك إرث القمع ويُعيد بناء منظومة قضائية وأمنية ترتكز إلى الكفاءة والاستقلالية. وأخيراً، يبزغ الحوار الوطني كجسرٍ بين مكونات الشعب السوري، يرأب صدوع الحرب ويُعيد بناء الثقة عبر جهود تصالحية يقودها أبناء الوطن أنفسهم، لضمان عدم الانجرار نحو العدالة الانتقامية من خلال وضع آليات صارمة تمنع تصفية الحسابات الشخصية أو الطائفية، مثل حظر المحاكمات العشوائية وتقديم ضمانات قانونية للمتهمين مما يمنع من تأجيج مشاعر الكراهية ويحد من ردود الأفعال الانتقامية.

 

دور المجتمع الدولي في دعم العدالة الانتقالية في سوريا:

المجتمع الدولي يمكنه تقديم المساعدات اللازمة لتأسيس لجان الحقيقة والمصالحة، ودعم بناء المؤسسات القضائية والأمنية. ،كذلك تمويل برامج تعويض الضحايا ومشاريع إعادة الإعمار الاجتماعي مما يسهم في تعزيز المصالحة واستعادة الثقة بين المواطنين.

كذلك الدور الهام للمحاكم الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية، لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم الكبرى مثل استخدام الأسلحة الكيميائية أو الإبادة الجماعية. وتقديم الخبرة القانونية والفنية لضمان نزاهة المحاكمات واستقلاليتها.

كما يتوجب على المجتمع الدولي أن يلعب دوراً في مراقبة العملية الانتقالية وحمايتها من التدخلات الإقليمية أو المحلية التي قد تُجهض جهود المصالحة.

 

الخاتمة:

حين تتصالح الأمم مع ماضيها المثقل بالدماء والدموع، تولد من عمق الألم شجرة تُثمر سلاماً وعدلاً. وسوريا، التي كُتب تاريخها بأقلام المعاناة وأوراق من دماء أبنائها، تقف اليوم على أعتاب فجر جديد. ليس طريق العدالة الانتقالية مجرّد جسر تعبره البلاد من الظلم إلى الإنصاف، بل هو البذرة التي تُزرع في أرضٍ أنهكها القهر لتنبت وطناً تصان فيه الكرامة، وتُحمى فيه الحقوق.

 

المصالحة ليست استسلاماً، بل شجاعة تواجه الماضي بعيون مفتوحة، وتنظر إلى المستقبل بأمل. فكما تنقش الشمس ملامح النور على جبين الليل الطويل، فإن عدالة تعانق الإنصاف دون أن تطلق سهام الانتقام قادرة على أن تُعيد لسوريا روحها التي كادت أن تضيع.

من شتات الخراب، تُولد قوة جديدة، ومن رماد الحرب قد ينهض وطن ينشد السلام. وما بين وعي شعبه وإصراره على الحياة، ودعم العالم لإنصاف ضحاياه، يمكن لسوريا أن تصبح شاهداً على أن العدالة ليست مجرد حكم، بل نبض يعيد الحياة إلى قلب أمة أرهقها النزيف ليتحول الألم السوري إلى درس عالمي في المصالحة والإنسانية.

فراس عبد العزيز الحوراني

 

*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة على سياسة الموقع

*ارسل مساهمتك على الايميل
 [email protected]

 

 



Contact
| إرسال مساهمتك | نموذج الاتصال
[email protected] | © 2025 syria.news All Rights Reserved