سوريا ليست كلمة عابرة في التاريخ، ولا حجر عثرة بوجه الحضارة، من يتابع سوريا وجمهوريتها الأولى ومنجزاتها، سيعلم علم اليقين أن السوريون لطالما كانوا قادرين على إدارة شؤونهم بأنفسهم بكل تقدم ورقي وحضارة.
فلا تنظر أيها السوري إلى غيرك من بلدان العالم المتحضر اليوم، نظرة الغريب عنها، البعيد عن منالها، فالأمة التي انتخبت رئيسها سابقاً وجرت بها مراسم استلام وتسليم سلمي للسلطة، ستصحو من كبوتها مهما طال بها عهد التخلف والاحتكار الدموي للسلطة.
تنشر سيريانيوز اليوم بالتفصيل لمراسم تسليم واستلام السلطة الجارية في أيلول من عام 1955 فيما بين الرئيسين هاشم الأتاسي وشكري القوتلي، وذلك من خلال وثائق صحفية متوفرة في إرشيفها وثقت ذلك الحدث بكل دقة، لتضعه أمام السوريين اليوم بعد فترة طويلة من التغييب القسري في سجون النسيان.
الرئيس القوتلي يتسلم سلطاته الدستورية
نص خطاب الرئيس الأول في حفلة القسم – نص وثيقة انتقال السلطات الى الرئيس الجديد
في الساعة التاسعة من صباح أمس حضر الى دار فخامة الرئيس شكري القوتلي دولة رئيس مجلس الوزراء والمدير العام للشرطة والأمن ومدير المراسم والمرافق العسكري، وفي الساعة التاسعة والربع امتطى فخامته سيارة الرئاسة والى يساره دولة رئيس مجلس الوزراء وتحرك الموكب يحف به رجال الحرس الجمهوري راكبو الدراجات النارية الى القصر الجمهوري ولدى وصول فخامته الى أمام القصر عزفت موسيقى النشيد السوري وأدت سريتان من الجيش التحية الرسمية لفخامته، وبعد أن استعرض يرافقه رئيس مجلس الوزراء قوى الجيش استقبله على الباب الخارجي الأمين العام للقصر وكبار الموظفين واستقبله لدى الباب الداخلي فخامة الرئيس هاشم الأتاسي ودولة رئيس مجلس النواب والوزراء وصعد الجميع الى الطابق العلوي وبعد استراحة قصيرة قلد فخامة الرئيس الأتاسي فخامة الرئيس القوتلي الوشاح الأكبر من وسام امية الوطني .
وفي الساعة العاشرة غادر صاحبا الفخامة قصر الرئاسة بموكب رسمي يحف به رجال الحرس الجمهوري راكبو الدراجات النارية ولدى وصول الموكب الى أمام المجلس النيابي ترجل صاحبا الفخامة فعزفت موسيقى النشيد السوري وأدت سريتان من الدرك وسرية من الشرطة التحية الرسمية لهما، وبعد أن استعرضا مرافقوهما قائد الدرك العام السريات اتجها الى الندوة النيابية فاستقبلهما لدى الباب الخارجي صاحبا الدولة رئيسا المجلس النيابي ومجلس الوزراء والوزراء وأعضاء مكتب المجلس ومرافقوهما الى قاعة الاستقبال الكبرى وفي الساعة العاشرة والدقيقة 20 افتتح دولة الدكتور القدسي جلسة المجلس بتلاوة أسماء النواب الغائبين المأذونين ثم استأذن النواب في دعوة الرئيسين لحضور الجلسة وحين دخل صاحبا الفخامة قاعة الجلسة يرافقهما دولة رئيس المجلس وقف النواب والنظارة اجلالا وصفق الجميع تحية لهما، وبعد أن جلسا على المقعدين اللذين أعدا لهما أمام منبر المجلس دنا دولة رئيس المجلس فخامة الرئيس القوتلي الى أداء القسم تنفيذا لأحكام المادة 57 من الدستور فصعد فخامته الى المنبر ووقف النواب والنظارة فأدى القسم الدستوري في الساعة العاشرة والنصف تماما وحين انتهى من أدائه دوت القاعة بالتصفيق الشديد، وبدأت المدفعية بإطلاق 21 طلقة .
وألقى فخامة الرئيس القوتلي بعد ذلك الخطاب التالي :
أيها النواب الكرام :
في جلسة سابقة عقدها مجلسكم الموقر دعوتموني مرة جديدة الى القيام بأعباء رئاسة الجمهورية وقد وجه إلي دولة رئيسكم على إثر الانتخاب كلمات طيبة وأماني صادقة، فإليكم جميعا خالص الشكر على جميل ثقتكم التي أوليتموني إياها بعد أحداث متوالية مرت في هذه البلاد.
أما الذين توجهوا باختيارهم الى مرشح سواي، يؤسفني أن لا يكون اليوم حاضراً هذه الجلسة بسبب مرض ألم به، فقد قاموا بعمل هو من طبيعة الحياة الديموقراطية العريقة ومألوف التقاليد الجمهورية الأصيلة، ولهؤلاء وأولئك عندي منزلة واحدة، بحكم المهمة الخطيرة الملقاة على عاتقي بسم الأمة .
وإني الان، وقد طويت صفحة الانتخاب، لأود من صميم قلبي أن تتجه الأحزاب والهيئات نحو اتحاد قومي، في هذه الأزمات الصعاب التي نواجهها نحن ويواجهها العالم العربي بأسره , فيشد بعضنا إزر بعض في العمل على إسعاد وطننا، ورفع مستوى شعبنا وإدراك المثل العليا التي تستهوي أفئدتنا، ونتطلع من خلالها الى انشاء مجتمعه يسوده الحق والعدل والاخاء .
أيها النواب الكرام :
قد تتساءلون عن البرنامج الذي وضعته لنفسي وقررت اتباعه والاهتداء به، فأقول إن هذا البرنامج قد تلوته عما قليل، إنه في القسم الذي أشهدت الله عليه، وآليت على نفسي أمامكم ألا ادخر جهدا في سبيله، هو التمسك بالدستور، رمز سيادة الأمة وعنوان ضميرها القومي، واحترام القوانين، والمحافظة على حريات الشعب ومصالحه وأمواله، والإخلاص للنظام الجمهوري في السر والعلن، وحماية استقلال الوطن وسلامة أرضه، وتعزيز قوانا الدفاعية التي توكل إليها هذه المهمة المقدسة، والسعي لتحقيق وحدة البلاد العربية التي تربط بينها أوثق الصلات وابقاها على الدهر، حتى تصبح أمنية اليوم حقيقة الغد .
ولا يخامرني شك أن تطبيق النصوص الدستورية تطبيقا صحيحا، يجعل في متناول أيدينا إحدى الوسائل التي تستهدف استقرار الأوضاع في البلاد وضمان حقوق الأفراد والجماعات، وافتتاح عهد جديد تتعاون فيه سلطات الدولة وتضطلع بواجباتها في خدمة الامة، وتأمين الرغد والرخاء لجميع طبقاتها، ولا سيما الطبقات العامة الكادحة التي يجب أن تنال حقها كاملا من العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
أيها النواب الكرام :
إن احداثا خطيرة تقع في بعض أجزاء العالم العربي وتضطرب لها سائر ربوعه، فمصر الشقيقة تنشب بينها وبين اسرائيل معركة حامية الوطيس هي معركة الأمة العربية التي يناصبها العدو حرب قناة وجلاء في قلب بلادها وعقر دارها، وتقف منها مصر الآن في صف القتال الأول، وإني في الوقت الذي احيي قادتها وجيشها و شعبها، اشعر بأن واجبا عظيما يقع في هذه الساعات الحرجة على كاهل كل عربي، وكاهل كل حكومة عربية، واجبا يستمد قوته واسبابه من روابط الإخاء الصحيحة والمصالح الدائمة والحقائق الثابتة، ويتجاوز تجاوزا بعيدا ما تقضي به العقود الملزمة والمواثيق المبرمة، فالحرب التي تشتعل لظاها في أطراف غزة والاعتداءات الأثيمة التي تواصلها اسرائيل في أنحاء مختلفة، سيكون من نتائجها اضطراب جميع خطوط الهدنة التي نعتبرها خطا واحدا للشعوب العربية.
وإني إذ ابعث إلى هذه الشعوب وإلى حكوماتها بتحية الأخوة الصادقة على ما أظهرته من التضامن في هذا الموقف الخطير ، أرى حقا علي أن اوجه إلى الجيش السوري المرابط على حدود الوطن تحية الإعجاب والتقدير لما يبديه من الاستعداد للبذل والتضحية في سبيل الذود عن حياض الوطن والدفاع عن تراث الأمة العربية .
ومن دواعي الأسف الشديد ، أننا ونحن نواجه هذا الخطب الجسيم منذ سنوات عديدة ، نلتفت فنرى الأمة العربية فسيحة الأرجاء في افريقيا ما زال الاستعمار ملقيا فيها جراته ، هو يستعين لبلوغ مآربه بآلة حرب هائلة وجيوش مدججة تحاول ارغام شعوبها الأبية على الخضوع لسلطان لا تريده ، على حين أنه قد ازفت الساعة التي تحقن فيها الدماء ، وتنال الرغائب القومية ما يرضيها ويطمئنها من الحياة الحرة المستقلة ، اما الاعتماد على تحكيم القوة في مثل هذه الأمور ، فعدا ما فيه من إنكار لأقدس قواعد حقوق الانسان ، سيكون مصيره في اخر الأمر الاخفاق والفشل ، كما دلتنا التجارب القريبة والبعيدة ولكنه بعد أن يبقي في النفوس مرارة الأحقاد والضغائن ، ويخلف من آثار الخراب والدمار ما يظل ماثلا في الخواطر ، وليس حقا ولا عدلا ان يحل العنف والشدة والاكراه ، في علائق الشعوب بعضها ببعض ، محل الشعور الانساني والمفاوضات السامية والصلات الودية.
أيها النواب الكرام :
لقد استعرضت واياكم أهم الشؤون التي تفرضها علينا الساعة الحاضرة، وإني أقف هنيهة قبل الختام لتحية صاحب الفخامة الرئيس الجليل السيد هاشم الأتاسي لما قدمه لأمته وبلاده.
وهو مابرح خلال مدة الرئاسة محفوفاً بعناية الله ورضى أبناء وطنه، محمود الذكر والأثر ويسعدني أن أشيد بمآثره التي تتناسب مع مقامه الرفيع بين مواطنيه خلال ستة وثلاثين عاما من تاريخ النضال وتاريخ الحكم الوطني وجعلته جديراً بالكلمة المأثورة (لقد استحق شكر الوطن) .
وإني أسأل الله بعد ذلك، أن يمدني بالقوة والحكمة حتى أكون قادرا على أداء مهمتي، وحسن القيام بالتبعات الملقاة على عاتقي . معتمدا على مؤازرتكم ومؤازرتي الامة، التي تضاعف من ثقتي لبلوغ النجاح، ويزداد معها أملي بإجماع كلمتنا في إخلاص مشترك للخير العام ومصلحة البلاد, ومبادئ الحق .
والسلام عليكم .
وقد قوطعت جمل الخطاب عدة مرات بالتصفيق الشديد، وبعد انتهاء الرئيس القوتلي من القاء خطابه أعلن دولة الدكتور القدسي رفع جلسة المجلس الى ما بعد تشكيل الوزارة ودعا النواب الى القاعة الكبرى لحضور حفلة توقيع انتقال السلطات من فخامة السيد الأتاسي الى فخامة الرئيس القوتلي.
وجلس الرئيسان على منصة القاعة الكبرى وبينهما دولة رئيس المجلس النيابي والى يسارهما دولة رئيس مجلس الوزراء وبعد أن تلى دولة الرئيس القدسي وثيقة انتقال السلطات مسطرة على نسختين قدمهما لفخامة السيد الأتاسي فوقعها، ثم وقعها فخامة الرئيس القوتلي ووقوعها رئيسا المجلس النيابي ومجلس الوزراء ورئيس المحكمة العليا وسلمت النسخة الأولى الى أمين القصر الجمهوري وسلمت الثانية الى المكتب الاداري للمجلس النيابي لحفظها وفيما يلي نص هذه الوثيقة :
بسم الله الرحمن الرحيم
في هذا اليوم الثلاثاء الثامن عشر من محرم الحرام عام الف وثلاثمائة وخمسة وسبعين للهجرة الموافق للسادس من ايلول عام ألف وتسعمائة وخمسة وخمسين للميلاد جرى في ندوة مجلس النواب انتقال السلطات التي خولها الدستور لحضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السيد هاشم الأتاسي إلى حضرة صاحب الفخامة السيد شكري القوتلي الذي انتخبه مجلس النواب رئيسا للجمهورية في يوم الخميس التاسع والعشرين من ذي الحجة عام الف وثلاثمائة وأربعة وسبعين للهجرة الموافق للثامن عشر من آب عام الف وتسعمائة وخمسة وخمسين للميلاد وقد شهد ذلك صاحبا الدولة الدكتور ناظم القدسي رئيس مجلس النواب والأستاذ صبري العسلي رئيس مجلس الوزراء والسيد وجيه الأسطواني رئيس المحكمة العليا وإثباتا لما تقدم وقعت هذه الوثيقة على نسختين حفظت الأولى في قصر الرئاسة والثانية في دار مجلس النواب .
وبعد الانتهاء من التوقيع صافح السيد الأتاسي الرئيس القوتلي مباركا ومهنئا وتبعه رئيس المجلس النيابي ومجلس الوزراء ورئيس المحكمة العليا والوزراء والنواب ورؤساء البعثات السياسية وكبار موظفي الدولة وغادر الرئيسان المجلس إلى قصر الرئاسة بموكب رسمي حيث أقام فخامة الرئيس القوتلي مأدبة غداء تكريما لفخامة السيد الأتاسي حضرها رئيسا مجلس النواب وجلس الوزراء والوزراء والنواب وكبار موظفي الدولة .
وفي الساعة الثانية والنصف غادر الرئيسان القصر الجمهوري في موكب رسمي إلى السرادق المقام في القابون فعزفت لهما موسيقى النشيد السوري وأدت لهما سريتان من الجيش التحية الرسمية واستعرضا يرافقهما رئيس الأركان العامة قوى الجيش ثم امتطى فخامة الأتاسي سيارته متجها إلى حمص في موكب رسمي مشيعا بالإجلال والإكرام وقد جرى لفخامته استقبال رسمي في حمص .
هذا وسيستقبل فخامة الرئيس القوتلي هذا المساء رئيس وأعضاء الوزارة حيث يرفع دولة الأستاذ العسلي لفخامته استقالة وزارته ثم يجتمع فخامته إلى ممثلي الأحزاب والكتل بصورة رسمية ليتداول معهم في تشكيل الوزارة الجديدة وتتوقع المصادر السياسية أن تصدر مراسم تشكيل الوزارة الجديدة هذا اليوم – الأربعاء .