نجح الصحفي مراد غريب أخيراً في لقاء السلطان عبد الحميد الثاني، وأجاب السلطان عن أسئلة مراد برحابة صدر، وتطرق الحديث إلى ظروف حكم عبد الحميد وعمل الدول الأجنبية الدؤوب لتقويض حكمه وتفتيت الدولة العثمانية، كما كشف السلطان عن معلومات غاية في الأهمية عن الحركة الصهيونية ومحاولة اليهود الحصول على أرض في فلسطين وكيف وقف هو ضد هذا المشروع .. ونتابع في الجزء الثاني بقية اللقاء ..
كانت فرصة عظيمة بالنسبة لي أن أقضي ليلة إضافية في "بيلار بيه" وأتجول في أرجاء هذا القصر الرائع الفسيح، بالطبع، دائماً برفقة "مصطفى" الذي علمت أنه كاتب لدى السلطان ويساعده في تدوين مذكراته.
وهكذا استطعت أن أحصل على تفاصيل إضافية حول بعض المواضيع منه، أهمها تلك التي تتعلق باليهود وفلسطين.
مصطفى الذي كان شاهداً على بعض الحوادث ودوّن تفاصيل بعضها الآخر عن لسان السلطان نفسه، أخبرني عن محاولات هيرتزل مؤسس الحركة الصهيونية وروتشيلد المصرفي اليهودي المعروف لإقامة قرى يهودية في فلسطين، وكيف أن السلطان تصدى لهذه المحاولات ورفض أي طلب يتعلق بالموضوع.
وأمر السلطان عبد الحميد بعد أن علم بنوايا اليهود أن يتعقب سفراء الدولة العثمانية في واشنطن وبرلين وفيينا ولندن وباريس الحركة الصهيونية ويرسلوا تقاريرهم أولاً بأول إلى السلطان، وبنتيجة هذه المتابعة خطّ السلطان بنفسه السياسة العثمانية تجاه مطامع اليهود في فلسطين.
وأكد مصطفى لي أن السلطان أصدر قرارين (إرادة سلطانية) بـ"عدم قبول الصهاينة في الأراضي العثمانية وإعادتهم إلى الأماكن التي جاؤوا منها".
وأعطى السلطان أوامره إلى نظارة الشؤون العقارية بعدم بيع أرض للمهاجرين إلى فلسطين، وعلق مصطفى على هذه السياسة يقوله: "ربما تسبب السلطان بهذه السياسة المتشددة تجاه الحركة الصهيونية بهدم عرشه .. أعتقد أنه تسبب في هدم الدولة العثمانية كلها ..".
وتطرق مصطفى في حديثه معي إلى جزئية ذات دلالة وهي تتعلق بالوفد الذي كلف بتبليغ السلطان قرار خلعه وكان مؤلفاً من أربعة أشخاص كان هناك شخص يهودي منتمٍ للحركة الصهيونية، وأشار إلى أن هذا الشخص ذاته كان في الوفد الذي رافق هرتزل في العام 1898 عندما حاول الصهاينة شراء الأراضي في سنجق القدس (فلسطين) ورفض السلطان الطلب وقتها .. ووصف مصطفى هذه الحادثة بأنها "غريبة" وقال: "لا أعرف حقيقة من اختار أن يكون هذا اليهودي بالذات في الوفد الذي بلّغ السلطان قرار خلعه!؟".
أرشدني أحد الخدم إلى غرفتي وكانت في نهاية رواق طويل في الطابق الثاني، غرفة متسعة سقفها عال ككل غرف وصالونات القصر، ولها نوافذ كبيرة عليها طبقتان من الستائر وتطل مباشرة على البوسفور.
أرضية الغرفة فُرشت بسجادة كبيرة غاية في الروعة ووضع بجانب أحد الجدران فيها سرير عريض أبيض زُيّن مسنداه الأمامي والخلفي بالنقوش والرسوم المائية وفي الطرف الآخر من الغرفة كان هناك كرسي طويل (شيزلونغ) وبجانبه "طربيزة" مصنوعة من الخشب المطعم بالصدف وبعض الكراسي العادية.
في ركن من أركان الغرفة يوجد "بارفان" يؤمن مساحة للزائر لتغير ملابسه، وفي الركن الآخر حمام صغير خاص بالغرفة.
لاحظت أنه لم يكن في الغرفة أي لوحات أو زينة على الجدران كانت بسيطة مطلية بالأبيض المائل للون الزهري، وفي وسطها "ثريا" متوسطة الحجم مصنوعة من الكريستال البوهيمي الأبيض والأزرق.
دخلت الغرفة في وقت مبكر من مساء ذاك اليوم (مبكر بالنسبة لي)، الشمس بدأت بالغروب وأشعتها كانت تنعكس حمراء على سطح مياه البوسفور فيما تجوب المراكب الصغيرة (القايق) والسفن المضيق، وبدأت تظهر الأنوار الخافتة من الطرف الآخر (الأوروبي) من العاصمة اسطنبول.
وضعت كرسياً قريباً من النافذة ورحت أتأمل المدينة وحركة السفن وانعكاس أنوار القصر على المياه الذي شكل لوحة رائعة.
لم يمض وقت طويل حتى قُرع الباب، واستأذنني الخادم بإدخال العشاء، وكما العادة تقدم أحدهم طابوراً من الخدم مؤلفاً من 4 أشخاص، وضع الأول منهم مائدة واطأة على الأرض وبجانبها بعض الوسادات، ووضع الآخر الصحون ولوازم المائدة وتبعه الباقون في وضع عشاء خفيف مؤلف من مرق اللحم والشوربة والخبز وأنواع متعددة من الفواكه.
انسحبوا بهدوء، وكنت بطبيعة الحال جائعاً لأني لم آكل كما يجب في حضرة السلطان، استمتعت بالطعام الذي تناولته على مهل وكنت أحياناً أنهض وفي يدي خبز أو قطعة فاكهة أتناولها وأنا واقف أمام النافذة أتأمل المشهد البانورامي أمامي وأكاد "أقرص" يدي لأتأكد أني لست في حلم وأن كل ما يمرُّ عليّ هنا حقيقة.
في صباح اليوم التالي وبعد أن تناولت إفطاري في وقت مبكر (7 صباحاً) أعلمني مصطفى أن السلطان ينتظرني عند الساعة الثامنة في البهو في الطابق الأرضي، ولما حاولت الاستفسار فيما إذا كان مشغولاً وكم معي من الوقت حتى أقضيه معه. شرح لي مصطفى بشكل غير مباشر، أن السلطان يقيم في القصر بما يشبه الإقامة الجبرية وأنه ليس من المسموح أن يستقبل الزائرين إلا بإذن مسبق من السلطان الحالي (محمد رشاد) ومن خلفه الحاكم الفعلي للدولة العثمانية .. الاتحاديون (جمعية الاتحاد والترقي)، وأنه عملياً يعيش حياة هادئة ويشغل نفسه ببعض الأعمال مثل النجارة التي يحبها ويتقنها، حتى أنني تفاجأت أن كثيراً من مقتنيات القصر الخشبية من صنعه.
وبالتالي فإنه يمكنني أن أقضي ما أشاء من الوقت معه .. ولكن علي أن أتذكّر أن الغذاء يكون في الساعة الحادية عشر ..
نزلنا إلى الطابق السفلي وكان السلطان جالس على كرسي في الصالون الذي ارتفعت فيه عواميد زرقاء كأنها مرمر، تقدمت منه وحييته بانحناءة ووقفت أنتظر ما يقول.
نهض السلطان من جلسته وقال لي لنخرج قليلاً إلى الحديقة يمكنك أن تكمل أسئلتك ونحن نقوم بجولتنا هناك.
مشى أمامي ولحقت به لأمشي بجانبه، خرجنا إلى الحديقة وكانت كبيرة تحيط بالقصر من كل الجوانب، منظمة بشكل أنيق، العشب مقصوص تخترقه ممرات ضيقة مرصوفة بالمرمر الأبيض تظللها أشجار كبيرة باسقة.
"هذه الأرض التي تقع في قلب العالم وتشكل مركز شبكة طرق بين أوروبا وآسيا وإفريقيا .. هذه الأرض بأهمية موقعها وثرواتها بالإضافة إلى أهميتها الدينية لا بد أن تبقى في قلب مطامع الدول الأجنبية، ولن يهدأ لهم بال قبل أن يحولوا هذه الصخرة التي جثمت على صدورهم كل تلك القرون إلى مجرد غبار.
وجواباً على سؤالك .. أقول إن أرضنا ما تزال عذراء وفيها من الثروات والكنوز ما يجعل أعداءنا متربصين بنا، يحاولون المرة تلو الأخرى إضعافنا والسيطرة علينا.. اسمع هذه الحكاية الغريبة التي سأوردها كمثال على أطماعهم فينا وكيف ينظرون إلينا ..لأنه يصعب علي أن أورد كل تفاصيل سياستهم في لقاء قصير كهذا .. ربما يحتاج هذا الأمر إلى كتب ومجلدات.."
كنا وصلنا إلى مبنى صغير في أحد طرفي الحديقة المطلة على البوسفور، وهو مبنى ملحق دائري مشكل من عدة نوافذ متلاصقة على شكل قناطر تتحد في أعلاه لتشكّل ما يشبه رأس خيمة حجري، دخلنا إليها وكان مشهد مياه المضيق أمامنا رائعاً، قرب إحدى نوافذها كان هناك "جلسة" مؤلفة من كرسيين و"طربيزة" صغيرة بينهما، جلس السلطان على أحداها ودعاني للجلوس على الكرسي الآخر ..
وتابع الحديث:
"لقد بدأ الإنكليز في السنوات الأخيرة من عهدي بالتقرب مني بطريقة لم أستطع فهمها في البداية، وذات يوم قابلني السفير الإنجليزي وتحدث طويلاً عن الأناضول وسوريا والحجاز وأن هذه المناطق ضمّت أعظم حضارات التاريخ، وسألني إذا كنت أفكر في مشروع التنقيب عن الآثار فيها، وأن اللقى الأثرية لها قيمة كبيرة وربما غيّرت بعض الاكتشافات وجه التاريخ، وسيمكّن هذا العلماء من الحصول على معلومات ذات قيمة كبيرة ..
وأعلمني أن الحكومة الإنكليزية ستتحمل كامل التكاليف في حال وافقت على عملية التنقيب، وفوق هذا سيتركون كل ما يعثرون عليه من الآثار واللقى لنا دون مقابل.
وبالفعل أرسلوا مجموعة من علمائهم إلى اسطنبول دونما تأخير وبدأوا التنقيب في منطقة قيصيرية في الأناضول وفي مناطق متفرقة من العراق مثل الموصل وقرب بغداد وبالطبع كنت أرسلت مع هذه البعثات رجالاً متخفين أثق بهم كي أبقَ على اطلاع على حقيقة أعمالهم.
ماذا تتوقع أنه حدث بعد ذلك؟..
سألني وكأنه يريد إثارة فضولي حول ما حدث ..
"حتى لا أطيل الكلام .. اكتشفت بعد مدة قصيرة أن الإنجليز والألمان - الذين جاؤوا إلي بذات المطلب بعد الإنكليز بفترة وجيزة (البحث عن الآثار) - كانوا يحفرون الآبار بحثاً عن النفط وبدأوا باستخراجه بالفعل من مناطق متعددة في العراق .. تخيل؟! .. هل يمكنك أن تصدق هذا .. هل يمكن أن تتخيل ان هذه الدول التي تتدعي المدنية يحكمها مجموعة من اللصوص؟.."
توقف قليلاً وهز رأسه وارتسمت على وجه ابتسامة ساخرة ثم تابع ..
"بالطبع .. أوقفت أعمال الحفر وأرسلت في طلب الاستشارة من أميركا لأنها كانت متقدمة جداً في هذا المجال، ولم نلقَ اهتماماً منهم في هذا الخصوص بحجة أن النفط متوفر بكثرة في بلادهم .. وحاولت أن أقيم اتصالات مع اليابان .. ولا أعرف ماذا حصل لأنني أُبعدت عن العرش وقتها.."
بماذا طمعوا .. لقد طمعوا في كل شيء، الأرض وما فيها وما عليها .. يكفي الصراع الذي كان قائماً بينهم من أجل الطرق والممرات المائية ومد سكك الحديد، لقد وجدت نفسي في حالة دفاع عن مصالح شعبي لهجوم من كل الأطراف وفي كل القطاعات .. هل أدركت الآن لماذا لم نتمكن من إعداد شعوبنا الإعداد اللازم ليلحقوا بباقي الأمم التي سبقتنا في مضمار العلم والتمدن .. ؟"
توقف عن الكلام وراح يراقب سفينة تمر على مقربة منا تتجه باتجاه البحر الأسود، ورحت أفكر أنه بعد كل هذه السنين، وبعد أن عانينا من الاستبداد والاستئثار بالسلطة وسمعنا التبرير والذرائع، وشاهدنا الجرائم بحق الشعوب والأوطان.. فإن كل المستبدين يقولون.. ظروف.. حرب.. مقاومة.. مؤامرة.. كلهم لديهم أسبابهم.. هم بريئون ونحن الذين ندفع الثمن …
التفكير بهذه الطريقة واسترجاع ما عانينا وما زلنا نعاني منه حتى اليوم أعطاني دفعة جرأة - زائدة - جعلتني أندفع وأطرح سؤالي التالي ..
لم يبدو عليه أياً من أمارات الغضب أو عدم الرضى، على العكس تماماً ترك مراقبة السفينة واستدار باتجاهي. ابتسم، وقال:
"تعتقد بأني سأغضب من هذا الكلام، ولكني منذ أن تركت الحكم وأنا أسمع مثل هذه الاتهامات في الصحف والكتب والمذكرات، لم أعد أستغرب مثل هذا الكلام الذي يحاولون من خلاله تشويه عهدي..
سأقول لك نعم كل مستبد ديكتاتور يتكلم عن الظروف والضغوط والتحديات، ولكن هذا لا يعني أن كل من تكلم بهذا المنطق أصبح ديكتاتوراً، يجب أن تتوفر عوامل أخرى لكي نطلق صفة المستبد على الحاكم. مثلاً أن يكون متمسكاً بالسلطة حتى الموت، أن يكون دموياً في الدفاع عن السلطة إذا اقتضى الأمر، أن يعلي مصلحته الشخصية على مصالح الدولة... أليس كذلك؟"
"لن أذهب كثيراً في موضوع الدفاع عن نفسي، ولكن يكفي أن أعيد التذكير أنه في كل فترة حكمي لم أعدم إلا شخصاً واحداً تحت ظروف خاصة لا مجال لذكرها هنا، كل أحكام الإعدام التي صدرت عن القضاة استبدلتها أنا بالسجن، وأقصى عقوبة كنت اتخذها بحق خصومي هي النفي إلى ولايات أخرى، لم أكن أحب القتل على الإطلاق تحت أي مسوغ ولا أطيق إراقة الدماء وحتى أني ضد كل الحروب .. وهذا أولاً..
ثانياً.. أنا لم أتمسك بالسلطة وعندما حصل التمرد وكان بإمكاني وقف المتمردين وسحقهم لم أفعل ذلك، بالدرجة الأولى حرصاً مني على عدم إراقة الدماء والسبب الثاني والأهم لأني أيقنت أن هناك جزءاً من الأمة لا يريدني، فسلمت السلطة كما لم يسلمها حاكم قبلي، كان مستبداً أو غير مستبد ..
وأخيراً طالما أعليت شأن دولتي ومصلحة شعبي على مصالحي الشخصية، وأكبر مثال ضربته لك رفضي إعطاء اليهود أرضاً في فلسطين وأنا أعلم قوتهم وخبثهم وأعلم أن هذا قد يزعزع قواعد حكمي، عرضوا عليّ 50 مليوناً من الجنيهات للدولة، وأكشف لك أنهم عرضوا علي شخصياً خمسة مليونات وهو مبلغ كبير جداً حتى لمقام سلطان مثلي.. ولم ترف عيني وأنا أرفض الطلب.. وطردتهم من قصري وحاربتهم..
هكذا تعاملت مع كل قضايا أمتي، وأكثر من ذلك، لطالما دفعت من جيبي الخاص لتمويل قضايا عامة تهم الدولة عندما أحسست أن الدولة عاجزة عن السداد..
بعد كل هذا هناك من يقول إني مستبد.. فليقل.. فهذا يجانب الحقيقة.."
توقف عن الكلام ولكني أحسست أنه لا يزال يريد قول المزيد في هذا الخصوص، فصمت أنا أيضاً، ورحنا نتأمل المضيق للحظات شعرتها طويلة، ولكنه وكما توقعت تابع الحديث بعدها...
"من يقول عني إني دموي أتحداه أن يذكر لي أني قتلت إنساناً واحداً أو سجنت أيا ًمن أفراد رعيتي دون وجه حق، ائتيني بأي شهادة لواحد من هؤلاء أو لأحد أبنائه أو أحفاده إذا لم يكن هو على قيد الحياة.. عندها يمكن أن نناقش هذه الصفة التي كنت بعيداً عنها كل البعد.. فأنا إنسان رحيم بطبعي.. وربما أكثر مما يلزم لحكم إمبراطورية مثل الدولة العثمانية..
في النهاية وحتى تكون الأجيال القادمة مطّلعة ويكون حكمها عادلاً على فترة حكمي، يجب أن تعلم أن كل ما يجري اليوم، ومن ضمنه هذه الحرب الكبرى التي نخوضها اليوم، لا تأتي من أحداث فجائية أو جراء فترة حكم محددة مثل فنرة حكمي.. هي تراكمات ونهاية سياق تاريخي معقد امتد عقوداً طويلة، وتمثل ذورة الصراع الذي كنا نحن في الدولة العثمانية نعيشه ونتأثر به، صراع ضخم كاد أكثر من مرة أن يطحننا ويذهب بالدولة..."
قلت في نفسي نعم، وتلاها حرب عالمية ثانية ما كنت لتعلم بها، وأنا لا أملك في الحقيقة عرض شهادات عن دمويته أو ظلمه، كل ما أستطيع فعله نقل كلامه، ومن يرى أن عبد الحميد كان على غير هذه الصورة فليأتي بالبراهين..
وبدأ السؤال التالي يلح في ذهني.. في كل هذه الظروف الدولية المعقدة والحروب المتتالية ونزعات الانفصال والقلاقل في الداخل كيف استطاع إذاً أن يستمر في حكمه كل تلك الفترة..
"الجواب بسيط، وقد يبدو لك غريباً.. منذ أربعين عاماً وأنا أنتظر أن تشتبك الدول الكبرى مع بعضها بعضاً، كان هذا كل أملي.
كان تقديري أن استخدام العثمانيين لفرصة كهذه بتبصر وقتها، كفيل بأن ينقذهم، فيعيدون لدولتهم مكانتها بين مصاف الدول العظمى.
لم تكن لدينا قوة تساعدنا على أن نعيش ونقاوم بأنفسنا قط، إذاً لو حدث تصدع في صفوف أعدائنا المتوحدين من أجل تمزيقنا إلى أجزاء، كان بإمكاننا أن نعود قوة قادرة على ألا تفرط بأي جزء من أجزاء البلاد، ولأصبح من الممكن أن نكون مرة أخرى أصحاب كلمة مسموعة في العالم.
الفرصة العظيمة التي ظللت أربعين عاماً في انتظارها ولّت وأفلتت من يد الدولة العثمانية للأبد".
كانت نبرته عندما قال جملته الأخيرة فيها الكثير من الحسرة والألم .. ثم صمت وأطرق ..
قلتُ له بصوت منخفض وكأنني أهمس ..
نظر إلي وكأنه شعر بأني طرحت السؤال ليكون فيه عزاء له .. وأجاب بصوت خفيض حزين..
"نعم .. طبعاً لا شك في ذلك.. لو لم ندخل الحرب. مع الأسف فإن قرار من يحكم اليوم (جمعية الاتحاد والترقي) ليس في يدهم لأن نفوذ الدول الغربية أصبح كبيراً في دولتنا، وأصحاب القرار اليوم لا يملكون حرية اتخاذه، وبعد إزاحتي عن الحكم جاء أخي السلطان محمد الخامس مجرداً من أي سلطة فعلية ولم يعد القرار قرار السلطان اليوم.. أصبح قرارنا في ألمانيا ولندن وباريس .. لم يعد في الأستانة.."
وما أشبه اليوم بالبارحة، وأين قرارنا نحن اليوم ربما في موسكو وواشنطن، قلت في نفسي .. ولكن هذا السلطان وبحسب كلامه لا يبدو أنه دخل أي حلف من الأحلاف، وهو يتحدث عن انتهاز فرصة وقوع الحرب ليعود ويدفع بلاده إلى المكانة التي يراها فيها.. لقد كان واعياً وعالماً بكل شيء .. كيف إذاً استطاعوا إزاحته عن الحكم وهو الرجل "المستبد" المعروف بقوة مخابراته ومتابعته لكل صغيرة وكبيرة في البلاد..؟
كان وأنا أسأل يهز رأسه وكأنه يستعجلني في إنهاء السؤال ليتكلم ..
"نعم أنت محق، يجب أن نوضح هذه النقطة الهامة...
الحقيقة إن الوصول إلى النهاية لا بد له من بدايات .. ويمكن أن أقول لك إن كل الأمر كان عبارة عن تراكمات، لا تقع مثل هذه الأحداث الكبيرة من العدم، على رأس هذه التراكمات كانت قضية انقسام الجيش، الانقسام الذي بدأ في عهد عمي عبد العزيز، أصبح للضباط رأي يبدونه في رسم سياسة الدولة وهنا كانت بداية النهاية - أتمنى عليك أن تنقل للأجيال القادمة وأن تخبرهم أنه لا نفع من تدخل الجيش بالسياسة ..سيفسد كل شيء.
في تلك الفترة ظهر في الجيش تيار معادٍ للأسرة الحاكمة وطبعاً هناك من كان معها، هذا الانقسام أثّر في أداء الجيش وأضعف قوته.
دائماً الخطأ يأتي متدحرجاً، وهو بدأ من أيام جدي محمود الثاني، لقد قضى على الانكشارية (طائفة عسكرية من المشاة في الدولة العثمانية كان لها نفوذ كبير) ولكنه لم يقضِ على الأسباب التي أفسدت الانكشارية، ليتنا استطعنا إبعاد الجيش عن السياسة.. تدخل الجيش بالسياسة كان سبب الخسارة في حربنا مع روسيا وتحمل كل الآثار الكارثية التي نتجت عن هذه الخسارة.
وانتشر هذا المرض بين أفراد الجيش وخاصة من الجيل الجديد وباتت سياسة الدولة مرهونة بضباط الجيش شيئاً فشيئاً، يريدون أن يقوموا بعمل السياسيين عوضاً عن التفرّغ للدفاع عن الوطن .. نجحوا في أن يسيطروا على البلاد، واتخذوا القرار الخاطئ تلو الآخر وصولاً إلى قرار المشاركة في الحرب الذي كان الضربة القاضية ..
تزامن مشروع تسيس الجيش مع مشروع آخر يهدف إلى إفساد الأمة والمجتمع، فقد عملت الدول الأجنبية بشكل حثيث على إثارة القوميات والرعايا المسيحيين على الدولة من جهة، وقامت هي بالمطالبة بالامتيازات لتأمين حقوق هؤلاء الرعايا من جهة أخرى..
بالطبع، لم يكن هدفهم حماية أحد.. هم لا يهتمون بمصلحة أحد من سكان هذه الأرض لا مسيحين ولا مسلمين.. الهدف كان دفع هؤلاء للمطالبة بحكم ذاتي، ومن ثم العمل على انفصالهم التام وتفتيت الدولة .. هذه كانت خطتهم وأنا أراهم اليوم قد نجحوا في تطبيقها إلى حد كبير.."
قاطعته .. وقلت له..
صمتُّ قليلاً .. واستغللت الفرصة لأطرح عليه سؤالاً حول الماسونية، لأني لم أكن أؤمن أن لهذه "المنظمة" أي دور حقيقي في حياتنا وأعتبرها مجرد خرافة ..
"نعم الماسونية.. يا بني.."
توقف قليلاً وهو ينظر إلى وجهي ولكن كأنه مسافر إلى عالم آخر، كان أول مرة يناديني بكلمة "بني" ولا أعرف إذا كان القصد من وراء استخدامها التحبب أم أنه شلمني مع "أبنائه الشباب السذج" الذين أضاعوا البلاد والذين كان يتكلم عنهم طوال اللقاء ..
".. لا بد أن يفضح التاريخ ماهية الذين سموا أنفسهم بـتركيا الفتاة (الاتحاد والترقي لاحقاً) وعن ماسونيتهم.. لقد كنت أعرف من تحقيقاتي أنهم في البداية كانوا كلهم تقريباً من الماسون ويرتبطون بالمحفل الماسوني الإنجليزي، ويتلقون معونة مادية منه.
نعم استغل الإنكليز غفلة أعضاء تركيا الفتاة عن طريق المحافل، وبدأ الألمان يفعلون هذا مع فريق آخر من أعضاء الجمعية عن طريق المحافل الماسونية أيضاً، وبهذا سيطر الألمان على تشكيل "تركيا الفتاة" في (سلانيك)، وسيطر الإنجليز على تشكيلها في (مناستر).
وكلا الفريقين كانا يعملان على قيام انقلاب للاستيلاء على الدولة، ونجح بالفعل اتحاديو (سلانيك) الواقعون تحت تأثير المحافل الماسونية الألمانية بإسقاطي عن العرش وأدخلوا الدولة في الحرب حليفة للألمان...
إذا كان لديك أي شك في هذا الكلام فقط ابحث اليوم عن عدد المحافل التي أُسست واُفتتحت منذ أن انتهى حكمي وأنت ستتأكد أن الماسونية حقيقة وليست وهماً أو أسطورة، الماسونية ومن ورائها اليهود والدول الأجنبية كان لها دور أساس في بث أفكار التمرد وتقويض الحكم الإسلامي في الدولة العثمانية.."
ويجب الإشارة إلى أن "سلانيك" و"مناستر" ولايات عثمانية أصبحت اليوم مقسمة بين دول البلقان واليونان، وما أعرفه ويأتي في سياق ما يقول السلطان، أنه بالفعل انتشرت المحافل الماسونية بشكل كبير بعد سقوط حكمه في تركيا وفي البلاد العربية وبقي هذا الحال حتى نهاية الثلاثينيات من القرن التاسع عشر..
نعم لقد كنت يقظاً في كل لحظة، لكنني لم أستطع منع كل هذا، كنت بمفردي وكان كل العالم عدواً لي، لم تكن طبيعتي وظروفي تساعدني إلا بهذا القدر.
وعندما قرر هؤلاء الشباب إزاحتي بالسلاح كنت أستطيع أن أمنعهم أيضاً بالسلاح، وكان يمكنني أن أسحق التمرد بكل سهولة، ولكن رأيت أن هناك من في الأمة لم يعد يثق بي، وكانت قناعتي أنه لا يجب لأجل شخص واحد أن يذهب ألف شخص، وأن يضرب الأخ أخاه، ويجب جمع الأسلحة من العسكر وعدم إطلاق النيران، ولا أريد أن تنزف أنف رجل واحد، وليفعل المتمردون ما يشاؤون.
أنا أنظر للأمر هكذا، لقد أديت واجبي، وسعيت وراء الصلح، وحرصت ألا أؤذي الأهالي، عارضت سفك الدماء في كل مكان، ولكن عبثاً ما فعلته، بلادي أضحت ضحية لغفلة شباب تركيا الفتاة، بلاد عظيمة فاتحة للعالم تمتد عبر قارات ثلاث، أصبحت في مدى عشر سنوات حفنة من تراب.. إنها لغفلة لا يمكن الصفح عنها".
"لا عليك .. أعرف أنهم قالوا في حقي أكثر من ذلك، لقد قاموا بكثير من حملات التشويه ضدي، ولكن تأكد، وعلى عكس ما يقال، أنا سلطان رحيم، وكنت على الدوام أعتقد أن هؤلاء الذين لا يحملون الرحمة في روحهم لا يمكن أن يكونوا حكّاماً جيدين.
ماذا تريد مثالاً أكثر من أنه عندما حكمت المحكمة على قتلة عمي السلطان عبد العزيز بالإعدام، رحمت حياة المتهمين، ولم ينفذ حكم الإعدام في واحد منهم. وتذكّر ما قلت لك قبلاً خلال هذا اللقاء، لم يكن في عهدي سوى حكم إعدام واحد.. حاولت دائماً أن أكون عادلاً رحيماً، ومن يدعي غير ذلك فليأتنا بالبراهين..
حتى من أساء إلي شخصياً سامحته في كثير من الأحيان، وطالما أدركت أن المقام الذي احتلّهُ مقام يستلزم الارتفاع فوق مستوى الشعور الشخصي، وهكذا كنت دائماً أصفح، دون أن تطرف عيني، عن ذنوب هؤلاء الذين ألمس منهم فائدة للبلاد، لم أخلط أبداً أحاسيسي الشخصية بأمور الدولة".
حاول الإنكليز في فترة سابقة أن يحاربوني ويسحبون الخلافة من يدي ونقلها إلى العرب بعد رفضي إعطاء اليهود أرضاً في فلسطين وقد أفشلت هذه المحاولة.
وأذكر قبل ذلك بوقت طويل أن معلومات وصلتني خلال الحرب الروسية أن بعض زعامات العرب اجتمعوا في الشام ليختاروا ملكاً عليهم، وليقيموا مملكة مستقلة، ولما بحثت في الموضوع وجدت أن هذا التحرك كان بسبب خشية هؤلاء من سقوط أرضهم تحت سيطرة الروس في حال هزمت الدولة العثمانية.
وقاموا بالتباحث في تولية أحد الزعامات هناك ملكاً عليهم ليقفوا في وجه السيطرة الأجنبية، وعندما انتهت الحرب انتهى هذا المشروع.."
أثار فضولي هذا الكلام كثيراً فهو يتكلم عن حركة مبكرة غير معلومة بالنسبة لنا قامت في العام 1877 وأردت الحصول على تفاصيل أكثر …
"هو الأمير عبد القادر الجزائري..."
ويا لها من معلومة مثيرة قد تغيير كثيراً في كتابة تاريخنا المعاصر، عبد القادر الجزائري في العام 1877 ومحاولة لإقامة حكم عربي مستقل..!!؟
قلت لنفسي على ما يبدو أمامي كثير من العمل واللقاءات القادمة ولا أعلم إلى أين ستقودني هذه المغامرة .. تابعت بسؤال أخير ..
توقف السلطان عن الحديث ونهض من على كرسيه فنهضت .. وقال لي:
"يا بني أعتقد أني قلت لك كل ما يجب علي قوله، انقل ما ذكرته بأمانة للأجيال القادمة، لقد ظلمني كتّاب هذا الزمان، وحاولوا مراراً وتكراراً تشويه صورتي، أنا لا أريد أن تتبنى كلامي بدون تدقيق وتحقيق، ولكنك لن تجد بعد بحثك أكثر مما قلت لك.. كنت على الدوام أعتقد أن هناك من سيكتب عني وينصفني في يوم من الأيام.. وربما لا يكون من يقوم بهذا الدور عثمانياً أو تركياً .. أنا رجل وهبت حياتي لشعبي ورعيتي وحاولت عمل كل ما أستطيع للحفاظ على الدولة.. ربما لم أنجح في ذلك.. ولكن يجب أن يعلم من يقرأ سيرتي أني لم أدخر جهداً، ولم أوفر عملاً، للحفاظ على دولتي موحدة، وصون مقام خليفة المسلمين".
سار أمامي إلى باب المبنى، وكان بانتظارنا مصطفى، استدرت وأنا خارج لأواجه السلطان للمرة الأخيرة، انحنيت، وانسحبت مودعاً، ورافقني أحد الحراس إلى الباب الخارجي لأستقل المركب إلى الضفة الأخرى من اسطنبول، شغّلت التطبيق، ووضعت كفي على الشاشة، وعدت سالماً إلى غرفتي في مرسين..
نبش القبور
رواية تاريخية تفاعلية مستندة الى احداث تاريخية.
بقلم نضال معلوف
http://www.facebook.com/nedal.malouf
تابع تفاصيل مثيرة اخرى حول اللقاء على صفحة #نبش_القبور على فيس بوك
http://www.facebook.com/BygoneInterviews